من الألعاب التي اعتادها أطفال فلسطين ، لعبة " عرب ويهود" ،حيث يمتشق الصبية
بنادقهم الخشبية أو البلاستيكية وينقسمون فرقتين : تمثل إحداهما الفدائيين
الفلسطينيين ، بينما تمثل الأخرى دور الجنود الصهاينة ، وربما دب الخلاف من
البداية بسبب رفض الجميع للقيام بدور الصهاينة أو يتفقون على تبادل الأدوار
فيما بينهم .. وحيث إن هذه اللعبة مستمرة منذ عشرات السنين فإن ذلك يؤكد عمق
الإحساس باستمرارية الصراع وضرورة الكفاح لطرد المحتل ووقف جرائمه.
لكن التطور الجديد في الموضوع ما بدأنا نلاحظه على لعب الأطفال ، حيث أصبحنا
نرى الواحد منهم يقف بين يدي صاحبه ويقول له : " حزّمني ".. فيقوم " المهندس
" بربط " حزام ناسف " وهمي على جسده مخفياً إياه تحت القميص أو المعطف .. ثم
يتعانقان ليتجه "الاستشهادي" إلى "حافلة " أو تجمع للصبية من زملائه .. ويكبر
ضاغطاً على " الزر " ..وإذا بالأطفال يتطايرون متساقطين يمنة ويسرة من شدة "
الانفجار ".. وقد لا تنتهي اللعبة حتى يتناوب الجميع على ارتداء الحزام
والكبس على الزر!!
والسؤال هو لماذا يصبح تفجير الذات والاستشهاد لعبة مسلية ولذيذة ؟
الصهاينة يقصفون ويدمرون ويقتلون ، ليس المجاهدين والمناضلين فقط ، وإنما
أيضاَ الأطفال الصغار والنساء وكبار السن ،ولذلك فإن الفلسطينيين صغاراً
وكباراً ينتظرون بفارغ الصبر وقوع العمليات الاستشهادية ، بل يصبح الكثيرون
منهم رجالاً ونساءً مستعدين للقيام بتفجير أنفسهم في الأعداء.
لم تعد تنطلي الأكاذيب الصهيونية حتى على الجهات المناصرة لهم ، بأن هذه
العمليات تستهدف اليهود لكونهم يهوداً ، وأن منفذيها إرهابيون قتلة ، ويكفي
مثالاً على ذلك تصريح زوجة توني بلير ومالك ال سي أن أن ، حتى وإن اضطروا هم
وأمثالهم للاعتذار تحت الضغط والتهديد ولكن " كلمة الحق سبقت " .
تاريخياً وعقائدياً ، فالصهاينة أحفاد قتلة الأنبياء ، وفي العصر الحديث فهم
نبت طبيعي للاستعمار الاستيطاني الغربي، ذلك الغرب الذي أقام حضارته على
القتل والتدمير وإبادة الآخر والحلول مكانه ، ذلك الغرب الذي أفرز النازية
وأباد الملايين من الهنود الحمر ، الغرب الذي شعاره :
DEAD or alive
إنه لا يحتمل الآخر ، يريده ميتاً أولاً ، فإن لم يكن بالإمكان ذلك فلا بأس
بإحضاره حياً ، واللافت أن العبارة نفسها باللغة العربية تقدم حياً على ميتاً
"مطلوب حياً أو ميتاً " ..
في رأيي أن الخلاف في الترتيب بين اللغتين لا يرجع إلى الخفة والثقل على
اللسان بقدر ما يرجع إلى أمر أعمق من ذلك بكثير يتعلق بالذهنية والموقف
والشعور، ويشهد التاريخ للحضارة العربية الإسلامية في قبولها للآخر الديني
والثقافي واللغوي والجغرافي، بعكس الغرب ..
لقد لفتنا القرآن الكريم إلى أن في "اختلاف الألسن آيات " ..ورأينا كيف أن
الرسول الكريم يعرف متى تكون السيدة عائشة راضية منه أو غاضبة عليه .. من
اختلاف لسانها بين قول "لا ورب محمد" أو قول " لا ورب إبراهيم ".
وعودة إلى الأطفال الذين لاحظوا ما تفعله العمليات الاستشهادية من إثخان في
الأعداء وتحطيم لمعنوياتهم .. وشفاء لصدور الفلسطينيين وتنفيس لغيظهم .. وما
يمثله الاستشهاديون من بطولة وتضحية وجرأة يجعلهم رموزاً للأمة بأسرها وليس
للفلسطينيين وحدهم .. إضافة إلى ما وعده الله تعالى للشهداء ..ولذلك فإن
الاستشهاديين يجمعون بين أكثر من شرف ،ولهم في قلوب الشعب مكانة لا تدانيها
غيرها . ولا ننسى كذلك بأن يأس الفلسطينيين من المفاوضات والمفاوضين الذين
ثبت عجزهم عن تحقيق الاستقلال أو تحرير الأوطان أو رد العدوان يشكل عاملاً
قوياً آخر يدفع إلى تأييد العمليات الاستشهادية بل والمشاركة فيها.
عرفت ... فالزم
اقشعرت أبدان
الكثيرين ، وترغرغ الدمع في مآقيهم قبل شهور ، عندما اتصل أحد الأخوة
السوريين ، واسمه أنس ، ببرنامج الشريعة والحياة ، يعرض نفسه وإخوته التسعة ،
على كتائب القسام كي يقبلوهم ليكونوا العشرة الثانية من الاستشهاديين ، وهو
يلح على الشيخ القرضاوي أن يدعو الله بأن ييسر لهم السبيل إلى ذلك ..
وفي حلقة تالية اتصلت إحدى الفتيات تسأل إن كان بإمكان النسوة أن يقمن
بعمليات استشهادية .
وأذكر أن أعضاء من حزب الشعب الفلسطيني / الشيوعي سابقاً .. قد كتبوا في عام
1995 في ذكرى انطلاقة الحزب شعاراً جدارياً في مدينة بير زيت ، يفاخر فيه
الأعضاء بأنهم فدائيون انتحاريون .. وكتبوا في رام الله أن حزب الشعب هو حزب
الزلزال،وأنه حزب دعائمه الجماجم والدم .. واللافت أن هذه الشعارات تصدر عن
أعضاء حزب لا يؤمن بالكفاح المسلح ، وموقفه من قرار التقسيم قديم ومعروف ..
الأمر الذي يبرز مقدار التأييد الشعبي الجارف للعمليات الاستشهادية ..إلى
الحد الذي تضطر فبه بعض التنظيمات السياسية ، إلى التناغم والتماهي مع
التوجهات الشعبية ولو بالشعارات .. أو لنقل إن جرائم الاحتلال من جهة ،
ونتائج العمليات الاستشهادية من جهة ثانية ، أدت إلى ما يشبه الإجماع
الفلسطيني حول العمليات الاستشهادية .
غني عن البيان النقلة الهائلة التي يمكن ملاحظتها في نفسيات الأمة ، رجالاً
ونساءً وأطفالاً ..وعودة الحياة إلى الجسد الواحد ، بحيث صارت تتداعى للعضو
المصاب سائر الأعضاء تعاطفاً وتواداً وتراحماً وسهراً وحمىً .. لقد بدأت
الأمة تتعافى من الوهن وتشفى من حب الدنيا وكراهية الموت ..ويوشك أن ينتفض
الجسد كله ضد الأَكَلة المتداعين عليه ليردهم على أعقابهم ، بل ويلاحقهم إلى
عقر ديارهم .
لقد بدأنا ندرك أنه لا يوقف الجرائم الصهيونية إلا أن يذوق المحتلون من نفس
الكأس .." فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " ، وقد وجد
الفلسطينيون بالملموس أنه لا يجدي مع القتلة إلا أن يردوا لهم الصاع صاعين ..
وأنه لابد أن نريهم العين الحمراء ، بدلاً من أن نرفع أمامهم الرايات البيضاء
.
لقد لاحظ الفلسطينيون ، منذ سنوات ، كيف كانت العمليات الجهادية عموماً ،
والاستشهادية بشكل خاص .. تكشف هذا النمر الورقي على حقيقته فإذا هو يفقد
السيطرة ويتصرف بحماقة وجنون ، وإذا شذاذ الآفاق في هذه ( الدولة ) يسقطون
الحكومة تلو الحكومة لأنها لم تقم بحمايتهم .. وإذا العالم يجتمع في شرم
الشيخ لإنقاذ هذا الكيان الكرتوني .. كما احتاج في حرب 1973 إلى جسر جوي
أمريكي لوقف الانهيار .. وكما يجري في هذه الأيام حيث تتلاحق الاتصالات
والوفود ، وتتضاعف الضغوط على الفلسطينيين كي " يهدئوا اللعب " .. الأمر الذي
يستدعي ، كما يرى البعض ، أنه لا بد من الانحناء أمام العاصفة .. مع
الاستفادة سياسياً من هذه العمليات لتحسين الموقف التفاوضي .. بينما تشترط "
إسرائيل " ملاحقة المجاهدين وتحقيق أمنها لتلقي علينا بالفتات ، وترمي لنا
ببعض العظام لنكون كلاب حراستها .. في حين يؤكد كل العقلاء وخبراء السياسة
والحروب ، أن الطريق إلى الحرية والاستقلال هو التزام العمل بمنطق القوة .
رحم الله أستاذنا الشهيد الدكتور عبد الله عزام ، فلطالما كرر في كتبه وخطبه
ومحاضراته ، أنه لا يكف بأس الذين كفروا ولا يوقف عدوانهم وجرائمهم إلا
القتال والتحريض عليه .. وكان لا يمل يستشهد لذلك بالآية الكريمة ( فقاتل في
سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين ، عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا
والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً . / النساء 84 ) .
لقد عرف الفلسطيني مواطن قوته ، وطريق انتصاره ، قتالاً وتحريضاً وطلباً
للموت وعدم حرص على الحياة .. وهي ذاتها مقاتل عدوه .. وما دام قد عرف .. فإن
الرسول عليه السلام يناديه أن .. عرفت فالزم .