اطبع هذه الصفحة


مع إسرائيل "حتى النهاية المرة"

أحمد بن راشد بن سعيّد


بسم الله الرحمن الرحيم

لم يدر بخلد رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، أن يبادر عدد من قادة الدول الغربية إلى زيارة القدس قادمين من شرم الشيخ بعيد إعلان حكومته وقف إطلاق النار من جانب واحد، ويؤكدوا وقوفهم غير المشروط مع الدولة الصهيونية ضد "إرهاب" المقاومة الفلسطينية.
القادة، وهم: رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون، والرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني، ورئيس الوزراء الأسباني خوسيه لويس ساباتيرو، ورئيس الوزراء التشيكي ميريك توبولانيك، عرضوا-بحسب صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية- "قوات ومساعدة تقنية من أجل منع حماس من تهريب الأسلحة والإرهابيين إلى قطاع غزة، بالتعاون مع مصر والولايات المتحدة".

عبر أولمرت لضيوفه الأوروبيين عن "تعاطفه" مع الضحايا الفلسطينيين الذين طحنت عظامهم آلته العسكرية، ومزقت لحومهم قنابله الفسفورية قائلاً: "لم نكن نريد إيذاءهم ولا إيذاء أطفالهم..إنهم ضحايا حماس". لم ينتقد قائد أوروبي واحد- بحسب هآرتس- عمليات القتل الإسرائيلية.

مشهد آخر تستعرضه الصحيفة هو تسابق القادة الغربيين في مؤتمر صحافي إلى تأكيد التزامهم ببقاء إسرائيل، وكأنها مهددة فعلاً بالفناء. ساركوزي مثلاً تعهد بأن "الاتحاد الأوروبي لن يؤذي أبداً أمن إسرائيل"، وأن بلاده مستعدة لنشر مراقبين وتوفير مساعدة تقنية للبحث عن أنفاق التهريب، ولم ينس أن يطالب حماس بإطلاق الأسير الإسرائيلي جلعاد شاليت. المستشارة ميركل قالت من جانبها إن لإسرائيل الحق في أن تعيش بسلام وليس تحت التهديد، وإن "تهريب" السلاح إلى غزة يجب منعه. رئيس الوزراء البريطاني طالب حماس بوقف إطلاق الصواريخ، مبدياً استعداد حكومته لوقف "تهريب" السلاح. أما رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني، فأعرب عن فخره بأنه هو من وضع حماس على قائمة الاتحاد الأوروبي للمنظمات الإرهابية، وأنه يسعى حثيثاً إلى ضم إسرائيل إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، كما أبدى استعداده لتوفير قوات عسكرية لمكافحة "التهريب" قائلاً: "عندما سمعت عن هجوم صاروخي على إسرائيل، شعرت أن ذلك خطر على إيطاليا، وعلى الغرب كله". (هآرتس، 20 كانون الثاني/ يناير 2009).

تناول القادة الأوروبيون العشاء على مائدة أولمرت، وضحكوا طويلاً، وبحسب الصحافي البريطاني روبرت فيسك، فقد كان أولمرت يقهقه بصخب، فيما كان برلسكوني يضع ذراعيه خلف كتفيه ويشاركه الضحك. أما ساركوزي فاكتفى بابتسامة بلهاء، بينما ظلت ميركل واجمة، ولم تبتسم ألمانيا، بحسب تعبير فيسك. وهكذا رقص ملوك أوروبا على أشلاء غزة وتبادلوا الأنخاب، فيما كان الفلسطينيون يبكون القتلى ويتفقدون الركام (الإندبندنت، 20 كانون الثاني/ يناير 2009).

كانت الحرب الإسرائيلية على غزة همجية بكل المقاييس، وربما غير مسبوقة في عنفها ودمويتها، وأعادت إلى الذاكرة مشاهد حصار سراييفو ووحشية الصرب في حروب البلقان، وكأن إسرائيل تخوض بالفعل معركة بقاء لا معركة لمنع إطلاق صواريخ بدائية الصنع. الواقع أن هاجس الأمن يسيطر على التفكير الصهيوني منذ نشأة إسرائيل، ويظهر هذا الهاجس على السطح في أية لحظة تستشعر فيها القيادات الإسرائيلية تنامي روح المقاومة في أوساط المجتمع الفلسطيني المقموع والمهان.

الأوربيون والأمريكيون يشاركون الإسرائيليين قلقهم، والذين يستميتون على تسوية سلمية مع إسرائيل لا يفهمون أن التسوية تمثل لها نهاية مشروعها القائم على التوسع والتخلص من أصحاب الأرض الأصليين سواء بقتلهم أو نفيهم أو حشرهم في "غيتوهات" مقطعة الأوصال وقابلة للموت. جذور العنف الإسرائيلي، -كما يشير الكاتب الكندي- (جاسن كونين) لا تعود إلى قوانين موضوعة أو سياسيين متطرفين، بل إلى الأصول الإيديولوجية للدولة ذاتها؛ إذ إن "الأبارتايد والعنصرية هما كل ما تعنيه الصهيونية وإسرائيل بوصفها امتداداً لها". (زي ماغ، 19 آب/ أغسطس 2008). و(ديفيد بن غوريون) رئيس أول حكومة إسرائيلية قال في عام 1956: "لو كنت زعيماً عربياً لما وقعت معاهدة سلام مع إسرائيل. طبيعي. لقد أخذنا بلادهم" (ميديا مونيتورز نت، 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2002). أما (ليا رابين) أرملة رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين فقالت مرة: "نحن استخدمنا الإرهاب لتأسيس دولتنا. لماذا علينا أن نتوقع أن يكون الفلسطينيون مختلفين؟" (رويترز، 11 أيلول/ سبتمبر 1997). وزير الدفاع (إيهود باراك) أخبر شبكة (سي. إن. إن) أنه لو كان فلسطينياً لانضم إلى "منظمة إرهابية" (25 حزيران/ يونيو 2003).

لا معنى للحديث عن أخلاق الحروب والقانون الدولي؛ لأن إسرائيل تدرك أنها وُلدت على أنقاض شعب آخر، وأن وجود هذا الشعب أو بقاياه يشكل خطراً ماثلاً على "أمنها". رئيس وزراء إسرائيل الأسبق (موشي شاريت) علق على مذبحة كفر قاسم التي استشهد فيها (49) فلسطينياً عام 1956 بالقول: "لا توجد لدينا مقاربة أخلاقية لمشكلات أخلاقية، بل مقاربة براغماتية لمشكلات أخلاقية.. يوماً ما قتل جنود إسرائيليون عدداً من العرب بدوافع من الانتقام الأعمى، ولم تستخلص أي نتيجة من ذلك، لم تُخفض مرتبة أحد، ولم يُبعد أحد من الحكم. ثم كانت كفر قاسم...أولئك المسؤولون لم يستخلصوا أي نتيجة. لكن هذا لا يعني أن الرأي العام والجيش والشرطة لم يصلوا إلى استنتاج، إن استنتاجهم هو أن الدم العربي يمكن أن يُسفك بحرية. ثم أتى العفو عن مرتكبي "كفر قاسم"، وبعض الاستنتاجات يمكن استخلاصها مرة أخرى....كل ذلك يجب أن يجعل الدولة الإسرائيلية تبدو في عيون العالم دولة متوحشة لا تعترف بمبادئ العدالة..". (Rokach ،L. Israel's Sacred Terrorism ، 1986 ).

مرة تلو مرة تتوحش إسرائيل في عدوانها الذي لم يكن يوماً بحاجة إلى مبررات الصواريخ و"الإرهاب". لكن ربما كانت ذريعة "الدفاع عن النفس" مفهومة إلى حد ما، بالنظر إلى أنها تتناغم مع هاجس الأمن الذي تعيش إسرائيل أسيرة له، أو هكذا تريد أن تظهر دائماً في عيون حلفائها. بعد اشتعال الحرب على غزة صرح إيهود باراك بأنها "حرب حتى النهاية المرة". وتساءلت مجلة (تايم) الأمريكية في موضوع غلافها الذي حمل عنوان: "هل ستبقى إسرائيل" قائلة: "..بعد ستين عاماً من الصراع للدفاع عن وجودها.. يتساءل كثير من الإسرائيليين، أين تكمن هذه النهاية؟" مشيرة إلى أن الحرب بصرف النظر عن نهايتها "سوف لن تخفف قلق الدولة اليهودية بشأن البقاء" (8 كانون الثاني/ يناير 2009). وكتب (مورت زكرمان) في صحيفة (ديلي نيوز) الأمريكية مقالاً بعنوان: "قتال إسرائيل من أجل البقاء: وجود الدولة اليهودية ذاته مهدد في حربها مع حماس" (18 كانون الثاني/ يناير 2009). وينتقد الكاتب الإسرائيلي (كوبي نيف) الحرب على غزة قائلاً: "إن دولة إسرائيل مع كل الإجلال لقوتنا وللقنابل الذرية التي نملكها لم تعد قادرة على الانتصار في أي حرب، وليس من المهم البتة أي حرب ستكون وفي مواجهة من ستتم". (معاريف،31 كانون الأول/ ديسمبر 2009). كما تؤكد الكاتبة (أوريت دغاني) في مقال نشرته (معاريف) أن الحرب على غزة دليل جديد على أن الإسرائيليين باتوا مستلبين لثقافة العنف، ولا يعرفون لغة غيرها، وأنهم يندفعون للحرب بسبب كراهيتهم للسلام، واعتقادهم أن القوة وحدها كفيلة بتحقيق أهدافهم. (31 كانون الأول/ ديسمبر 2009).

في الحقيقة، إسرائيل غير معنية بالسلام، بل بكسب الوقت وخلق حقائق على الأرض، وتحقيق "انتصارات" عسكرية من خلال إيقاع خسائر هائلة في الأرواح والممتلكات بين الفلسطينيين تارة، وبين غيرهم من العرب تارة أخرى، بقصد إثارة الرعب وفرض الاستسلام. وليس هناك ما يشير إلى أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يختلفان عن الرؤية الإسرائيلية، على الرغم من عنجهيتها وتطرفها ومصادمتها للأعراف الدولية، بل إن الأوروبيين أكدوا ازدراءهم لكل قيم العالم المتحضر عندما شاركوا احتفال أولمرت بسحق الأطفال والنساء في غزة، لكنهم وحلفاءهم الإسرائيليين متسقون مع ذواتهم، بعكس العرب الذين يسيئون قراءة الموقف، ويفتقرون إلى رؤية إستراتيجية موحدة لمواجهته. الانحياز إلى المقاومة عبر احتضان ثقافتها، ودعم المقاومين سياسياً وعسكرياً يجب أن يكونا في صلب هذه الإستراتيجية. لا جدوى من حديث المبادرات، فكل ما يُقال عن السلام وحل الدولتين تم دفنه تحت أنقاض الغزيين وأشلائهم.

لعل الكلمات الشجاعة للملك عبد الله بن عبد العزيز في مؤتمر قمة الكويت تطلق حركة تصحيحية للمسار العربي، لا سيما وصفه للإسرائيليين "بالعدو الإسرائيلي الغادر" و "بالعصابة الإجرامية"، وتشديده على "الوحدة لكل العرب"، وتحذيره من أن "الخيار بين الحرب والسلام لن يكون مفتوحاً في كل وقت، وأن مبادرة السلام.. لن تبقى على الطاولة إلى الأبد". لم يكن السلام خياراً إسرائيلياً قط؛ لأن العنف رديف البقاء في المخيخ الإسرائيلي، أو كما تقول الكاتبة الإسرائيلية (أوريت دغاني) في "معاريف": "الحرب تجري في عروقنا مجرى الدم".

كوت:
"ليس هناك ما يشير إلى أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يختلفان عن الرؤية الإسرائيلية، على الرغم من عنجهيتها وتطرفها ومصادمتها للأعراف الدولية، بل إن الأوروبيين أكدوا ازدراءهم لكل قيم العالم المتحضر عندما شاركوا احتفال أولمرت بسحق الأطفال والنساء في غزة".
 

فلسطين والحل
  • مقالات ورسائل
  • حوارات ولقاءات
  • رثاء الشيخ
  • الصفحة الرئيسية
  • فلسطين والحل