اطبع هذه الصفحة


(فإن الملائكة لم تضع أسلحتها بعد)

/* بقلم / د.أحمد بن عبدالرحمن القاضي */


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . أما بعد :

كلمة قالها جبريل عليه السلام، لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد تفرق الأحزاب،كما روى ابْنُ إسْحَاقَ، رحمه الله : ( وَلَمّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْصَرَفَ عَنْ الْخَنْدَقِ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ وَالْمُسْلِمُونَ وَوَضَعُوا السّلَاحَ.فَلَمّا كَانَتْ الظّهْرُ أَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا حَدّثَنِي الزّهْرِيّ ، مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةِ مِنْ إسْتَبْرَقٍ عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ فَقَالَ أَوَقَدْ وَضَعْتَ السّلَاحَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ جِبْرِيلُ فَمَا وَضَعَتْ الْمَلَائِكَةُ السّلَاحَ بَعْدُ وَمَا رَجَعَتْ الْآنَ إلّا مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ يَأْمُرُك يَا مُحَمّدُ بِالْمَسِيرِ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَإِنّي عَامِدٌ إلَيْهِمْ فَمُزَلْزِلٌ بِهِمْ )سيرة ابن هشام - (ج 2 / ص 232)

بعد مضي اثنين وعشرين يوماً من القصف الوحشي الأرعن، والفتك الذريع بالمسلمين في غزة، وإهلاك الحرث والنسل، ينسحب اليهود، جارين أذيال الخيبة، لم ينالوا خيراً، يؤنب بعضهم بعضاً، ويشهد بعضهم على بعض بالفشل ، وعدم تحقيق الأهداف. بينما يلملم المسلمون جراحهم، ويستخرجوا الجثث من تحت الأنقاض، ويدفنوا شهداءهم ، يحسب بعض الناس أن الستار قد أسدل على هذا المشهد البئيس، وانفض المتفرجون، وطويت صفحة من صفحات الظلم المتلاحق .

لكن هيهات ! فإن الملائكة لم تضع أسلحتها بعد.

ربما عجز البشر أن يردوا الحق إلى نصابه، لكن الذي له ملك السماوات والأرض، وهو على كل شيء شهيد، يجري الأمور بحكمته البالغة، ومشيئته النافذة، يمهل ولا يهمل، وكل شيءٍ عنده بمقدار. إن المتأمل لهذا الحدث يستجلي من وراء الغبار القاتم للتفجيرات، ويستنصت من خلف ضجيج الطائرات، معاني عظيمة، تحققت بفعل الله، من خلال جنوده في السماوات والأرض :

أولاً : حقيقة النصر والهزيمة :
إن التمسك بالمبادئ، والصبر عليها، والموت في سبيلها، لهو النصر الحقيقي. إن النصر والهزيمة لا يقاسان بالأعداد، والحسابات المادية، وشدة المعاناة، وإلا لكان أصحاب الأخدود، الذين حُرِّقوا بالنار، عن بكرة أبيهم؛ رجالاً، ونساءً، وأطفالاً، خاسرين مهزومين، ولكان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، منتصريين غالبين ! وهيهات. لقد أنطق الله رضيعاً حين ترددت أمه بين إلقاء نفسها معه في الإخدود، وبين التخلي عن المبدأ، فقال مثبتاً لها : (اصبري يا أماه، فإنك على الحق!)

وقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام، من الشدة واللأواء، في حروبهم مع المشركين الشيء العظيم :

- ففي يوم أحد، قتل منهم سبعون، وشج وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنتيه الشريفتين، ووقع في حفرة من حفر أبي عامر الفاسق !

- وفي بئر معونة، بعد أحد، قتل سبعون من خيار القراء، غدراً.

- وفي الأحزاب، وصف الله حالهم بقوله : (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب/10، 11]

فهل كانوا مهزومين مخذولين؟ لا والله، بل كان نصراً معنوياً، حقيقياً، قاد ، فيما بعد، إلى سلسلة الانتصارات المادية، والفتوحات الإسلامية.

ثانياً : إن مما صنعه الله تعالى، لهذه الأمة، من وراء هذا الحدث المدوي، أن أعاد إلى مصطلح (الجهاد) رونقه، وبهاءه،
وجلالته، بعد أن بات لدى بعض الناس (سُبَّة) و (تهمة) ، نتيجة لبعض الممارسات الخاطئة. صار كثير من المسلمين، ولو من الناحية النظرية فقط، يلوِّح بهذا الشعار، ويرى أنه المخرج من هذه الحال.

ثالثاً : وإن مما صنعه الله لهذه الأمة، من وراء هذا الحدث، أن عادت قضية (فلسطين) إلى الصدارة،
بعد أن كادت تغيب خلف أروقة مؤتمرات السلام المزعومة، وبعد أن دب اليأس إلى نفوس جمهور الأمة، وهم يرون أصحاب الشأن من ممثلي السلطة، وفتح، ومنظمة التحرير، يسارعون إلى للقبول بكل عرض هزيل، ويرتمون في أحضان جلاديهم، دون أن يخرجوا من مائدة اللئام، ولا بفُتات.

رابعاً : ومما صنعه الله لهذه الأمة المترامية الأطراف، أن أحيا فيها روح الانتماء للإسلام، والشعور بشعور الجسد الواحد،
بعد أن مزقتها القوميات، والخلافات، والعصبيات، فعادت تتألم جميعاً لألم عضوٍ منها، وتخطت قلوبها الحدود، والحواجز، والانتماءات، لتتعلق ببقعة صغيرة من الأرض، يقال لها (غزة) .

خامساً : تأكيد ما قرره القرآن العظيم، وأرساه في قلوب المؤمنين، من شدة عداوة اليهود للذين آمنوا
: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ) [المائدة/82]، وانكشاف الوجه الكالح لليهود أمام ناظري العالم، بجميع فئاته، وشعوبه، بفجوره، وبطشه، ووحشيته .

سادساً : ويبقى أن (الملائكة لم تضع أسلحتها)،
فما نرجوه من انتقام الله من الظالمين، وجبره للمنكسرين، عظيم . ذلك أن الله تعالى، حكم، عدل، يمهل للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته . فلربما سلط الله على هذه الأمة اليهودية المغضوب عليها، من الآفات، والاختلافات، والمصائب ، ما لا يخطر بالبال، وذلك آت ٍ لا محالة، في ملحمة ختامية، بشر بها من لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وسلم : (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ) رواه البخاري. ولكننا نرجو، قبل ذلك، أمراً يشفي به الله صدور قوم مؤمنين. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


/* قسم العقيدة - كلية الشريعة وأصول الدين - جامعة القصيم*/

 

فلسطين والحل
  • مقالات ورسائل
  • حوارات ولقاءات
  • رثاء الشيخ
  • الصفحة الرئيسية
  • فلسطين والحل