المعصية من غير ستار يسترها عارية مفضوحة، نتنة الرائحة، خبيثة المنظر ينفر
منها كل أحد ولا يستسيغها أحد، لكنها حين تحف بالشبهة وتأتي إليك وهي تنطق
كلمات الله فإنها تتزين للناظرين، وهذا هو مكمن قوتها وسر قبولها ولذلك صدق
من قال: كم يخيفني الشيطان حين يأتيني ذاكرا اسم الله.
العلم الصحيح القائم على الحق المطلق (الكتاب والسنة)، وترك التقليد، ونبذ
التعصب، ومتابعة السنة، والاهتداء بمن ماتوا على خير، وترك التعلق بالغرائب
والشذوذات، كل هذه محصنات للمسلم من أن تمرر عليه ألاعيب أهل الباطل من
السدنة الكاذبين، وعلماء اللسان والسلطان، وخطباء الفتنة.
قال تعالى: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان
ببعض ما كسبوا ولقد عفى الله عنهم إن الله غفور رحيم}(آل عمران).
هذه الآية من سورة آل عمران في عرضها لذكر المصاب الجلل في غزوة أحد، وهذه
الآية جامعة لكل معوقات النصر وموانع وقوعه: وإنما هي الذنوب.
{إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} وبعيدا عما قاله أهل التفسير رحمهم
الله تعالى حيث أكثروا فيها القول فإنما أقوالهم تعود إلى أمر واحد، وهو أن
الشيطان لا يكون له على المسلم سبيل في تحقيق مراده منه حتى يعطي المسلم
الحجة لها.
{استزلهم الشيطان}: أي أوقعهم في الزلل، والزلل هنا الهزيمة وعدم الثبات في
المعركة، أي هو تعطيل النصر وعدم تحقيقه.
{ببعض ما كسبوا}: لقد كان للشيطان عليهم سبيل بأن حقق فيهم الهزيمة بسبب
أعمالهم وذنوبهم. فهكذا هي سنة الله الجارية في المسلمين، وهي سنة لا تتخلف
ولا تتعطل وهي أن الهزائم لا تقع إلا بسبب أعمال يصيبها المسلم فتبعد عنه
النصر وتقرب إليه الهزيمة.
وهنا لا بد من أمر نذكره وهو أن هذه المعاصي (أسباب الهزيمة) لا بد أن يكون
لها من ارتباط سنني مع الهزيمة. أي أنها ليست مطلق المعاصي والذنوب لكنها
المعاصي التي لها علاقة الحرب والقتال مثل: ترك التدريب، والإعراض عن
الجماعة، وعصيان الأمير، وترك الأخذ بالسنة القدرية كعدم تعيين صاحب الأمر
المفيد في بابه، وهذا لا يعني التقليل من شأن الذنوب الأخرى لكن تأثيرها على
نتيجة المعركة تأثير غير مباشر بخلاف الذنوب التي لها علاقة مباشرة بعملية
الجهاد والقتال، ولذلك من إبعاد النجعة حين نبحث عن أسباب الهزيمة في معركة
من المعارك وموقع من المواقع أن نذهب فنعدد معصية عدم صلة الرحم، أو معصية
أكل مال اليتيم كأسباب لحصول الهزيمة ونترك الأسباب المباشرة لحصول الهزيمة،
فلا بد أن ننتبه إلى العلاقة القدرية بين السبب والمسبب، بين العمل والنتيجة،
بين الذنب والهزيمة.
قال تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح
أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} (القصص).
في هذه الآية من سورة القصص يبين الله سبحانه وتعالى أسلوب الطاغوت في فرض
ألوهيته على الخلق، وكيف حصل له العلو والإفساد، والعلو في القرآن مقارن
للفساد: قال تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين
ولتعلن علوا كبيرا} (الإسراء).
قال تعالى: { علا في الأرض وجعل أهلها شيعا) فأول أمر فعله لاستتباب حكمه
وإفساده هو تفريق الناس فجعلهم شيعا.
واللفظ القرآني (جعل أهلها شيعا) فيه من الدلالات العميقة والتي تحتاج إلى
كشف وبيان: فقول الله تعالى: (شيعا) دل على أن فرعون لم يستخدم كثيرا من
القهر في تحزيبهم وتشتيتهم وتفرقهم، بل استخدم شيئا من المكر والدهاء في
إثارة عوامل التفرق الكامنة في نفوسهم، فالتشيع هو التناصر على شيء، فشيعة
الرجل أتباعه وأنصاره، هذا التشيع حصل بإثارة كوامن ذاتية في النفوس، فيها
القبول الذاتي بحصول التشيع أي الأتباع والأنصار، فصارت كل فرقة تتبع وتناصر
شيئا فيه الدافع الذاتي من المحسن الخارجي، وإلا فلو كان فقط القهر الخارجي
هو الذي صنع الفرقة لما جاء لفظ (شيعا) ولجاء لفظ غيره. ولكنهم صاروا شيعا
بعامل ذاتي فيه القبول الذاتي والرضوخ النفسي لهذا المحرض الخارجي وهو فساد
فرعون.
وقد ذكر الله تعالى عقب هذا قوله: { يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي
نساءهم} وهنا لم يذكر الله تعالى شأن الذين اتخذهم فرعون ليمارسوا القهر
والذبح والسبي، فحيث اتخذ طائفة للاستضعاف فإنه ولا بد اتخذ طائفة أخرى
للاستكبار والاستعلاء.
والحديث هنا في ذكر القرآن لقصة موسى عليه السلام مع بن إسرائيل، ولكن الحديث
القرآني عنه في جعل الناس شيعا جاء عاما { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها
شيعا}.
هكذا هي سنة الطاغوت في استتباب ملكه وتجذير شره في الناس: أن يكون الناس
شيعا، التفرق والتنازع والتعدد.
والقران لا يذم التفرق على أساس الحق حيث يتعدد الناس إلى فرق بحسب أديانهم،
بل هذا هو الواجب في دعوة الأنبياء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين
الناس، فالمؤمنون ينزعون أنفسهم من بين الكافرين ويتفرقون عنهم ويتشيعون
دونهم على حقهم، وأهل السنة ينزعون أنفسهم من بين أهل البدع ويتشيعون دونهم
على السنة، وهذا من أسباب تحقيق الرفعة لهم والعزة لدينهم ولسنة النبي صلى
الله عليه وسلم.
أما الذنب الذي لا يجبر في هذه الدنيا فهو التشيع على الباطل، والتحزب على
غير الحق، والتفرق على أسس الجاهلية، فهذا الذي يجعل لزلل الشيطان فيهم
موضعا.
وكذلك من الذنب الذي تعجل به العقوبة وتحصل به الهزيمة الاجتماع على غير
الحق، والالتفاف على الباطل.