ذكرني أحد جلسائي بأبيات من الشعر ، كنت نسيتها ، وهي من أثير الشعر إلى نفسي
..
خلت فلسطين من أبنائهـــــــا النجب *** وأقْفَـــرت من بني أبنــائها
الشهــب
طارت على الشاطئ الخالي حمائمُه *** وأقلعت سفن الإســلام والعــــــرب
يا أخت أندلس صبراً وتضحيــــــــة *** وطولَ صبر على الأرزاء والنَّوَب
ذهبتِ في لجَّةِ الأيام ضائعــــــــــة *** ضياعَ أندلسٍ من قبل في
الحِقَـــب
وطوحت ببنيكِ الصيــــد نازلـــــة *** بمثلهـــا أمـة الإسلام لــــم
تصبِ !
وتداعت بي الذكريات إلى كتيب كنت قرأته زمن المراهقة ، وشدني بتفسيره الجديد
لآيات سورة الإسراء :
" وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ، لتفسدن في الأرض مرتين ، ولتعلن علواً
كبيراً ، فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد ،
فجاسوا خلال الديار ، وكان وعداً مفعولاً ، ثم رددنا لكم الكرة عليهم ،
وأمددناكم بأموال وبنين ، وجعلناكم أكثر نفيرا ، إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ،
وإن أسأتم فلها ، فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم ، وليددخلوا المسجد كما
دخلوه أول مرة ، وليتبروا ما علوا تتبيرا ، عسى ربكم أن يرحمكم ، وإن عدتم
عددنا ،، وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا " أظنه الشيخ : أسعد بيوض التميمي ،
يقرر في ذلك الكتاب أن وعد الآخرة هنا هو الاحتشاد اليهودي الحالي ، وما أمد
الله به شعب بني إسرائيل من الأموال والبنين والنفير ، وما يتبعه من تسليط
غيرهم عليهم ليسوءوا وجوهههم ، "وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا
ما علوا تتبيرا" .
وذلك مرتبط موضوعياً بقوله - تعالى- في آخر السورة ذاتها : " فإذا جاء وعد
الآخرة جئنا بكم لفيفاً " .
وسواء كان هذا التنزيل للآيات سديداً ، كما مال إليه جمع من المعاصرين ،
كتاباً ومتحدثين ومفسرين ، أو كان الأمر كما قاله الطبري في تفسيره (9/27) :
" وأما إفسادهم في الأرض المرة الآخرة ، فلا اختلاف بين أهل العلم ، أنه كان
قتلهم يحيى بن زكريا ... " .
فإن قوله - تعالى- : " وإن عدتم عدنا " متضمن للإفسادات المتلاحقة التي
يجترحها شعب إسرائيل ، والعقوبات العادلة التي يتلقاها دون اعتبار .
وفي سورة الأعراف : "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم
سوء العذاب . ".
وهذا ؛ لأنهم رفضوا الرحمة التي وعدوا بها " عسى ربكم أن يرحمكم " وهي بعثة
النبي - صلى الله عليه وسلم- الذي كان رحمة لهم وللعالمين ، فحقت عليهم كلمة
العذاب ، ففرقهم الله –تعالى- في الأرض أمماً ، وسلط عليهم الجبارين ، وفي
كتابهم التوراة تجيء هذه الكلمات المتقاطعة :
· " واستأصلهم الرب من أرضهم بغضب ، وألقاهم إلى أرض أخرى " .
· " يجلب الرب عليك أمة من بعيد ، من أقصى الأرض ، كما يطير النسر ، أمة لا
تفهم لسانها ، أمة جافية الوجه ، لا تهاب الشيخ ، ولا تحن إلى الولد "
· " ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصى الأرض إلى أقصاها ، وفي تلك الأمم لا
يكون قرار لقدمك ، بل يعطيك الرب هناك قلباً مرتجفاً ، وكلال العينين ، وذبول
النفس ، وتكون حياتك معلقة قدامك ، وترتعب ليلاً ونهاراً ، ولا تأمن على
حياتك " .
· " يرد الرب سبيلك ، ويرحمك ، ويجمعك من جميع الشعوب التي بددك إليهم ، إن
يكن بددك إلى أقصى السماوات فمن هناك يجمعك الرب .. ويحسن إليك ، ويكثرك أكثر
من آبائك ".
إن اختيار اليهود لفلسطين بالذات كان قطعاً لاعتبارات دينية وتاريخية ، وليس
اقتصادية أو سياسية ، ولذا دفعوا ويدفعون الثمن غالياً لهذا الاختيار ، فقد
يجوز لو أنهم اختاروا أي بلد آخر في العالم ، أو في العالم الإسلامي لاستقروا
فيه ، ونسي ، ونُسوا .
ولكن كيف تُنسى أرض نوه الله بذكرها في القرآن ؟ كيف تمحى الأرض المقدسة من
ذاكرة المسلمين ؟ كيف تغيب القرى التي بارك الله فيها ؟ كيف يهدر المسجد
الأقصى الذي بارك الله حوله ؟
أم كيف لهم أن يختاروا غيرها ، وهي موعد الملاحم التي يصرخ فيها الشجر والحجر
: يا مسلم ، يا عبدالله ، هذا يهودي ورائي فاقتله !
" هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن
يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا
، وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيوتهم بأيديهم ، وأيدي المؤمنين ، فاعتبروا
يا أولي الأبصار " .
إنها السنن ، أهل القلاع والحصون والمنعة والسلاح يخطئون في حساباتهم ،
فيضطرون للتراجع والانسحاب ، ويخربون بيوتهم بأيديهم مباشرة ، وبأيدي
المؤمنين المنصورين عليهم .
وها هو حلم إسرائيل الكبرى ، وشهوة التوسع والابتلاع .. ترتد أعباءً مادية،
ومعنوية ، داخلية ودولية ، ومن ثم تتحول تلك الأحلام إلى تصورات واقعية ، لا
تلغي من حولها ولا تعتد بقوتها ، ولا تبالغ في الاعتماد على العنصر الخارجي .
وإذا كان للعولمة آثار سيئة ضخمة في شتى مجالات الحياة ، فربما كان من
إيجابياتها أن الدور الريادي والمنفرد الذي كانت تقوم به إسرائيل في خدمة
المشروع الغربي لم يعد بذاك الوهج والقوة والمركزية ، فنطاق المصالح أصبح
أوسع وأشمل ، وتأمين المستقبل صار أسهل وأمكن ، والتبرم الشعبي مما يقتطع من
قوته لصالح اليهود بدأ ينمو ، ومثله التبرم الثقافي والعلمي من الاستخدام
السيء لقانون معاداة السامية ، والذي يؤخذ به كثير من المؤرخـين والمحلليـن
والباحثين بحجة العنصرية ومعاداة اليهود لمجرد تشكيكهم في المحرقة ، أو في
بعض جوانبها وتفصيلاتها .
الكثيرون يصيبهم الرعب حينما يسمعون التقارير المؤكدة عن امتلاك اليهود لمئتي
رأس نووي ، أو امتلاكهم لسلاح الجمرة الخبيثة ، أو تطويرهم لأنواع أخرى من
الأسلحة الجرثومية أو سواها .
وهذا دون شك أمر مقلق فعلاً ، ومن حق الشعوب المستهدفة أن تبدي دهشتها
واعتراضها .
لكن .. من يدري ؟ ها هي الدول الشرقية تعاني من تبعات تدمير الأسلحة النووية
التي خلفها لها الاتحاد السوفيتي ، وتعاني من تكاليف الرقابة الفنية والأمنية
عليها ، ها هو السلاح الذي كان مصدر رعب وقوة يصبح في الدول ذاتها مصدر ضعف
وخوف .
العولمة تقدم آليات جديدة للصراع ، في مقدمتها تكنولوجيا المعلومات ، وشبكة
الاتصالات ، وسباق الإبداع والابتكار .
بالتأكيد ؛ هذا لا يلغي آليات الصراع التقليدية ، لكنها لم تعد في الصدارة في
هذه المرحلة .
إسرائيل متفوقة في الأولى ، كما هي متفوقة في الثانية أيضاً ، وكما كانت تقدم
نفسها على أنها الحارس الأمين لمصالح الغرب المادية ، فهي تقدم نفسها أيضاً
على أنها النموذج الحضاري المتفوق في الأرض العربية .
فهل نعي ما يجب علينا فعله في دوامة هذا الصراع ؟ !