بصيرة الوحي :
 
أُقلب ناظري في أجسادٍ تقلبت فيها صور البلاء وتنوع ما نزل عليها من ألمٍ بين أعضاءٍ مبتورة وما دون ذلك وما هو أكثر ، فأرى الأم المكلومة والطفلة الباكية الحزينة ..ومع تقلب ناظري في مأساة لعلنا قرأنا أو سمعنا بأعظم منها ولكن عيني لم تر أفجع منها ..

تمر أمام ناظري سيول الآراء والتصريحات والتحليلات ، فأرى الهوة واسعة شاسعةً تكاد لا تلتقي على مد البصر بين من يبصرون بعيونهم ومن تستنير بصائرهم بنور الوحي ...

فالذين ينظرون للواقع ويحكمون بقوانينه ويُطالبون بعدم التحليق في عوالم خيالية مثالية يتناسون أن فوق هذا الواقع ربٌ رحيمٌ في تقديره عزيزٌ في قوته هو من قدر الابتلاء على الفئة المؤمنة وهو قدر لها البقاء ،وهو سبحانه قدرعليها الخوف والجوع ونقص الأموال والثمرات وجعل مع هذا كله النصر ، وهو جعل حولهم من يخذلهم ويخالفهم وقدر أن ذلك لا يضرهم ،فهؤلاء لن يروا الحقيقة لأنه يتناسون الحقيقة الأصيلة الوحيدة وهي انتصار الحق)وإن جندنا لهم الغالبون ( ، ثم هم يجعلون أنفسهم أسرى لإعلام وساسةٍ تسيطر عليها آلة العدو ، ولو رجعوا للوحي ولكتاب الله لأبصروا الحقائق (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتا ) النساء: ٦٦ .

فنور الوحي كاشفٌ في ظلمات الفتن ، وهادٍ لمن يطمئن قلبه له عند الإبتلاءات، فكلام الله هدىً ونور قال تعالى :  ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقرٌ وهو عليهم عمى) فصلت : 44، وقال عزّ من قائل: (قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين ) المائدة : 15،وبهذا النور دعونا نرى ما حصل ومازال يحصل على أرض الواقع...ونرصد مقاصد الكفر العالمي في الحرب على الأمة المسلمة ، وعلى إخواننا في غزة..
 
المقصود الأول : مقصود الإذلال:

- إن مقصود الإذلال كان وما زال مقصوداً جاهلياً أصيلاً ، ففرعون يخاطب أهل مصر ويفاضل بينه وبين موسى صلى الله عليه وسلم فيصفه بـ  (هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ) الزخرف: ٥٢ ، (والمَهين بفتح الميم : الذليل الضعيف) التحرير والتنوير لابن عاشور، وكفار قريش تلقي سلا الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم ثم يتمايلون ضحكاً وسخريةً ، فعن ابن مسعود قال: ( بينما رسول الله صلى الله عليه وسلمقائم يصلي عند الكعبة، وجمع قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظروا إلى هذا المرائي؟: أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه، فانبعث أشقاهم، فلما سجد الرسول صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت الرسول ساجدا، فضحكوا، حتى مال بعضهم على بعض من الضحك...) صحيح البخاري ، والسلا (هو : اللفافة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة وسائر الحيوان ، وهي من الآدمية : المشيمة) شرح النووي على صحيح مسلم ، بل إن أبا جهل كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول{ سندع الزبانية }قال: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن على عنقه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ) سنن الترمذي وصححه الألباني ، وهذا عبد الله ابن أبي بن سلول رأس النفاق يقول: ( لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ) المنافقون:٨ ، وغير ذلك كثير ومطرد في العقلية الجاهلية التي استحوذ عليها الشيطان ، وهو معلمٌ بارز في الحرب العالمية الحالية على الإسلام وأهله .

- وهذا المقصود الجاهلي هو رد فعلٍ متولد من الذلة المكتوبة على حزب الشيطان والتي يشعر بها أتباعه ، مما يجعل محاولات إذلال أهل الحق مطلبٌ لإبليس الذي أُذل وطردمما كان فيه بسبب استكباره عن السجود لآدمٍ عليه الصلاة والسلام الذي رأى فيه إذلالاً له فقابله باستكبار فسريا معاً في حزبه وجنده إلى يوم القيامة، ولا يخفى اختصاص اليهود بوصف الإذلال أكثر من بقية طوائف حزب الشيطان قال تعالى : (لن يضروكم إلا أذى وإن يُقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لايُنصرون (111) ضُربت عليهم الذلة أين ما ثُقفوا إلا بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس وباؤوا بغضبٍ من الله وضربت عليهم المسكنة  ) آل عمران: ١١١ - ١١٢
-ومقصود الإذلال الجاهلي لأهل الحق مثل بقية المقاصد الشيطانية كمقصود تفريق صف المؤمنين ومقصود استضعاف طائفة دون أخرى و مقصود جرّالفئة المؤمنة إلى مزالق المداهنات وغيرها من المقاصد يقابلها الشرع بالمخالفة والمضادة ، فمقاصد الشرع مضادة ومخالفة لمقاصد الجاهلية الشيطانية، فموسى عليه الصلاة والسلام رد على فرعون ثم قال له ( وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً ) الإسراء: ١٠٢ ، (أي: ممقوتًا، ملقى في العذاب، لك الويل والذم واللعنة ) التحرير والتنوير لابن عاشور ، ( وهذا نذارة وتهديد لفرعون بقرب هلاكه (التحرير والتنوير لابن عاشور  ، ويخبر الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام   (إنك أنت الأعلى) طه: ٦٨ ، والرسول صلى الله عليه وسلملما ألقوا على ظهره بسلا الجزور ثبت ساجداً  (.. فلما قضى رسول الله الصلاة، قال: اللهم عليك بقريش، ثلاثا، ثم سمى: اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد . قال عبدالله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم   :(وأتبع أصحاب القليب لعنة) صحيح البخاري ،وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود (...دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وإن قومك هلكوا فادع الله فقرأ(فارتقب يوم تأتي السماء بدخانٍ مبين) الدخان: ١٠، ثم يقول صاحب الفتح (وأفاد الدمياطي أن ابتداء دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قريش بذلك كان عقب طرحهم على ظهره سلى الجزور (فتح الباري ، بل قابل صلى الله عليه وسلم تهديداتهم فقال لهم يوماً : ( أتسمعون يا معشر قريش ؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ) فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه [ بأحسن ما يجد من القول ] حتى إنه ليقول : انصرف أبا القاسم راشداً فـ [ والله ] ما كنت جهولا . فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ) صحيح السيرة النبوية ،ولم يكن الجهاد والذبح قد فُرض بل وُصفت هذه المرحلة في كتاب الله بالأمر بكف الأيدي عن الكفار ، فكأن المقصود كان إخافتهم إذلالهم وقلب مقاصدهم عليهم ومقابلة حربهم النفسية على المسلمين ،وكل هذا من مقاصد الشرع الحنيف.

- وفي غزوة أحد لما ظن المشركون أنهم قتلوا النبي صلى الله عليه وسلم وقاموا يتبخترون ويقول مقدمهم يومها أبو سفيان : (اعل هبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :أجيبوه ، قالوا: ما نقول؟ ، قال: قولوا الله أعلى وأجل ، قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أجيبوه ،قالوا :ما نقول؟، قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم..) صحيح البخارى، فأبو سفيان أراد أن يقول أن اليوم يوم علو عقيدة الكفر ويوم عزٍ لها فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليه وإبطال مقصوده.

- وعندما قال ابن سلولٍ قولته قدر الله له ابنه وهو الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول الذي قال لأبيه:  (والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز)  أخرجه الترمذي ح3315 ،وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي. ،ولنا أن نستدل بهذا التقدير الإلهي لإذلال رأس النفاق على يد ابنه الموافق لشرعه المنزل في قوله (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) المنافقون: ٨ .
-وعندما نسمع تعليقات من وقعوا أسرى هذا المقصود الجاهلي ، يجب أن ننوه كيف أن العزة والذلة ليس لها علاقة بالقوة والضعف بل هي مستمدة من الإيمان بالله فعلى قدر وجوده وعدمه يكون الشعور بالعزة ،فالأمة يمكنها أن تظل عزيزة وهي تفقد أبنائها، والأمة قد تتجرع الذل وهي تظن نفسها سالمة ، واستمراء الذل هو أخطر ما تُمنى به الأمة بل هو موتها ، فهل تعي الأمة قوله تعالى (من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً) فاطر: ١٠، ( وهذه الحقيقة كفيلة حين تستقر في القلوب أن تبدل المعايير كلها ، وتبدل الوسائل والخطط أيضاً! ... إن العزة كلها لله . وليس شيء منها عند أحد سواه . فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره . ليطلبها عند الله . فهو واجدها هناك وليس بواجدها عند أحد ، ولا في أي كنف ، ولا بأي سبب (فلله العزة جميعاً) ( في ظلال القرآن .

- ولقد وفق الله بفضله وكرمه إخواننا في حماس فاستمسكوا بجهادهم وفيه عزهم وأعلنوا أن ما يحدث لهم هو عزتهم وعزة كل من صبر معهم في غزة ، فياليت كل من استخف بصواريخ المقاومة يفهم كيف أن صغر هذه الصواريخ وضعف أثرها المادي في اليهود هومن التقدير الرباني لإذلال اليهود بها (مع رجائنا أن يوفق الله إخواننا لأعظم نكاية تشف صدور المؤمنين)
 
المقصود الثاني : مقصود التفريق:
- فانسحاب اليهود من غزة أول مرة - وهذه المرة أيضاً - وإن كان نصراً للمجاهدين فإن مقاصد الشيطان لا بد أن تصاحبه وهي المقاصد التي تتوارث في كل معركة بين الحق والباطل ومنها (مقصد تفريق الصف المؤمن) والذي يصاحبه (استضعاف طائفة دون الأخرى) لتزداد الفرقة.

- وكذلك كان فرعون،قال تعالى: ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفةً منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين) القصص: ٤ ، فلفظ (شيعاً) (ليدل على أنه جعل أهل بلاد القبط فرقاً ذات نزعات تتشيع كل فرقة إليه وتعادي الفرقة الأخرى ليتم لهم ضرب بعضهم ببعض ، وقد أغرى بينهم العداوة ليأمن تألبهم عليه كما يقال «فرّق تحكم» وهي سياسة لا تليق إلا بالمكر بالضد والعدو ولا تليق بسياسة ولي أمر الأمة الواحدة) التحرير والتنوير ،ولقد وصف الله تعالى فرعون أنه من المفسدين ، فسبيل المفسدين كما في الآية ثلاثة: العلو في الأرض والتكبر والتجبر ، التفريق والتشييع إلى أشياع متنافسة ،والاستضعاف بالقتل والتذبيح لطائفة وكلما انتهى من طائفة تبعها بأخرى
- ولقد وصف الرسول صلىالله عليه وسلم حال الشيطان إذا يئس من معركته الأولى على العقائد أن يتجه إلى التحريش والتفريق فعن جابر قال: سمعت النبي صلىالله عليه وسلم يقول:(إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم) صحيح مسلم . وعن جابر رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلىالله عليه وسلم: (إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا قال ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال فيدنيه منه ،ويقول: نعم أنت ) صحيح مسلم
 
- و لست أقصد بالتفريق ما تدندن عليه وسائل الإعلام من انقسامٍ بين حماس وسلطة أوسلو ، بل أقصد ما تريد هذه الدندنة أن تساعد فيه ،وهو التفريق بين المقاومين وبين الشعب المسلم الصابر ،كما حاولوا زرع فتيل الفرقة بينها وبين الحركات الإسلامية التي لا تتبنى العمل السياسي وتلك التي ترفع راية المقاومة للمحتلين ،وحاولوا التفريق بينها وبين الأمة المسلمة بأسرها ، ففي نفس الوقت الذي يتم البطش والتنكيل القتل لمن يحملون السلاح ضد اليهود (استضعاف طائفة) حاولوا الدندنة كم جاء على لسان أولمرت أن حماس تعمل بأجندة فارسية أو شيعية وكأن وكأن اليهود هم حماة السنة.

-ولذا نرى مقاصد الشريعة دائرة مع المحافظة على اجتماع المسلمين حتى أنكر النبي صلىالله عليه وسلم على المسلمين تفرقهم البدني في السفر فعن أبي ثعلبة الخشني قال : كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرقوا في الشعاب والأودية فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم: (إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان) ، فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال : لو بسط عليهم ثوب لعمهم.)  رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني ، فكأن هذا التفرق البدني قد يكون مدعاة لتفرق القلوب فنُهي عنه ،وفي آخر حياته صلىالله عليه وسلم قام ورفع الستار ليرى المؤمنين متوحدين في صفوفهم وصلاتهم خلف أبي بكر الصديق رضي الله عنه فتبسم صلىالله عليه وسلم وكان ذلك آخر ما رآه صلىالله عليه وسلم من حال المسلمين، فعن أنس بن مالك أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع رسول الله صلىالله عليه وسلم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله صلىالله عليه وسلم ستر الحجرة فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم رسول الله صلىالله عليه وسلم ضاحكاً ، قال فبهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله صلىالله عليه وسلم ، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة ، فأشار إليهم رسول الله صلىالله عليه وسلم بيده أن أتموا صلاتكم قال:ثم دخل رسول الله صلىالله عليه وسلم فأرخى الستر ،قال: فتوفي رسول الله صلىالله عليه وسلم من يومه ذلك (صحيح مسلم ، وغير ذلك كثيرٌ لا يحصى، ولذا كان الحسم الحمساوي وتماسك الفئة التي نحسبها مؤمنة (ولا نزكي على الله أحداً) وانطلاق مطالبها السياسية على أساس حماية مجاهديها وتحقيق الأمان لهم مطلبٌ شرعي أفسد مقصود الجاهلية في إحداث الفتنة والتفريق، بل ومراعاتها أفهام الناس والبسطاء في خطابها حتى تكون مجمع قلوب الأمة لهو فضلُ وتوفيق من الله أسأل الله أن يُثبتها عليه.
 
المقصود الثالث : مقصود إفقاد المصداقية (المداهنة)
· ونور الوحي يكشف لنا مقصود الجاهلية في إفساد الفئة المؤمنة والجر إلى المداهنات فيقول تعالى(ودوا لو تدهن فيدهنون) القلم: ٩ ، ويقول تعالى : ( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) الإسراء: ٧٣ – ٧٥.
· (وفعل [ تدهن ] مشتق من الإدهان وهو الملاينة والمصانعة ، وحقيقة هذا الفعل أن يجعل لشيء دهناً إما لتليينه وإما لتلوينه ، ومن هاذين المعنيين تفرعت معاني الإِدهان كما أشار إليه الراغب ، أي ودّوا منك أن تدهن لهم فيدهنوا لك ، أي لو تُواجههم بحسن المعاملة فيواجهونك بمثلها )التحرير والتنوير ، يقول السعدي:  (أي: توافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه، [ فَيُدْهِنُونَ ] ولكن اصدع بأمر الله، وأظهر دين الإسلام، فإن تمام إظهاره، بنقض ما يضاده، وعيب ما يناقضه)
· يقول صاحب الظلال : (فهي المساومة إذن ، والالتقاء في منتصف الطريق . كما يفعلون في التجارة . وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير! فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها؛ لأن الصغير منها كالكبير . بل ليس في العقيدة صغير وكبير . إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء . لا يطيع فيها صاحبها أحداً ، ولا يتخلى عن شيء منها أبداً .
وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق ، ولا أن يلتقيا في أي طريق . وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان . جاهلية الأمس وجاهلية اليوم ، وجاهلية الغد كلها سواء . إن الهوة بينها وبين الإسلام لا تعبر ، ولا تقام عليها قنطرة ، ولا تقبل قسمة ولا صلة . وإنما هو النضال الكامل الذي يستحيل فيه التوفيق!
ولقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي r ليدهن لهم ويلين؛ ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم ، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه ، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب! على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول! ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حاسماً في موقفه من دينه ، لا يدهن فيه ولا يلين . وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانباً وأحسنهم معاملة وأبرهم بعشيرة وأحرصهم على اليسر والتيسير . فأما الدين فهو الدين! وهو فيه عند توجيه ربه : [ فلا تطع المكذبين ]!

ولم يساوم صلى الله عليه وسلم في دينه وهو في أحرج المواقف العصبية في مكة . وهو محاصر بدعوته . وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون . ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين ، تأليفاً لقلوبهم ، أو دفعاً لأذاهم . ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو من بعيد.. ) ظلال القرآن

· فالمداهنة هي الوجه الآخر والتطبيق العملي لمقصود إفقاد المصداقية وهو مقصود خطير أخطر من قتل الأنفس المؤمنة لأن قتل الأنفس يُحيى الحقائق ويثبت قيمها في الواقع أما المداهنة فتُفقد أهل الحق مصداقيتهم بين الناس وتفسد صورة الحق ، وهذا ما يغيب للأسف عن بعض الدعاة والدعوات عندما يظنون أن التنازل والمداهنة لفتح قنواتٍ للدعوة أكثر يخدم مصلحة الدعوة وهو في الحقيقة هزيمتها وموتها.
فهل يعقل أصحاب الدعوات هذا ؟ وأن رضا الأعداء لا يُنال ولا حتى تخفيف العداء ، وأن من سار نحو عدوه فإنما يسير في الظلمات نحو الهاوية ..
هل يعقل من يحاولون تخفيف العداء من الإسلاميين أنه لا يحدث إلا من جانبٍ واحد ،وأما العدو فعداءه واضح ومقاصده بينة كما بينها الشرع، ومقصوده ليس مهادنة المؤمنين بل إفقادهم مصداقيتهم..
 
المقصود الرابع : مقصود الصد عن سبيل الله

- فهذه المعركة تتحرك في ثلاث محاور : الأول : حرب عسكرية غاشمة تقتل النسل وتحرق الأرض ، الثاني : حرب على الأفكار والمبادئ والعقائد ، والثالث :حرب نفسية لكسر الأمة وإذلالها. -ولقد ذكر الله حزب الشيطان بوصفه الجامع الذي يُذكر بها يوم القيامة فقال تعالى :  (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ) الأعراف: ٤٤ - ٤٥

-ولقد قال ابن القيم رحمه الله عن معركة الحجة والبيان:  (وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه وقال: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ) الفرقان: ٥٢، فهذه سورة مكية أُمر فيها بجهاد الكفار بالحجة والبيان وتبليغ القرآن وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بتبليغ الحجة وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير ) التوبة: ٧٣ ،فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل والقائمون به أفراد في العالم والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددا فهم الأعظمون عند الله قدرا . ولما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض مثل أن تتكلم به عند من تخاف سطوته وأذاه كان للرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - من ذلك الحظ الأوفر وكان لنبينا - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك أكمل الجهاد وأتمه)  زاد المعاد

- فالناس مشغولة بالحرب العسكرية ولا يسألون إلا عنها ، ونتناسى الحرب المستعرة والعنيفة على التصور والخيار الإسلامي وعلى النفوس، ولأوضح ما أريد أكتفى بتوجيه أنظار الإسلاميين إلى الآراء المنتشرة بين الناس والتي اختصرها أحدهم وهو يحدثني فقال : (هؤلاء – يقصد حماس – حمقى ولكن نحن لا نرضى بما يحدث لهم) .

-فالحقيقة أننا نشهد حرباً يقودها المنافقون والمرجفون حول من يتحمل مسئولية ما يحدث في غزة وما يترسخ في أذهان العامة خلاصته (الحكومات خائنة والإسلاميون سيجلبون معهم الدمار لنا ) ،وهو ما يقوم بدور الصد عن سبيل الله

-إذا نحن نحتاج أن نخوض معركةً على مستوى التصحيح والانتصار للحل الإسلامي ،ومعركةً أخرى لتصحيح وتقويم نفسيات الأمة المتفاوتة.

-فعلى مستوى حرب العقائد والأفكار نجد أن المرجفون والمنافقون يخوضون مع أصدقائهم اليهود هذه المعركة من خلال عدد من الشبهات التي يتمنون نشرها أهمها :

الشبهة الأولى : عدم واقعية الإسلاميين وحلهم : وخلاصته أن تحرير جميع أرض فلسطين وطرد اليهود ليس واقعي لأننا لا نستطيع العيش بسلام في غزة إلا إذا رضي عنا السيد الأمريكي حليف اليهود الاستراتيجي ، والحكومات العربية ترى من باب الحكمة أن الصلح مع العدو الأقوى أنفع حتى نتجنب كوارث أكبر،وللأسف فهناك بعض الفتاوى وفريق من أهل العلم يُصدر فتاوى تساعد العلمانيين على إرساء هذه الشبهة.

الشبهة الثانية: التشكيك في حملة الإسلام وتصيد أخطائهم ومحاولة إسقاط الرموز الحقيقية : وذلك باتهامهم أنهم طلاب سلطة وأن الخلاف كله على الحكم ،ولقد قال سيد قطب رحمه الله :(هذا المنهج الإلهي، الذي يمثله "الإسلام" في صورته النهائية، كما جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، لا يتحقق في الأرض، وفي دنيا الناس، بمجرد تنزله من عند الله. لا يتحقق بكلمة: “كن” الإلهية، مباشرة لحظة تنزله. ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه. ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب. إنما يتحقق بان تحمله جماعة من البشر. تؤمن به إيماناً كاملاً، وتستقيم عليه - بقدر طاقتها- وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بكل ما تملك... تجاهد الضعف البشري والهوى البشري في داخل النفوس. وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى للوقوف في وجه الهدى... وتبلغ - بعد ذلك كله - من تحقيق هذا المنهج، إلى الحد الذي تطيقه فطرة البشر، والذي يهيئه لهم واقعهم المادي. على أن تبدأ بالبشر من النقطة التي هم فيها فعلاً، ولا تغفل واقعهم، ومقتضياته في سير وتتابع مراحل هذا المنهج الإلهي... ثم تنتصر هذه الجماعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة. وتنهزم في المعركة مع نفسها أو مع نفوس الناس تارة.. بقدر ما تبذل من الجهد . وبقدر ما تتخذ من الوسائل المناسبة للزمان ولمقتضيات الأحوال. وقبل كل شيء... بمقدار ما تمثل هي ذاتها من حقيقة هذا المنهج، ومن ترجمته ترجمة عملية في واقعها وسلوكها الذاتي. هذه هي طبيعة هذا الدين وطريقته... وهذه هي خطته الحركية ووسيلته.. وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة وهو يقول لها:  (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ). ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ). ( والذين جاهدوا فينا يهدينهم سبلنا) ) هذا الدين، فحقيقة هذا المسلك ليس إسقاط أشخاص أو رموز بل إسقاط الحل الإسلامي كله واتجاه الناس إلى رموز أخرى غير إسلامية .

الشبهة الثالثة: عدم التسليم لأبناء الحركة الإسلامية بدعوى الإسلاميةومحاولة سلبها منهم : وذلك بأن تقوم رموز العلمانية المتزعمين بيع فلسطين والاعتراف بالدولة اللقيطة بعمل صور ظاهرية كالحج وغيره أو تلاوة آيات أو أحاديث ولو أخطئوا في قرائتها ،مع تيار ينتسب للإسلاميين يقوم بهذا الدور الذي قبله مساعدةً للعلمانيين ، ولا يخفى الخلط هنا بين الحكم على إسلام معين أو كفره وبين صلاحية منهجه الذي يحمله وأهلية هذا المعين لقيادة أمة أو حمل قضية ( ولا يخفى التقاطع بين هذه الشبهة وشبهة الواقعية الأولى إذ يرفض المجتمع الدولي ومنظماته القبول بغير العلمانيين).

الشبهة الرابعة : التحقير والتقليل : والمقصود به أن يظهر الحل الإسلامي في مجال التضحيات والانتصارات وما قدمه للأمة مساوياً - بل يصل الفجور والوقاحة بتصويره بالأقلية و العبثية - للجهود العلمانية. - إذا فنحن في ميدان معركة يُراد منها أن يظهر الحل الإسلامي غير واقعي وعبثي وأن حملته متمسحون فيه لأغراضهم وأن العلمانيين هم حملة الإسلام وخدام الدعوة ،وهذه المعركة يقل المتصدرون فيها من أهل العلم والرأي خوفاً من البطش والمنع والتزاماً من البعض بمنهج ( ترك المناطحة) .

-وهذه الشبهات ومسلك الصد عن سبيل الله مسلك متوارث في العقلية الجاهلية ، فالمشركون كانوا يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بعدم واقعيته فيقولون له( أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) ص: ٥ ،والمنافقون يشككون في وعد النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بالنصر والتمكين قال تعالى (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ) الأحزاب: ١٢

-وفرعون حاول القول أن موسى عليه السلام يريد ملكاً وإفساداً في الأرض (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ )غافر: ٢٦ ،وكفار قريش وصفوا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يفرق بين الوالد وولده والمرأة وزوجها وأنه السبب الرئيسي في تفريق وحدة قريش

-ولقد استعان كفار قريش بأهل الكتاب ليُثبتوا للناس أنهم أهدى من الرسول سبيلاً قال تعالى( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا) النساء: ٥١، وكانوا يتفاخرون أنهم خدام البيت الحرام ومُعظموه ولذا نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك الصلاة أبداً عند المسجد الحرام وهذا من باب رد المفاهيم الصحيحة المستلبة وهو موضوع آخر يحتاج لبحثٍ مستقل.

- ولقد رأينا كفار قريش يقتلون الصحابي الجليل خبيب بن عدي ويقولون له : ( أترضى أن محمداً مكانك ) فكأنهم يقولون له هذا ما أوصلك إليه اتباعك لمحمد صلى الله عليه وسلم ،ومسلك إظهار أن الإسلام لا يأتي لمتبعيه إلا بالمصائب مسلك شيطاني ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فعن عن سبرة بن أبي فاكه رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال : تسلم وتذر دينك ودين آبائك ودين آباء أبيك ؟ فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : تهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول ؟ فعصاه فهاجر ثم قعد له في طريق الجهاد فقال : تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال ؟ فعصاه فجاهد . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة . ومن قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة . وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة) السلسة الصحيحة ،وكان اليهود يستخفون بنصر بدرٍ ويقولون : (لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، أما والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس ..!!)

- ولذلك فالمسلك الشرعي هنا هو رد الشبهات إلى محكمات الدين ورد الناس إلى أصول إيمانهم ،وبيان بطلان الباطل وفساد منهجه ، فلا حل للأمة ولقضاياها بأي مذهبٍ ضال قوميٍ كان أو علماني ، وليس لها إلا الرجوع إلى مولاها ، وأما قتلانا فشهداء في الجنة أما قتلاهم ففي النار فلا كرامة لهم،( وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) النساء: ١٠٤