اطبع هذه الصفحة


خطبة الوداع و إرساء دعائم الإصلاح

بقلم الأستاذ :
أحمد حامد الجبراوي ( المحامي )
الخرطوم — ذو الحجة — ١٤٤١ ھ

 
بسم الله الرحمن الرحيم



كانت حجة النبي صلى الله عليه و سلم سنة ١٠ ھ ، و قد تنادى الصحابة إلى المسير معه متأسين متعلمين ، و خطب بهم خطبته الشهيرة التي أرسى فيها أهم أسس و دعائم البناء و الإصلاح و هو يودع الأمة بقوله : ( فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) ، و كلمات الوداع قطعاً لها رفعتها و مقامها و اعتباراتها الخاصة .

¤ و قد كان من بين هذه الأسس و الدعائم الإصلاحية ، ما يلي :


أولاً : وحدانية الله أُسُّ الإصلاح :
و ذلك بقوله : ( أيها الناس إن ربكم واحد ) فلا إصلاح بلا تجذير لمعاني العقيدة و التوحيد ، و ذكر وحدانية الرب لأن مقتضاها و مطلوبها هو توحيد الإلهية و إفراد الرب سبحانه ، و هي دعوة الرسل ، و هدف الخلق ، و أعظم مأمور ، و عليها يكون مدار قبول العمل الصالح و أهمية التوحيد فوق كل أهمية و مراده أعظم مراد .

ثانياً : تحديد مصادر التلقي :

و ذلك لقوله صلى الله عليه و سلم :
( قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا ً، أمراً بَيِّناً كتاب الله و سنة نبيه ) .

فما من مشروع حضاري ، أو إصلاحي إلا و لابد له أن تنطلق معالمه من تحديد مصادر تلقي أخذ هذه الهدايات و تحديد معالم طريقها .
فالكتاب و السنة هما مرجعية الأمة ، و تزداد أهميتهما في أيامنا هذه حيث تتصارع الأفكار و المذاهب ، و التي يحاول كل واحد منها الكسب و الإستقطاب على حساب غيره حتى صار العالم كله معتركاً لهذا الصراع .

و إذا كان هذا هو المنطلق الأول فإن مرجعية الكتاب و السنة للمجتمع المسلم من مقتضيات الإيمان و مستلزمات الخضوع لرب العالمين التي لا خيار لمسلم فيها ، قال تعالى :
( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) النساء : ٦٥ .

و قال : ( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُون َ) النور : ٤٧ - ٥٠ .

و قد أكده الرسول صلى الله عليه و سلم بقوله : ( إن اعتصمتم به فلن تضلوا ... ) فمتى اعتصمتم هديتم .

ثالثاً : صياغة و بناء الفرد :

و الفرد يمثل اللبنة الأولى في أي دعوة للإصلاح ، و تمثَّل الإشارة إلى هذا في فقرتين من خطبة الوداع و هما قوله صلى الله عليه و سلم :
( أيها الناس إن ربكم واحد ، و إن أباكم واحد ، كلكم لآدم و آدم من تراب ، أكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى ) ،
و قوله : ( فإن الشيطان قد يئس من أن يُعْبد بأرضكم هذه أبداً ، و لكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم ) .

إن صياغة الإسلام لمن آمن به تعتمد على تربيته على تقوى الله و حفظ الديانة لإيجاد الرقابة الذاتية بحيث لا يحتاج إلى الوازع الخارجي ، ولا إلى القوانين المنظمة لضبط سلوكه و توجيهه .

و سيرة الرسول صلى الله عليه و سلم منذ البدايات الأولى لدعوته تبين بجلاء مدى اهتمامه ببناء هذا الفرد النموذج و تربيته على تقوى الله ، مما يقطع بأن هذا البناء و تلك التربية هما اللبنة الأولى في أي نهضة أو دعوة إصلاح ؛ كيف لا وقد جاء في قوله : ( وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) ، فما أحوجنا إلى إقامة هذه التربية و التزكية في حياتنا .

رابعاً : بناء الأسرة الصالحة :

و التي تتألف من تلك اللبنات الصالحة ، و تنبع أهمية بناء الأسرة المسلمة من كونها اللبنة التالية لبناء الفرد المسلم ، بعد تحديد مرجعيته ، و صياغة الفرد على التقوى ، و ذلك قوله صلى الله عليه و سلم :
( أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقاً ، و لهن عليكم حقا ً، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، و عليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع ، و تضربوهن ضرباً غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن و كسوتهن بالمعروف ، و استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً ، و إنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، و استحللتم فروجهن بكلمات الله ) .

إن بناء هذه الأسرة المسلمة يقوم على تحديد الحقوق و الواجبات الجسيمة الموكلة إلى أطرافها في بناء صرح الإسلام
و هذا من أشد ما تحتاجه المجتمعات المسلمة الآن ، إذ أن المؤامرات لا تزال تستهدفها بطرح النموذج الغربي للعلاقة بين الأفراد تلك العلاقة القائمة على الحرية المطلقة لكل منهما ليتسنى لهم القضاء على الأسرة المسلمة ؛ التي احتفظت بشخصيتها و أخلاقياتها الإسلامية و حضانتها للأمة على مدار القرون و ظلت عصية على الإنكسار ، و التنبيه لهذه الركيزة مما يقوي الأمة و يعضدها .

خامساً : إقامة المجتمع القوي المتماسك :

و بإرساء تلك الدعائم ينشأ المجتمع المسلم القوي ، فقد شملت الخطبة الإشارة إلى علاقة أفراد المجتمع بعضهم ببعض و علاقة الحاكم بالمحكوم .

قال صلى الله عليه و سلم :
( و اعلموا أن كل مسلم أخ للمسلم و أن المسلمين إخوة ) ،
و قوله : ( إن ربكم واحد ، كلكم لآدم و آدم من تراب ) ،
و قوله : ( فلا ترجعوا بعدي كفاراً - و في رواية : "ضُلّالاً " - يضرب بعضكم رقاب بعض ) ،
و قوله : ( إن دماءكم و أموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ) ،
و ليتنبه المسلمون للتأكيد بتوطيد هذه المعاني إذ أن إهمال أي جانب منها ضار .

و حذرت الخطبة من إقامة الإثنيات و القوميات و النعرات الطائفية بديلاً عن ذلك : ( فالناس لآدم و آدم من تراب ) ؛
لأن مؤدى ذلك في نهاية المطاف إلى ما نلمس مقدماته الآن من تفكك و تشرذم في المجتمعات المسلمة ، بل تعدى الأمر هذا المنحدر الخطير إلى استخدام المسلمين في ضرب بعضهم بعضاً .

و أما في مجال العلاقة بين الحاكم و المحكوم فقد أقامته الخطبة بالتنبيه لطاعة أولي الأمر بالمعروف بقوله صلى الله عليه و سلم :
( يا أيها الناس ، أسمعوا و أطيعوا ، و إن أُمِّر عليكم عبدٌ حبشي مجدع ما أقام فيكم كتاب الله ) .

و الأمر التالي تقديم القدوة و النموذج من قِبَل الحاكم لرعيته حتى تكمل طاعتهم له ، و قد ضرب الرسول القائد المثل في خطبته بأمرين عظيمين إذ وضع رِبَا عمه العباس و دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب و ذلك قوله :
( و إن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، و رِبَا الجاهلية موضوع و أول رِباً أضع من رِبَانا رِبَا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ) .
و متى ما اتسمت القيادة بالقدوة و الإلتزام تبعتها الرعية ، و قد قيل لعمر تعليقاً على إحضار جنوده كنوز كسرى و قيصر بين يديه دون طمع فيها : ( عَفَفْتُ فَعَفُّوا ، و لو رَتَعْتُ لَرَتَعُوا ) فالقدوة الصالحة مؤشر مهم للإصلاح .

سادساً : الإصلاح الإقتصادي :

و قد نبهت الخطبة إلى ذلك بتحريم الرِّبَا المهدِّد للمجتمع حينها مبتدئاً فيه بِرِبَا عمه للدلالة على انتظام الأوامر للأمة دون محاباة .

و الإصلاح الإقتصادي إنما يقوم على معايير المساواة بين الجميع فى سائر الأحوال ، و إن مجتمعات اليوم لا تزال تئن تحت الأنظمة الربوية من صناديق مانحة و معاملات امتلأت بها السجون مما أضعف للإقتصاد و أقعد بالإنتاج و عَمَّق من الأنشطة الطفيلية التي تهدد نسيج و تماسك المجتمع .
كما نبهت الخطبة إلى حرمة المال بقوله :
( إنَّ دِماءَكُم ، وأمْوالَكم ، وأعْراضَكُم ؛ حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمة يومِكُم هَذَا ، في شهرِكُمْ هَذَا ، في بلَدِكُم هَذَ ا، ألا هَلْ بلَّغْت ) متفق عليه ، و أقرت الخطبة المِلْكِيَّة و حمايتها و غيرها مما يقوى به الإقتصاد .

سابعاً : ترسيخ المنظومة الإجتماعية :

فلا إصلاح إلا بإكمال المنظومة الإجتماعية المؤسَّسَة على عدم التمييز بين منسوبيه فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ، و إنما يتميز الناس بكسبهم لا بما وُهِبَ لهم .

و يتبع ذلك صيانة المرأة و المحافظة على قيمتها و كرامتها و غيره مما اشتملت عليه الخطبة في هذا المجال ، و رعاية حقوق الميراث و التأكيد عليه ، و التنبيه على حرمة الدماء و تعلية أمرها ، الأمر الذي يتأكد أكثر في مجتمعات اليوم التي هانت فيها الدماء و كثر القتل .

كما دلت الخطبة على أهمية الصلح و إقراره حتى فى الدماء و غيرها مما تؤكده المنظومة الإجتماعية التي اشتملت عليه هذه الخطبة العظيمة .

و بعد :
فهذه بعض الدعائم المهمة التي ركزت عليها خطبة الوداع للنهضة بالأمة و إصلاح أحوالها ، و أن أمتنا في مسيس احتياج لتنزيل هذه المفاهيم للخروج من أزماتها و ما يحيط بها من أخطار .. و الحمدلله رب العالمين .

 

مختارات الحج

  • صفة الحج
  • يوميات حاج
  • أفكار الدعوية
  • رسائل للحجيج
  • المرأة والحج
  • المختارات الفقهية
  • أخطاء الحجيج
  • كتب وشروحات
  • عشرة ذي الحجة
  • فتاوى الحج
  • مسائل فقهية
  • منوعات
  • صحتك في الحج
  • أحكام الأضحية
  • العروض الدعوية
  • وقفات مع العيد
  • مواقع الحج
  • الرئيسية