الانتفاضة يكبر المسلمون جميعاً الوقفة الصامدة للشعب الأعزل المقهور ، رغم
نزيف الدماء ، والحيف العالمي ، والعجز الإسلامي 0
لقد أصبحت كلمة (( الانتفاضة )) مشبعة بالمعاني الرمزية الخارقة ، وفتحت
باباً للمقاومة يصعب على العدو سده 0
وهذه أفكار من وحي الانتفاضة :
1.
لقد أثبتت الأحداث أن الصبيان العزل الجياع يستطيعون أن يصنعوا شيئاً ، وهذه
تعرية لفقد الإرادة لدينا ، فمع الإرادة الصادقة يكتشف المرء فرصاً كبيرةً
للعمل والإبداع 0
نعم : ليس بالضرورة أن هذا العمل سيقلب موازين القوى ، أو سيقدم حلولاً
جذريةً ، لكنه سيفتح آفاقاً جديدة أمام الأجيال الجديدة 0
2.
هل نستطيع أن نعلن انتفاضةً مماثلةً ، ودائمةً ، على أنانياتنا وحظوظنا
الشخصية ، ومصالحنا الذاتية ، فلا تدخل في حسابات استثمار خاصة لهذا الحدث أو
ذاك ، ولا نقبل أن يوظف بخدمة فردٍ أو حزبٍ أو طائفةٍ أو جهة ، ولا أن يكون
فرصةً لتحقيق مكاسب من هذا القبيل ؟ 0
إن الأمة في حالة صراع دائم مع اليهود ، لكنها يجب أن تكون في صراعٍ دائمٍ مع
سلبياتها 0
فهل نرتفع عن مستوى النظرة الضيقة ، ونلغي من حسابنا المكتسبات الخاصة لنجعل
ديمومة المقاومة هدفاً أعلى تذوب في طياته وتضاعيفه كل الأهداف الصغيرة ؟ 0
إن الأمة مجموعة أفراد تزيد على المليار يتشكلون في تجمعاتٍ عديدةٍ ، مختلفة
الشيات والألوان والملامح ، حزبية ومذهبية وجغرافية 000
وليس ثمة شك أن المصالح متقاطعة في العديد من الحالات ، فلنجعل المصلحة
العليا للأمة هي شعارنا الصادق ، وإن ترتب على ذلك فوات بعض مصالحنا الشخصية
، أو الحزبية ، أو الوطنية .
إن تقديم الانتماء للذات ، أو للحزب ، أو للطائفة ، أو للبلد ، على الانتماء
العظيم للأمة ، هو الذي خلق هذه الازدواجية ورسخها ، وإلا ففي الحقيقة أن
مصلحة الأمة العامة هي بالتالي مصلحة محققة لجميع أفرادها0
يبدو أحياناً أننا مستعدون للقتال على الغنائم حتى قبل الظفر بها ، وبمجرد
مانجد صدى إعلامياً ، أو تعاطفاً شعبياً ، ندخل في دائرة جديدة : من سيستفيد
من هذا التجاوب ، هذا الفصيل ؟ أم تلك المجموعة ؟ أم ذاك الحزب ؟ 0
ثم ندخل في دوامة أخطر من السعي إلى تفويت المصالح على الآخرين ، لأنها –
فيما يبدو لنا - ستكون على حسابنا ، أو لأننا نعتقد أنهم استغلوا الحدث
بطريقة ما ، فلنقطع الطريق عليهم 0
إن هذا هو مايحلم به العدو تماماً ، وهو الذي يقع دائماً 0
استثمار المصالح المتناقضة هو الثغرة التي ينفذ منها العدو إلى صفوفنا0
وما وقع في صفوف الشعب الفلسطيني من انشطار حول الأعمال المتعلقة بحرق أحد
الفنادق ، والتي صاحبت إحدى التحركات الشعبية ، لهو دليل على ذلك 0
وإذا كان القائمون على هذا التحرك أعلنوا عدم موافقتهم على هذا العمل ،
وإدانتهم له ، واعتبروه نوعاً من الغضب غير المنضبط ، فلماذا لا نصدقهم ؟
وإذا لم نصدقهم ، فكيف نلوم ( إسرائيل ) إذا لم تصدقنا في قصة الجنديين
اللذين اختطفتهما الجماهير من أحد المراكز الأمنية بالذات ؟ 0
إن من مصلحة الشعب الفلسطيني أن يتسامى فوق الاعتبارات الجزئية ، والمصالح
الآنية ، ولا يسمح لأي مؤثر أن يصرف السهام عن صدور العدو المشترك إلى صدور
الجيرة والمساكين 0
وهذا يقودنا إلى الأمر الثالث ، وهو :
ثالثاً : أن التحدي اليهودي يمكن استثماره لتحقيق نوع من التقارب الإسلامي 0
إن الوحدة بين المسلمين - وبكل صراحة - لا ترقى أن تكون حلماً ، فضلاً عن أن
تكون واقعاً مشهوداً
فالتناقضات أعمق من أن يمكن ردمها ، أو القضاء عليها 0
لكن هذا لا يعني فقدان الأمل 0
أ -
فهناك مواقف متباعدة يمكن أن تتقارب ، أو تتوحد ؛ لأن الهالات الوهمية
المحيطة بها أكبر من حقيقة الاختلاف الموجود ، وفي حالات كثيرة يكون هناك
تطابق في الأصول والقواعد العامة ، والمنطلقات الثابتة ، والاختلاف في جزئيات
، أو تطبيقات ، أو في حجم الاهتمام أو نوعيته 0
ب -
وهناك نقاط اتفاق كثيرة ، وكبيرة ، يمكن توظيفها ، والعناية بها ، عوضاً عن
الدندنة الدائمة حول مسائل الاختلاف .
ودون أدنى شك ، فالانفعالات النفسية ، والانطباعات الشخصية تضخم جوانب
التباين ، حتى تكون كالكف التي يقربها صاحبها من عينه فتحجب عنه رؤية الكون
كله 0
إن مساحات الاتفاق بين العديد من شرائح الأمة واسعة ، سعة هذا الدين الذي جمع
بعد الفرقة ، ووحد بعد الشتات ، وأغنى بعد العيلة ، وأعلنها في الكتاب الكريم
(( إن هذه أمتكم أمة واحدة ، وأنا ربكم فاعبدون )0
ثم ابلغ نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم فصاح بالناس : ( لاترجعوا بعدي
كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) ( سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ) 0
وانطلاقاً من مساحات الاتفاق يمكن الخروج بمواقف موحدة في بعض الأزمات ،
وتظافر وتناصر في بعض الميادين 0
كما يمكن الاتفاق على مشاريع جزئية ، أو برامج محددة ، إن في الإعلام ، أو في
الاقتصاد ، أو في التنمية ، أو في التعليم ، أو في الدعوة ، أو سواها 0
يكفي أن نتفق على هذا البرامج ، أو نتوحد حول هذا المشروع ، ثم ليكن لكل منا
طريقه الخاص 0
ج - ثم هناك ترتيب العداوات ، فيما يتعلق بالخصوم الحقيقين ، فهناك عدو ،
وهناك أشد عداوة ، وإذا أمكن مواجهة الجميع ، فحبذا وقرة عين ، لكن حين يكون
الجهد محدوداً ، وحين يكون القتال على أكثر من جهة غير ممكن ، فمن حكمة الشرع
حينئذ أن أوفر الجهد للعدو الأكبر ، وهذا لايمنع من مدافعة الآخر وفق رؤية
متكاملة مدروسة 0
رابعاً وأخيراً : فإن الانتفاضة المباركة في الأرض المباركة هي نيابة عن
الأمة كلها في مدافعة المغتصب ، وفضح ألاعيبه ، وكشف أساليبه ، وتعرية وحشيته
وغطرسته أمام العالم 0
وهي تذكير حي بقضية الاستعمار اليهودي الصلف الذي دنس هذه الأرض ، وفصلها عن
بقية الجسد الإسلامي 0
وقد كانت صيحات المسلمين على منابرهم خلال هذا التصعيد الأخير هي صيحات
التنادي للجهاد ، بشموليته وسعة مفهومه 0
فلنصدق الوقفة مع إخواننا في الضراء ، ولنشاركهم مرارة عيشهم ، إن لم يكن
حضورياً ، فليكن شعورياً ، ولنقتسم معهم لقمة الخبز ، وليكن لهم من قلوبنا ،
وعقولنا ، ومجالس درسنا وحديثنا ، وإعلامنا ، وصلاتنا ، وتواصينا مايشد على
أعضادهم ، ويواسي جراحهم لنكن( مطريين) هذه المرة :
بنو مطر يوم اللــقاء كأنـــــهم ** أسود لها في غيل خفــــان
أشـــــــــــــبل
هـمـو يـمـنـعـون الـجـار حـتـى كأنمـا ** لـجـارهـم بين الـسـمـاكـيـــن
مـنـزل
لهـامـيـم في الإسلام سـادوا ولـم يكن ** كــأوّلــهــم فـي
الــجــاهــلــيــة أوّل
هـمـو القوم إن قالوا أصابو وإن دعوا ** أجابوا ، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
فــمــا يـسـتـطيع الـفـاعـلـون فعالهم ** وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا
كـتـبـه
سـلـمـان بـن فـهـد الـعـودة
20/7/1421 هـ