اطبع هذه الصفحة


فلسطين
بعد ستين عاماً أو بعد مائة وستين عاماً أو أكثر من ذلك

الدكتور عدنان علي رضا محمد النحوي


بسم الله الرحمن الرحيم
 

لا أظنّ أن التاريخ البشري شهد قضية مثل قضية فلسطين ، وما تحمل من ظلم وعدوان كبير ، واستكبار في الأرض من المجرمين ، وفساد في الأرض واسع ، وما تحمل في الوقت نفسه من هوان المسلمين وتخاذلهم وتفرّقهم :

أمـة الحقِّ ! ما دهاك فأصبحـتِ --- شظـايـا تنـاثـرت في النجـادِ
كُلّما رُمْتِ مُلْتقىً كنـتِ في السـا --- حـةِ أَوهى من حفنـةٍ من رمـادِ

*** ***

يا ديـار الإسـلام ! مالك أَصْبحـ --- ـتِ شتـات الأهـواء والأنجـادِ
كيف مُزِّقْتِ ؟! كنتِ عهداً مع اللـ --- ــه وجمع القلـوب والأعضـاء
كُنْتِ عزْمـاً لنُصْـرَة الله ساحـاً --- وربـى مـن مـلاحـمٍ وجهـادِ
كُنْـتِ ظـلاَّ مـن الهجيـر نديّـاً --- ومــلاذاً لـخـائـفٍ وشِـرادِ
كُنْـتِ أمـنـاً للخائفيـن وعونـاً --- لـضـعـافٍ وعـزَّةً لـجـوادِ
كُنْتِ نـوراً على البسيطـةِ مُمْتـ --- ـدّاً وهديـاً مع الليالـي الشِّـدادِ
كيف ضاعت منكِ الأماني فأصبحـ --- ــتِ غُثـاءَ الهـوانِ والأحقـادِ
أطْبَـقَ المجرمـون فـوْقَ ربانـا --- واستباحـوا الحِمى وساحَ البـلادِ
 

ليست القضيةُ كبرَ الأعداء وشديد عدوانهم وإجرامهم فحسب ، ولكنها في الدرجة الأولى هواننا نحن المسلمين وتراجعنا عن رسالة الإسلام ، وعدم وفائنا بعهدنا مع الله ، وهو عهد مفصّلٌ بيِّن في الكتاب والسنة ، مؤكَّد مع جميع الأنبياء والمرسلين والمؤمنين المسلمين الذين اتَّبعوهم على دين واحد هو دين الله ، دين الإسلام .

وأكثرنا في شعاراتنا لوم الأعداء ولومهم ومجابهتم حقٌ ، ولكننا لم ننظر في أنفسنا ، كأننا نريد من أعداء الله أن يُشْفِقُوا علينا ونحن متفلّتون ، غير مستمسكين بدين الله ! ولم نعد كالذين وصفهم الله فقال عنهم :
( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) [ الأعراف :170]

شغلنا أنفسنا باتهام الأعداء ومثالبهم ، ولم نلتفت لأنفسنا وأخطائنا وانحرافاتنا ، ولم نبذل الجهد لإعداد القوّة التي تحمى الديار ، ولا الجهد لبناء الأُمة المسلمة الواحدة صفاً كالبنيان المرصوص .

بعد هذا التاريخ الطويل نسبياً لقضية فلسطين لا يُعقل أن يكون الحديث استعراض الأحداث ، فقد كُتِبَ عنها الكثير الكثير . ولكننا نريد أن نخرج بالفهم السليم والوعي الصحيح للأحداث ، لنحدّد الصواب والخطأ على ميزان حقٍّ ، ونرسم الدرب والأهداف على صراط مستقيم .

وأول ما نذكر به أنفسنا والدرس الذي يجب أن نتعلمه هو أن مع وجوب دراسة الأعداء ومعرفة أساليبهم وجرائمهم والتنديد بها ، يجب في الوقت نفسه أن لا ننزّه أنفسنا عن الخطأ ، ويجب أن ننصح أنفسنا بصدق وصراحة وأمانة :

مالـي ألـوم عدوّي كلما نزلـتْ *** بي المصائـب أو أرميـه بالتُّهـمُ
وأدّعـي أبداً أني البـريء ومـا *** حملتُ في النفس إلا سقطة اللَّمَـمِ
أنـا الملـومُ فعهـدُ الله أحملُـهُ *** وليـس يحمله غيري من الأمـمِ


ويجب أن نتذكر بأن كل ما يجري في هذا الكون يمضي على قضاء من الله نافذ وقدر غالب وحكمة بالغة وسنن لله ماضية ، وعدل قائم لا ظلم معه أبداً .
ولنستمع إلى قوله سبحانه وتعالى :
( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ )  [ الشورى :30]
 فأعتقد أن الخلل فينا نحن المسلمين ، وأنه خلل ظاهر للعيان ، فهل نتوب ونؤوب ونعود إلى الله صادقين !

في مسيرتنا خلال هذه السنوات برزت مظاهر واضحة نوجزها بما يلي :
1. غلبة الضجيج والشعارات والمظاهرات والارتجال ، وغياب الرَّوِيَّة والتفكير ، وغياب التناصح .
2. غياب الدراسات المنهجيّة العميقة التي تحمل الأهداف وتحدّدها بصورة واضحة على أن تكون الأهداف ربانيّة ، وتكون الدراسات إيمانيّة ملتزمة بالكتاب والسنة ، إلا القليل ! .
3. على أساس من الروية والتفكير ، وصدق التناصح ، والدراسات المنهجية الإيمانية ، والأهداف الربانية ، كان يجبُ أن توضع خُطّة العمل والمسيرة لتحقيق الأهداف الربانيّة ، والتي من أولها وأهمها بناء الأمة المسلمة الواحدة صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص ، الأمة التي تتابع المسيرة لتحقيق باقي الأهداف عبادة لله وطاعة له .

أعداؤنا لا يعملون ارتجالاً ، وإنما يضعون خطة تحدّد لهم الأهداف الإجرامية والوسائل والأساليب والمراحل على ضوء الإِمكانات التي يطورونها والقوى التي يزيدونها . ولنأخذ مثلاً عملياً : فقد كان عدد اليهود في فلسطين سنة 1944م بحدود 528.702 ، وكان عدد المسلمين في الوقت نفسه في فلسطين 1.061.277 .
واليوم أقام اليهود لهم دولة أصبح عدد سكانها سبعة ملايين نسمة من اليهود والعرب . والعرب يبلغ عددهم 1.13 مليون نسمة .

كيف استطاع اليهود بناء دولتهم بالمكر والخداع ، وبناء القوة ، وجمع الأنصار على مستوى دولي خلال فترة ليست بالقصيرة . وكوّنوا لهم صفّاً من القوى الدولية لا يتنازل عن دولتهم ، صفاً متراصّاً ! كيف أمكن لهم أن يقيموا دولتهم وسط بحر محيط من المسلمين ؟ أين كان المسلمون ؟!
وفي المقابل تمزّق المسلمون شيعاً وأحزاباً ، وأصبحت قضية فلسطين تنتقل من مرحلة إلى مرحلة : من قضية إِسلامية ، إِلى قضيّة عربيّة عُزِل عنها العالم الإسلامي ، إلى قضية فلسطينية ، عُزِلَ عنها العرب والمسلمون . ونرى هنا المفارقة الكبيرة : اليهود يجمعون حشودهم وصفوفهم وقواهم والقوى المؤيدة لهم ، ونحن نعزل قوانا واحدة واحدة ، تحت شعارات مختلفة .

أُولئك لم يلجـؤوا إِلى الله ، ولم يضعوا نهجهم إلا على أسس شيطانيّة ماديّة ، ولكنهم على هذا الأساس فكّروا ودرسوا وخططوا !
ونحن لم نلجأ إلى الله ، ولم نضع نهجاً ولا خُطّةً ، ولا جمعنا صفّاً ... ! فكيف يأتي النصر ، وكيف نسترجع الديار ونحررها ؟! والله قد فتح السموات والأرض لكل من يريد أن يعمل !
ربما ظن بعضنا أنه لو لجأ إلى هذه الدولة أو تلك ، واستمدّ منها السلاح والمال ، تحت نفس الأُسلوب : ضجيج الشعارات وغياب النهج والخطة ، والانتقال من فتنة إلى فتنة ، وانقسام الصفوف ، وزيادة انقسامها ، معتمدين على هذه الدولة أو تلك ، التي لم تمدّهم بصدق الإيمان وحسن اللجوء إلى الله ، ولم تمدّهم بخطة أو نهج إلا لإثارة الفتنة هنا وهناك ، ربما ظنّوا أن هذا قد يقودهم إلى النصر ! كـلا ! ربَّما يوفّر لهم ساحات إعلامية يظهرون بها ، ومتعاً يستمتعون بها ، وإن كلّ ذلك إلا مرحلة عابرة إلى حسرة طويلة .
لا خلاف أن على المسلمين أن يستيقظوا ويفيقوا من غفوتهم وسباتهم ، وأن لا يُخْدَعوا بالشعارات التي تُخدّر ! وأن يعرفوا مسؤولياتهم التي سيحاسَبون عليها بين يـدي الله ، ومسؤولياتهم التي كلّفهم الله بها فتخلّوا عنها ، وتفرَّقوا شيعاً وأحزاباً ، كل حزب بما لديه فرحون ، والله يقول :
( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [ آل عمران :105]

والقضية الأخرى التي يجب أن نعيها اليوم ، أن القضيّة لم تعد قضيّة فلسطين ، إنها أصبحت قضية العالم الإسلامي كله . إنها كانت كذلك منذ البداية . إن المجرمين في الأرض أدركوا بعد تجربة طويلة لهم مع الإسلام ، أنه لا يمكن التفاهم مع هذا الدين لتأمين أطماعهم وعدوانهم وظلمهم . أدركوا أنه دين حق لا يقبل المساومة على الحق . فلم يعد أمامهم من مجال كي يُؤَمِّنُوا إِشباع أطماعهم ونهب خيرات الشعوب ، بعد أن سدَّ الإسلام أمامهم كل سبل العدوان والظلم والنهب ، إلا أن يُزيحوا الإسلام من طريقهم ليخلوَ لهم طريق الظلم والنهب والعدوان والإفساد في الأرض . إنهم يعبدون أطماعهم الظالمة الإجرامية ، ولا يؤمنون بدين إلا أن يستغلُّوه لتوفير أطماعهم التي يعبدونها من دون الله .

فجمعوا كلّ تجاربهم مع الإسلام ابتداء من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى معركة الأحزاب وسائر معـارك الإسلام في تاريخه الطويل ، والحروب الصليبية وغيرها ، فوضعوا على أساس ذلك خطتهم المفصّلة ونهجهم الطويل ، لتدمير العالم الإسلامي ، لِيَشُقُّوا طريقهم إلى كل الخيرات والثروات والكنوز . وما تركوا وسيلة من وسائل الإفساد والفتنة والانحرافات الفكرية ، وتوهين اللغة العربية ، وإبعاد المسلمين عن الكتاب والسنة ، وغرس الفرقة بينهم ، ونشر الحزبية لتمزّق الأمة أو تزيد في تمزيقها ما تركوا من ذلك شيئاً إلا فعلوه بتعاون تام بينهم وتنسيق كامل .

ففُتِح العالم الإسلامي أمامهم وفتحت القلوب ، فضربوا ضربتهم الكبيرة بإنهاء الخلافة الإسلامية واحتلال معظم العالم الإسلامي من شمال أفريقيا إلى بلاد الشام والعراق إلى الهند وباكستان والسودان وغيرها ، وتمزيقها إرباً إرباً .

وكانت إقامة دولة لليهود في فلسطين جزءاً رئيساً في هذا المخطط الإجرامي الكبير ، لتكون دولة اليهود قاعدة رئيسة في عدوانهم المستمر على العالم الإسلامي . ولذلك نجد أن جميع الدول الغربية أمريكا وأوروبا وروسيا واليابان والصين واستراليا وغيرها تدعم دولة اليهود دعماً مكشوفاً معلناً ، دعماً غير عاديٍّ ، يُمثِّل دعم صفّ متماسك متساند في دعم دولة اليهود ، صورة فريدة لا تجد لها مثيلاً في التاريخ أبدا .

هذه حقيقة رئيسة يجب أن ندركها بعد هذه السنين الطويلة . وهذه الدولة اليهودية ، هي القاعدة الرئيسة للتخطيط والانطلاق للمضي في تدمير العالم الإسلامي شيئاً فشيئاً . ونرى اليوم كيف أن قاعدة التدمير ماضية تتسع وتمتدّ من بلد إلى بلد في نجاح متقطع النظير . ونرى كذلك أن بعض أبناء الإسلام أنفسهم أصبحوا عنصراً رئيساً في تنفيذ هذه المخططات الإجرامية ، ويتولّى قَتْلَ إخوانه وأبناء شعبه . ونرى كذلك كيف أن بعض الناس أصبحوا يُشترون بثمن بخس ، وبعمالة قذرة مكشوفة دون حياء .

انظر ماذا يجري في السودان والصومال وتشاد وفلسطين ولبنان وسوريا واليمن وأفغانستان وباكستان والعـراق وسائر أنحاء العالم الإسلامي : صراع ممتد ، ومجازر فوارة ، وفواجع ونكبات ، آخذة بالاتساع .

والحقيقة الأخرى التي تنكشف لنا أن خيوط القضية ، قضية فلسطين ، كلها بيد الدول الكبرى التي تحرّك القوى العاملة كما تشاء ، بالاستدراج أو الإرهاب أو الإقناع ، أو أي وسيلة أخرى . وقد يبدو لنا موقف يضجُّ بالوطنية والشعارات المدوّية ، وفي حقيقة الأمر يكون الموقف نتيجة توجيه قوى أخرى هي التي تمدّ هذا الموقف بالمال والإعلام والدعم والتأييد ، مما يزيد الأمة تمزيقاً ، كل فريق ينعق بما يُملى عليه ، متخفياً تحت شعار الوطنية أو الديمقراطية أو العلمانية ، أو المصلحة العامة . أَّما الإسلام ، حتى من حيث الشعار ، بدأ يختفي شيئاً فشيئاً ، حتى صدق فيهم قوله سبحانه وتعالى :
       ( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )  [المؤمنون :53]
       والحقيقة الأخرى أنه لم يعد بالإمكان عزل قضية فلسطين عن سائر قضايا العالم الإسلامي في ذلّه وهوانه ، ومشكلاته وصراعه ، وتمزّقه وهوانه ، فبالنسبة للمجرمين هي قضية واحدة ، أما بالنسبة للمسلمين ، فقد شغل كل فريقٍ بمشكلته مما أوهن الجميع !
       والحقيقة الأخرى كذلك أنه عمَّ في العالم الإسلامي النزعات الإقليمية والعائلية والقومية والحزبية ، وجميع أشكال العصبيات الجاهلية التي أصبحت هي التي توجّه الأدب والكلمة والسياسة والاقتصاد ، والتربية والتعليم .

لقد مرّت قضية فلسطين خلال هذه السنوات الطويلة : الستين عاماً أو الأربعة وتسعين عاماً ، بمراحل متعدّدة ، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن ، وَهنٌ عام طاغ بين المسلمين ، وتفرّق جاهلي مسيطر أهْلَكَ العقول والنفوس ، والصراع ممتدٌّ بين الفلسطينيين أنفسهم ، الصراع الذي لا يجد فرصة لقاء أو تفاهم ، لأن كل فريق اتخذ أسساً وقواعد ثابتة لديه تختلف عما لدى الآخر ، وتبادل الاتهامات والسباب أبعد كل فرصة للتّفاهم .

وإننا نلمس التناقض الشديد في التصريحات والمواقف . فحين يصدر في وسائل الإعلام شدة الاتهامات بالخيانة ، نسمع في الوقت نفسه الدعوة إلى الوحدة الوطنية والتلاقي . والأعجب من ذلك أن الجميع يتصلون بأمريكا وأوروبا وغيرهما للتفاهم والتفاوض سرّاً ، وآخـرون يجرون ذلك علناً ونهجاً معلناً !

ولكن الضربة الشديدة إلى قضية فلسطين هو التنازل العمليُّ والحقيقيّ ، بغضّ النظر عن الشعارات الإعلامية ، مثل تحرير فلسطين كلها ، ويتستَّر بعضهم في عجزهم وفشلهم في تحقيق شعار التحرير الذي انطلقوا به جميعاً ، خلف ادعاء الهدنة الطويلة المدى ، أسلوب لا يصلح في ميدان السياسة الدولية ، أُسلوب مكشوف يعلن العجز والاستسلام ويخدم الأَعداء ! كأنما كان شعار تحرير فلسطين كلها من الشمال إلى الجنوب ، ومن الشرق إلى الغرب شعاراً يهدف إلى جمع الأنصار والمؤيّدين في سوق التنافس والمزايدات على ذلك . وكأن العمليات الفدائية التي دوّى بها الإعلام كانت كذلك وسيلة لجمع الأنصار ، وإثبات الوجود في الساحة ، فمعظم العمليات لم تكن قـادرة على تحرير فلسطين ولا على القضاء على إسرائيل ، ولا على إلقائها في البحر ! لم تكن هذه كلها إلا مزايداتٍ وتنافساً على الدنيا ، لا يصاحبها نهجٌ واضح عملي ، ولا خطّة مدروسة .

ولا نعتب على هؤلاء وهؤلاء الذين مضوا دون نهج ولا خطة فحسب ، ولكننا نعتب ونأسى على واقع الأمة كلها ، الأمة التي لم يظهر منها أحد يخاطب هـؤلاء وهـؤلاء ويسألهـم : أين نهجكم وخطتكـم لتحقيق الأهداف التي تُعلنونها ؟؟؟!!!

فلننظر إلى نتائج فترة قصيرة ، فترة الانتفاضة الأولى بكل شعاراتها ، وفترة الانتفاضة الثانية بكل دويّها ، فماذا كان الجنى ؟! انتقلت دولة اليهود خلال هذه المرحلة من مساحة 56% من أرض فلسطين حسب مقررات هيئة الأمم المتحدة إلى ما يقارب اليوم من 90% من أرض فلسطين اليوم ! لقد انتقلت هذه النقلة الكبيرة بالتدبير والنهج والتخطيط ، ونحن مع دويّ شعاراتنا رجعنا إِلى الوراء !

بعد ستين عاماً منذ سنة 1948م ، نرى أن جميع الشعارات التي أُعلنتْ لم تتحقّقْ ، وأن اليهود حقّقوا الكثير الكثير من أهدافهم المعلنة والمخفيّة ! ومن الخطأ الكبير أن نقول بعد " ستين عاماً " ! فقضية فلسطين كانت بدايتها قبل ذلك بكثير . قد لا نستطيع تحديد نقطة البداية بالدقة ، ولكنه من المؤكد أنها بدأت على الأقلّ مع ظهور أربع حركات أو إشارات :

أولاً : اهتمام كثير من الدول الأوروبية بالحركة الصهيونية وعودة اليهود إلى فلسطين ، مثل انكلترا وفرنسا وغيرهما . فبريطانيا من أقدم الدول التي أبدت اهتماماً واضحاً ونشاطاً جاداً في هذا الاتجاه . فنجد " بالمرستون " يبذل مساعيه لدى السلطان العثماني لإعـادة اليهود إلى فلسطين ، وذلك سنة 1840م . ولما فشل أصدر تعليماته لقناصل انكلترا في الدولة العثمانية لحماية اليهود . ثم توالت الدول الأخرى . وكذلك وعد نابليون بونابرت اليهود بإعادتهم إلى القدس وبناء هيكلهم ([1]) .
ثانياً : قيام المؤسسات والشركات الصهيونية : الاتحاد الإسرائيلي العالمي ، الاتحاد اليهودي الإنجليزي ، جمعية محبيّ صهيون ، جمعية الاستعمار اليهودي ، وهذه كلها في القرن التاسع عشر ([2]) .
ثالثاً : بناء أول مستعمرة لليهود في فلسطين في غفلة كاملة من المسلمين : مستعمرة " بتاح تكفا " سنة 1878م ([3]) .
رابعاً : مؤتمر بال 1897م ، وقيام الوكالة اليهودية لتشرف على حركة الاستيطان في فلسطـين . ويدعـم ذلك كله أغنياء العالم من اليهود وما أكثرهم ([4]) .

الذي يهمنا من هذا الموجز أن اليهود كانوا يعملون على نهج وخطة لا ارتجال فيها ، ويخوضون في الوقت نفسه ميادين : الاقتصاد ، الإعلام ، السياسة والعلاقات الدولية ، بناء القوة العسكرية الحقيقية .

إننا حين يعلن بعضنا اليوم في وسائل الإعلام : فلسطين بعد ستين عاماً ، يغفلون فترة واسعة من تاريخ قضية فلسطين . ويصحب هذا الإعلان : " فلسطين بعد ستين عاماً " و " المجازر مازالت ممتدة " ! والأولى أن يقول إِنه بعد مضي أكثر من مائة وستين عاماً واليهود يعملون ويبذلون ، والمسلمون في غفوة كبيرة ، أو في تنافس على الدنيـا وزخرفها ، أو في صراعات بينهم أفقدتهم كثيراً من قواهم .

فعسى أن يعود المسلمون اليوم ، ليستفيدوا من مراجعة مسيرة طويلة فيفكروا ويؤمنوا وينهضـوا وينطلقوا إلى العمل المنهجي والتخطيط الإيماني العملي ، عسى أن يرزقنا الله النصر إن عَلِم أن في قلوبنا الصدق .

كان اليهود وأعوانهم هدفٌ محدّد اجتمعوا عليه صفّاً واحداً ، وكان لهم خطتهم المدروسة ، ولم يلجؤوا إلى وعود الشعارات ، ونحن تفرّقنا أهدافاً وشعارات وأهواء ، لم تجمعنا قضية فلسطين .

وما بقي المسلمون ممزّقين على غير صدق مع الله ، فلا أظنّ أن الله يهبهم النصر . فلله سنن ثابتة في هذه الحياة .

إذا لـم تقم في الأرض أمة أحمـد *** فكل الذي يجري في الساح ضائـع


 وحسبنا في هذه اللحظات أن نثير هذه النقاط التي نراها رئيسة في قضية فلسطين ! مع أن هنالك قضايا كثيرة تستحق الوقوف عندها ، وتأخذ مجلدات ومجلدات لا مجال لها في هذه العجالة .
 
الموقع : www.alnahwi.com
البريد الإلكتروني :info@alnahwi.com
 

------------------------------------
(1) تراجع الكتب التالية للمؤلف : ملحمة فلسطين ، على أبواب القدس ، ملحمة الأقصى ، ملحمة الإسلام من فلسطين ، فلسطين بين المنهاج الرباني والواقع ، ملحمة التاريخ .
(2) المرجع السابق .
(3) المرجع السابق .
(4) المرجع السابق .

 

فلسطين والحل
  • مقالات ورسائل
  • حوارات ولقاءات
  • رثاء الشيخ
  • الصفحة الرئيسية
  • فلسطين والحل