كثيرة حفلات الأعراس في ربوع فلسطين ، ما أطيب رائحتها ، وأكثر عشاقها ، الكل
يفرح لفرح العريس ، حينما تُزف عروسه إليه ، النساء تزغرد ، والرجال مهنئون
، والأولاد يمرحون ويلعبون ، في أيديهم اللُّعَب ، وملابسهم تزهو بألوانها
المختلفة .
لكن العرس الفلسطيني ليس كأي عرس ، إذا حضرته شممت رائحة المسك ، وأي مسك
لا تجده في عالم الدنيا ، فكثير من الصحابة – رضوان الله عليهم-شموا رائحة
الجنة وهم في الدنيا ، وما فصلهم عنها إلاّ بضع تميرات فرموها من اليد ،
وتقدّموا فوصلوا إلى جنات النعيم .
عريسنا حقيقة زفّ لعروسه ، وهو يرتدي بدلة عرسه ، ورائحة الطيب تفوح من
ملابسه ، بل من جسده ، كان طويل الجسم أسمر البشرة ، لا تغادر الابتسامة
شفتيه ، كلما لاقى أحداً صافحه وسلّم عليه ، وكان يقبض على يد صديقه فلا
يتركها حتى يبادر الآخر بترك يده ، إنه قوّام ليل ، صوّام أيّام الإثنين
والخميس ، هادئ الطبع لا ينفعل ، مكسور النظر إلى الأرض ، لا يطيش له نظر
ذات اليمين وذات الشمال ، سئل عن ذلك .. لماذا أنت هكذا ؟ فقال : الحياء
شعبة من الإيمان .
إذا خلا بنفسه قرأ القرآن بصوت مسموع ، إذا خالط الآخرين ترى حركة شفتيه ،
ظنه بعض الناس أنه يعاني من رعشة في شفتيه ، وعندما سئل ضحك وقال : أمر
طبيعي .. فألحّ عليه بعض الإخوة ذات مرة ، فقال : الأعمار دقائق معدودة ،
فما فات لن يعود ، وعلينا استغلال الوقت الذي نُسأل عنه غداً ، أما إصراركم
على الإجابة لماذا هذه الرعشة على شفتيك فأقول : –الحمد لله ما مرّت عليّ
ساعة إلاّ وأنا مع كتاب الله تعالى ، أو في تسبيح أو تهليل ، فلا أدع
مجالاً للشيطان أن يدخل ذاكرتي ، وإذا خلوْتُ بنفسي رفعت صوتي بقراءة كتاب
الله تعالى .
هكذا حياتي لا يوجد فيها الفراغ الذي يدّعيه الناس ، ولا الملل الذي
يُمرضهم ، ولا الشرود الذهني الذي يضيعهم .
هذا هو صاحبنا عريس هذه الليلة .. جاء ليدخل على عروسه ، وإذا بقوات
الاحتلال تداهم المنزل ، بحثاً عن مطلوب نتيجة بلاغ كاذب ، والمُبلِّغ رجل
حاسد حاقد ، يريد أن يوقع في أهل العريس غصّة في نفوسهم ، وألماًً في
قلوبهم ، وجعل فرحهم نكداً .
أطلق الجنود النار لترويع الناس ، وتثبيتهم في أماكنهم حتى لا يغادر أحد
منهم المكان ليتم القبض على المطلوب .
وكانت بداية رقصات العريس ، إذ هوت الرصاصة الأولى ، فاخترقت قلبه والثانية
في رقبته ، أما الثالثة ففي الرأس ، فهوى العريس أرضاً يفوح منه المسك ،
الدم أحمر قاني ، والرائحة رائحة المسك ليس لها في الدنيا مثيل ، وانطلق
صوت الأم - لكن الصبر عند الصدمة الأولى - قالت : إني أزغرد لهم ، لقد زُفّ
في هذه الليلة زفافين لعروسين اثنتين ، وانهالت عليه تقبّله ، وهو كالوردة
يتثنى بين يديها ، الناس لا تصدّق ، أهي زغاريد فرحة عرس !! أم أن الأم
أصابها انهيار عصبي فأصبحت لا تميّز بين العرس والعرس ! قالت للناس :
اسمعوا .. إن الله اختاره لزوجته من الحور العين قبل أن يدخل على زوجته من
الآدميين ، لا تظنوا أني جُننت ، بل أنا بكامل قواي العقلية ، باركوا لي ..
باركوا لي .. ما أحسن اختيار الله ، وما أفضل نعمه ، أريده عريساً في
الدنيا ، وأراده الله عريساً في الأخرى ، مبروك يا ولدي .. مبروك يا ولدي ،
يا صاحب الزفافين ، أنت إبني وأنا أمك ، مبروك مبروك يا ولدي .. وانهالت
الدموع من عينيها وأخذت تقبّله والناس يقولون لها : كفى كفى ، وهي تقول :
ألا يحق للأم أن تُودّع ولدها !! فهي تفرح لفرحه ، دعوني أُشبِع ولدي قبلات
قبل أن تقبّله زوجاته المنتظرات ، الأولى ها هي ترتدي بدلتها البيضاء ،
وتنتظر دخوله عليها .. والثانية أيضاً في انتظاره ، ولكن لا نراها .
أخذ الناس يبكون ، وانقلب العرس إلى حزن ، وأما العروس التي كانت في
الانتظار ، نزلت وتقدّمت لزوجها ، فنظرت إليه وقالت كلمتها المشهورة : كنت
لي اليوم ، ولكنك حُرّمت عليّ ، فأصبحت لغيري ، وزُففت لها وتركتني ، اللهم
اجمعني معه غداً ، ولا تُفرّق بيننا يا رب العالمين .
عاث جنود الاحتلال في المدعوّين تنكيلاً ، وفتّشوا المكان ، ثم انسحبوا
تاركين وراءهم شهيداً يتلطّخ في دمه ، وبات الناس في هرج ومَرج ، فأصرّت
الأم والأب على إدخاله على عروسه الليلة قبل الغد ، وقالوا : لا تتركوا
محمداً بدون عروس هذه الليلة ، أسرعوا في إجراء الدفن الليلة قبل الغد ،
وسرعان ما نُفّذ طلب الأبوين ، ودفن العريس الشهيد .
وأما أنتِ أيتها العروس ، ما بالك صامتة واجمة لا يرتد إليك طرف ، وما كان
منها إلاّ أن وقفت وقالت : دعوني أُغيّر ملابسي ثم أرجعوني إلى أهلي حتى
يشاء الله أن أُزَفّ مثل هذا الزفاف الذي زُفّ فيه زوجي إلى زوجته .
وفي الصباح كان رجوع العروس إلى بيت أهلها ، ودامت الأفراح بل التعازي لتلك
الدار في ذاك المخيم ثلاثة أيام ، والناس يُعزّون ، والكل يبارك .. وكان
حديث الشهر ( العريس الشهيد .. الشهيد العريس ) . تم بحمد الله
www.ibenbaz.orq
info@ibenbaz.org