قال تعالى " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم
يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من
خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون "آل عمران 169-170 .
في مثل هذا اليوم الجمعة الخامس عشر من رمضان قبل عشرة أعوام ؛ خطَّت يد
الغدر في ذاكرة الأيام ؛ سطوراً حمراء ؛ وسفك الحقد الصهيوني المسعور أزكى
الدماء ، ففي صباح رمضاني عابق بالإيمان ؛ وعلى أريج ذكريات المجد التي
سطَّرها المسلمون في بدر ؛ ارتكب المجرم السفاح باروخ جولدشتاين مجزرة
دموية نكراء في الحرم الإبراهيمي الشريف ؛ سقط فيها المصلّون العزّل مضرجين
بدمائهم ، فاختلطت رائحتها العطرة برائحة المسك المنبعثة من غار أبي
الأنبياء ، وتعطرت بها جنبات الحرم الشريف ؛ قال صلى الله عليه وسلم "
والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة
كهيئته حين كلم لونه لون دم وريحه مسك " رواه مسلم .
كانت المجزرة مسلسلاً من القتل استباح الدم الفلسطيني ؛ ابتدأ في المحراب
وامتد إلى مداخل الحرم والسُّلَّم المؤدي إليه ووصل إلى الشوارع والطرقات
ومحيط المستشفيات ؛ فطال رصاص الظلم والغدر مَن هبُّوا للتبرع بالدم وإنقاذ
الجرحى ونقل المصابين ، حتى المقابر صارت ساحات للموت فلم يسلم منه الذين
شيَّعوا الشهداء بل دُفنوا معهم بعد لحظات ؛ فبلغ عددهم اثنين وأربعين ؛
نحسبهم ممن يتخذهم الله شهداء ويغفر لهم بأول قطرة دم تراق ؛ قال صلى الله
عليه وسلم ذاكراً خصال الشهيد " يغفر له بأول دفعة من دمه " رواه الطبراني
، أما الجرحى والمصابون فقد تجاوزوا المائة .
ويتنصل جيش الاحتلال من دوره في الجريمة ؛ لكن كل الأدلة والأحداث وإفادات
الشهود حتى من اليهود أنفسهم تؤكد مسؤوليته الكاملة عمّا جرى ، فقد كان
الرصاص ينهمر على الناس من كل صوب ؛ ولم يقدم الجنود أية مساعدة للمصابين
بل أعاقوها فلم يسمحوا لسيارات الإسعاف بالوصول إلى مداخل الحرم ؛ ومنعوا
المصلين من نقل الجرحى والمصابين ، كما أن استعراض الأحداث والاستفزازات
التي سبقت الحدث تدل على التخطيط المبيت لارتكابها ، والأحداث بعد المجزرة
أيضاً تدل على ذلك ؛ فقد عوقب أهل الخليل التي ارتقى أبناؤها البررة إلى
العُلا بالاعتقالات ومنع التجول وفرض الحصار ، أما المجرم جولدشتاين فقد
كوفىء وأقيم له نصب تذكاري واعتبر بطلاً قديساً .
يوم لا ينسى في تاريخ مدينة خليل الرحمن الباسلة التي خرجت غاضبة ثائرة ؛
وخرجت معها جماهير شعبنا الفلسطيني في كل مكان في القدس والضفة وفي غزة ؛
وامتدت الشرارة إلى داخل فلسطين المحتلة عام 48 ، وتفجر بركان الغضب
واشتعلت المدن ناراً تحت أقدام الطغاة الغاصبين ؛ في مسيرات ومظاهرات
ومواجهات دامية ، فتصدت لهم قوات الاحتلال وجنودها المدججون بالسلاح
وعرباتهم العسكرية المجنونة ؛ وفتحوا عليهم الرصاص والنار فسقطت كوكبة
جديدة من الشهداء غيلة وغدراً .
مجزرة جديدة ضد شعبنا ترجمت الحقد الصهيوني على القيم الأخلاقية والشرائع
الإلهية والقوانين والمعاهدات الدولية ؛ وجريمة اهتز لهولها كل صاحب ضمير
حي ؛ واعتداء صارخ انتهكت فيه قداسة المكان والزمان وجلال الصلة بالله عز
وجلّ ؛ فالمكان هو الحرم الإبراهيمي الشريف مثوى الأنبياء وبيت الله
المقدَّس ؛ والزمان هو شهر رمضان المبارك شهر الصيام والقيام ، وأما الصلة
بالله تعالى فقد انتهكت بذبح المصلين الركّع السجود بين يديه سبحانه في
صلاة الفجر التي تشهدها ملائكة الرحمن .
إن الحقد الغاشم لم يراعِ قدسية لمكان ولا حرمة لزمان أو عبادة ؛ فقد صب
حميم نيرانه على المدنيين الآمنين ؛ فسقط عشرات الشهداء والجرحى في جريمة
خطط لها فكر صهيوني استيطاني وعسكري ، له تاريخ حافل بالمجازر قبلها وبعدها
ضد شعبنا الصامد المرابط ؛ فلا نزال نشهد في كل يوم مجزرة جديدة تستهدف
الأطفال والنساء والشيوخ ؛ وتطال البشر والشجر والحجر وكل مظاهر الحياة ؛
سقط فيها من الشهداء والجرحى عشرات الألوف .
لقد ارتكبت مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف لهدف اتَّضحت معالمه هو تهويد
مدينة الخليل ، فبعد انقضاء فترة حظر التجول الذي فرض على المدينة واستمر
أكثر من شهر ؛ للحفاظ على أمن المستوطنين ولضمان حياتهم ؛ وبعد إغلاق للحرم
في وجه المصلين المسلمين دام أكثر من شهرين ؛ فوجىء أهل الخليل بإجراءات
تهويد الحرم الإبراهيمي فقد استغلت قوات الاحتلال هذه الفترة بتقسيمه
وتهويد الجزء الأكبر منه ؛ وتحديد عدد المصلين وأوقات دخولهم إليه ؛ بينما
يسمح لليهود بالدخول والخروج متى شاءوا .
ثم تواصلت المؤامرات على هذه المدينة الأبية حتى اليوم ، فقد غُرست فيها
البؤر الاستيطانية وأغلقت شوارعها ، وارتكبت فيها أفظع الانتهاكات لحقوق
الإنسان : فقتلت فيها الأنفس وأزهقت فيها الأرواح البريئة ، وحظر التجول
على أهلها يستمر فرضه لفترات طويلة ، والحصار الاقتصادي المتواصل أدى إلى
شلّ الحركة التجارية في أسواقها ، والاعتداء مستمر على ممتلكات أهلها بهدم
المباني الأثرية والتاريخية في أبشع مذبحة تستهدف طمس معالمها الحضارية
وتغيير هويتها العربية الإسلامية ، وبفتح طريق استيطاني يربط بين مستوطنة
قريات أربع والحرم الإبراهيمي الشريف وجميع البؤر الاستيطانية لتحويلها إلى
مدينة يهودية .
لكن هذه المدينة الصامدة التي شهدت مذبحة الفجر وعاودت الوقوف بثبات ؛
ستبقى عربية إسلامية بجهود أبنائها المخلصين الأوفياء ؛ الذين يعاهدون الله
على التمسك بها والدفاع عنها ، ومواصلة إعمارها والتسوق من أسواقها
والمواظبة على الصلاة في حرمها الإبراهيمي الشريف ليبقى مسجداً عامراً
بالمؤمنين يصدع من على مآذنه صوت الحق الله أكبر . فلن تزيدهم المجازر إلا
إصراراً على رفض الانكسار ، فإنهم موقنون بأن الحياة الطبيعية لمدينة
الأنبياء والصالحين لن تعود إلا برحيل آخر مستوطن وجندي محتل عن أرضها
الطهور .