خمسة وثلاثون عاماً مرت منذ أن امتدت يد الغدر والخيانة يوم 21/8/69 إلى
دُرَّة مقدسات الإسلام ؛ عنوان عزة المسلمين ونصرهم وقبلتهم الأولى ، فحولت
نار الحقد المسعورة في القلوب الحاقدة إلى ألسنة لهب ؛ أتت على ما يقارب
ألفاً وخمسمائة متر مربع من سقف المسجد الأقصى المبارك ومنبر البطل صلاح
الدين ؛ رمز تحرير بيت المقدس من دنس الاحتلال الإفرنجي ؛ ورمز ارتباط
القادة المسلمين بالقدس وبالمسجد الأقصى المبارك ؛ ورمز عدالة الإسلام ؛
فقد حرر صلاح الدين القدس بعد أن ذبح المحتلون أكثر من سبعين ألف مسلم في
ساحات المسجد الأقصى المبارك ، ولمّا تمكّن وانتصر عليهم استحضر قول الله
تعالى " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين
" النحل 126 فلم ينتقم ؛ بل خيّرهم بين العودة من حيث أتوا أو البقاء في ظل
رعاية الإسلام وسماحته ؛ ليبيّن لكل الدنيا أن المسلمين على مر الأيام هم
المؤهلون للسيادة على الأرض وحماية الإنسان والمقدسات .
وما أن سمع أبناء شعبنا المجاهد بالكارثة حتى هبوا من كل المدن والقرى
والمخيمات الفلسطينية رجالاً ونساء ؛ شيوخاً وأطفالاً لنجدة مسجدهم والدفاع
عنه ؛ رغم العراقيل التي وضعتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في طريقهم .
أوقع الحريق بالمسجد الأقصى المبارك أضراراً مادية فادحة ؛ وتسبب في خسارة
عظيمة لا يمكن تعويضها ؛ فقد شمل أماكن كثيرة من المسجد المبارك ؛ منها
منبر الملك الناصر صلاح الدين الذي يمثل قطعة فنية نادرة من الخشب ؛ صنعه
القائد نور الدين زنكي في حلب ثم حمله إلى القدس القائد صلاح الدين ، ومنها
محراب زكريا بكامل مساحته التي تبلغ 400 متر مربع بكامل نقوشه وزخارفه ،
ومنها أيضاً الزخارف والفسيفساء الموجودة على القبة الخشبية ، والخشب
المزخرف في سقف المحراب ، وأصاب التلف العمودين الموصلين من ساحة القبة إلى
المحراب والقوس المحمول عليهما ؛ وسورة الإسراء المكتوبة بالفسيفساء
المذهبة فوق المحراب ؛ والجدار الجنوبي بجميع التصفيح الرخامي الملون .
وأتت النيران على كامل السجاد ؛ وعلى ثلاثة أروقة مع الأعمدة والأقواس
والزخرفة ؛ وعلى جزء من السقف الذي سقط على الأرض ، وثمان وأربعين من
النوافذ الفريدة بصناعتها وأسلوب الحفر عليها ؛ الذي يمنع دخول الأشعة
المباشرة إلى المسجد .
وكعادتها سارعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى التنصل من أية مسؤولية عن
هذه الجريمة النكراء ؛ فنسبت مرتكبها مايكل دينيس إلى الجنون ؛ لتغطي على
الحرائق الفعلية المبرمجة والخطط التآمرية المنظمة التي يقوم بها العقلاء
والحكماء من دهاقين ساستها . فمنذ أن خضعت للاحتلال أصبحت القدس عرضة
للاعتداء الغاشم وهدفاً للظلم الجائر ؛ تعيث فيها يد الغاصب الصهيوني
تهويداً وتبديلاً للمعالم الحضارية والتاريخية ، حتى جاءت هذه الجريمة
الماكرة فكانت أصرح مثال لعدوانه على حرمة المقدسات الدينية والممتلكات
الثقافية والتاريخية والأثرية ؛ استفز بها مشاعر كل مسلم يحترم مقدساته
ويتمسك بأركان عقيدته . إن من يصنعون هذا الخراب ويسعون إلى هذا الدمار
للمسجد الأقصى ؛ ويفرضون عليه الحصار من كل صوب ؛ ويضيقون الشوارع المؤدية
إليه لا يمكن أن يُستأمنوا عليه ، ويجب أن ترفع أيديهم عنه وأن يُمنعوا من
دخوله ولو للسياحة ؛ قال تعالى " ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها
اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا
خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم " البقرة 114 .
هذا الحريق ارتكب في ذلك اليوم ؛ أما الحريق المستمر الذي يشتعل في مدينة
القدس منذ احتلالها فيتمثل في حرق تاريخها الإسلامي ؛ واستبدال هويتها
العربية الإسلامية بهوية المحتلين الغاصبين ؛ وطمس معالمها الحضارية
لتهويدها ، وأدواتها في ذلك متنوعة متعددة غير مسبوقة ، أقلها الأدلاّء
السياحيون الذين يقدمون المعلومات المزورة عن المسجد الأقصى بأنه جبل
الهيكل المزعوم ، وهذه مؤامرة من نوع آخر ؛ لا بد من التصدي لها وكشف زيفها
بكل الوسائل المتاحة لرفع المظالم عن المسجد الأسير ، إضافة إلى المجازر
التي ارتكبت في ساحاته ومحاولات اقتحامه والانتهاكات المتواصلة لقدسيته .
أما عن ردود الفعل العربية والإسلامية فقد كانت باهتة ضعيفة ومخيبة للآمال
؛ فقد تشكلت على إثر الحريق منظمة المؤتمر الإسلامي التي انبثقت عنها لجنة
القدس ؛ للحفاظ على المسجد الأقصى المبارك والدفاع عن مدينة القدس ؛ وعقدت
المؤتمرات العربية والإسلامية من أجل القدس ومن أجل المسجد الأقصى المبارك
؛ لكن دون أن يصدر عنها خطوات عملية لتحريره وإنقاذه من الأسر ، فتجرأ
الغاصبون المعتدون على مواصلة انتهاكاتهم واعتداءاتهم المتوالية ضد المسجد
الأقصى المبارك وضد مدينة القدس إلى يومنا هذا ، فأدخلت سلطات الاحتلال
المتفجرات والقنابل لنسفه بأدواتها من غلاة المستوطنين المتطرفين ، لكن
عناية الله تعالى ويقظة أبناء المدينة المقدسة حالت بينهم وبين ما أرادوا ؛
قال تعالى " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " الأنفال 30 ، وقامت
بفتح الأنفاق واستمرت بالحفريات تحت أساساته وجدرانه لتقويضه ؛ بحجة
التنقيب عن الآثار رغم أن علماءهم أكدوا أن لا آثار لهم فيه ، وتزايدت
محاولات الجماعات المتطرفة دخول ساحاته للصلاة فيها ؛ ووضع حجر الأساس
لهيكل مزعوم ؛ هو قصة مختَلَقَة ومحض افتراء ووهم يرمي إلى تحقيق أهداف
سياسية ؛ عن طريق فرض الأمر الواقع بالقوة والإرهاب ، فالمسجد الأقصى
المبارك بكل جزء فيه حق خالص للمسلمين لأنه جزء من عقيدتهم ، وصدرت الأحكام
والقرارات الدولية التي تؤكد هذا الحق بعد ثورة البراق عام 1929 ، لكن
سلطات الاحتلال لم تلتزم بتلك القرارات ولا بما تلاها ؛ فهذا هو نهجها لا
تحترم الإجماع العالمي ولا تبالي بأي قرار دولي .
نحن نعلم أن للأقصى رباً يحميه وللقدس رباً يرعاها ، ولها أبناء مرابطون
وحراس مخلصون شرفهم الله بأرفع وسام ؛ بأن كانوا في الخندق الأول يفتدونها
بالمهج والأرواح ، لكن هذا لا يعفي أمة العرب والمسلمين من مسؤوليتها في
فريضة الدفاع عن القدس وحمايتها ومؤازرة أهلها . فعلى مر التاريخ التزم
المسلمون جيلاً بعد جيل بتحريرها كلما تعرضت للغزو أو الاحتلال لارتباطها
بعقيدتهم ؛ حيث أنها محور معجزة الإسراء والمعراج الخالدة ؛ إليها انتهى
الإسراء ومنها بدأ المعراج إلى السماوات العلا ؛ والمعجزة جزء من العقيدة ؛
قال تعالى " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير " الإسراء 1
.