اطبع هذه الصفحة


أذرع الأخطبوط «الإسرائيلي» في الدولة العراقية

محمد الغباشي


لم تتعرض منطقة من مناطق العالم لسيل جرّار من مخططات التآمر والعمالة كما شهدته بلاد الإسلام التي كان لها من ذلك أكبر الحظ وأوفر النصيب؛ فيد الغرب المشوبة بأموال الرشاوى وأثمان الخيانة على مرّ التاريخ الإسلامي لم تزل تمتد إلى جيوب العملاء والخونة بما تجود به ثمنًا رخيصًا لدماء ونفوس الملايين من البشر الذين مورست فيهم أبشع أساليب الالتفاف والنفاق على أيدي حثالة ممن يتحدثون باللسان العربي المسلم ويتمتعون بلون البشرة ذاته، لينظر السيد الغربي من طرف خفي إلى ما يدور في تلك البلاد من حرب عقائدية وفكرية ـ فضلاً عن تلك التي يتشابك فيها السيف والسنان ـ تدور رحاها بين أبناء البلد الواحد ممن يحملون همّه ومن لا يحملون أكثر مما تحتويه جيوبهم من أموال؛ وأرصدتهم من كنوز؛ لترتسم على وجه المستعمر المحمل ببرودة ثلج بلاده ابتسامة الظفر الصفراء التي لا تزيد وجهه إلا كلاحة، ولا عينيه إلا بريقًا زائفًا من نصر زائف.

ومن كبرى بلاد الإسلام التي شهدت حملة تآمرية تكاد تكون غير مسبوقة بلاد ما بين النهرين «العراق»، أو ما عُرف بالهلال الخصيب، فقد تنوعت العداوات المتربصة والمستهدفة لحاضنة الخلافة الإسلامية منذ الأزل؛ ونظرًا لذلك فقد تنوعت الجهات المعادية التي تقف وراء زرع مخططات العداء ما بين صهيونية وصليبية أمريكية وكردية وإيرانية شيعية، ولكل طرف من أطراف هذه المعادلة مصالحه التي يسعى في تحقيقها في تلك البؤرة من بلاد الرافدين.

ونظرًا كذلك لتنوع ألوان الطيف السياسي والعرقي والعقائدي بالعراق ما بين مسلمين سنة وشيعة، ونصارى ويهود، وعراقيين وأكراد، فلم يكن زرع الفتنة وبث الفرقة بين هذه الطوائف جميعًا بالأمر الصعب؛ حيث أقدم أصحاب النفوذ من الصهاينة والنصارى الإنجيليين المتصهينين على نشر العداوات والفتن بين أهل هذا البلد على اختلاف توجهاتهم تمهيدًا لتفتيته واحتلاله، ومن ثَمَّ القضاء على ما كان يشكله من خطر لدولة اليهود، تلك الربيبة الأمريكية في المنطقة التي يشكل أمنها هدفًا أساسًا لراعي البقر الأمريكي.

وكان أكبر الاختراقات التي قامت بها الأجهزة الاستخباراتية الأجنبية في العراق تلك التي نفّذها جهاز المخابرات الصهيوني الموساد صاحب السطوة والنفوذ العاليين، والذي هو اليد الطولى والقذرة للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة والتي تتخذها سبيلاً تنفذ من خلاله مخططاتها وتنشر ثوابتها العقدية والأيديولوجية.

وغالبًا ما تلجأ أمريكا و«إسرائيل» إلى شراء العملاء بشكل مباشر أو غير مباشر، وتكوين مؤسسات تنزوي تحت غطاء البحث العلمي أو الدراسات الاستراتيجية أو العمل الإغاثي، في الوقت الذي تمد فيه تلك المؤسسات العميلة مالكي الدولارات الخضراء بما يتطلعون إليه من معلومات وتقارير دورية حول البلد المستهدف. وقد أثيرت في الفترة الأخيرة عدة قضايا مرتبطة بمؤسسات مشبوهة تحظى بدعم وإنفاق أمريكيين في دول إسلامية كبرى.

ولم يقتصر الاختراق الأمني للموساد الصهيوني للعراق على مهمة جمع المعلومات وتحليلها واستخراج ما فيها من توجيهات سياسية وحربية فحسب، بل تعدّى ذلك إلى العمل على الأرض، وتدريب العناصر العميلة والموالية له وإمدادها بالمال والسلاح والعتاد والدعم اللوجيستي، تلك العناصر التي تقاطعت علاقتها بالموساد بشكل أو بآخر، متمثلة في الأكراد الموجودين على الحدود الشمالية لدولة العراق الجريحة، أو الشيعة المنتشرين في شتى محافظات العراق، والذين يحظون بعون وإمداد الدولة الإيرانية منذ مدة طويلة.

العراق في العقلية اليهودية:


قبل الشروع في كشف التحالف المصالحي الميكيافيلي بين الموساد الصهيوني ومختلف الأطراف ذات المصالح في العراق نشرع في تتبع الصورة الذهنية للدولة العراقية في العقلية اليهودية، وكيف كان لها أكبر الأثر في التحركات المشبوهة بعد ذلك لاحتلاله وتثبيت الأقدام الأمريكية التي تخطط لنزعها وزرع القدم الصهيونية.

لقد شهدت الجالية اليهودية في العراق فترة من الأمان والازدهار في ظل الحكم الإسلامي بعد فتح بلاد الرافدين في القرن السابع الميلادي، وذلك إثر فترة التقلبات التي عانوا منها خلال رزوخهم تحت حكم الإمبراطورية الفارسية، واستقبلوا الفاتحين المسلمين بالرضا والحبور وعاشوا مطمئنين تحت حكم دولة الخلافة الراشدة ثم الدولة الأموية، وبلغ الرضا منتهاه في عصر الدولة العباسية.

وظلت الحال الهادئة ملازمة لليهود العراقيين، ولم تواجههم أية صعوبات أو تحديات حتى الهجرة الجماعية التي قام بها اليهود من العراق في منتصف القرن العشرين الميلادي في العام 1948م، وذلك بعد تسرُّب الفكرة الصهيونية إلى عقولهم وإقامة دولة «إسرائيل» على أرض فلسطين.

ورغم ذلك لم تنسَ العقلية الصهيونية ما ترسخ فيها من كراهية تجاه الشعب العراقي حكامًا ومحكومين، وما ورد في تراثها «الإسرائيلي» القديم، وما سطرته كتبهم القديمة من اضطهاد للشعب اليهودي من قِبل الملوك القدماء في حضارة بابل القديمة كأمثال الملك البابلي «نبوخذنصر» الذي أعمل فيهم السبي والقتل والتحريق على غرار المحارق النازية في العصر الحديث.

وكما أورد التلمود ذِكْر الإخراج الأول وخراب الدولة اليهودية على يد «نبوخذنصر» قبل آلاف السنين فقد تطرق كذلك إلى أن خراب دولتهم الثانية سيكون على أيدي جنود أولي بأس يخرجون من أرض بابل، وهذا ما يفسر حالة الفرحة والنشوة التي اعترت الصهاينة في العالم ـ وخاصة في «إسرائيل» ـ عندما نزلت القوات الأمريكية شوارع بغداد في العام 2003م مؤذنة ببدء الاحتلال للأراضي العراقية.
ونكتفي هنا بالإشارة إلى مثال واحد للدلالة على حجم ما تحمله العقول الصهيونية من كراهية لهذه الدولة وأبناء شعبها؛ فقد انتشر أحد الأناشيد الكنسية القديمة في فترة الأربعينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، خلال الحرب العالمية الثانية، في الوقت الذي نشط فيه الزعيم النازي أدولف هتلر في ألمانيا، وكان هذا النشيد مستوحى من قصة وردت في التوراة في كتاب «دانيال»، ويقصّ هذا النشيد الذي كان يردد على ألسنة الصبية والفتيات في مدارس الأحد قصة ثلاثة أطفال كانوا من سبايا المالك البابلي «نبوخذنصر» هم «شادراك» و«ميشاك» و«أبيدنكو» أتوا من أرض «إسرائيل»، وقد أمرهم الملك البابلي بعبادة آلهته فرفضوا، فأمر بوضعهم في المحرقة، فأنجاهم الرب «يهوا» من النار دون أن يصيبهم أي أذى.

هذا فضلاً عما ينضح به العهد القديم من قصص عن جرائم السبي والاغتصاب والقتل المنسوبة إلى حكام تلك الدولة وعلى رأسهم الملك «نبوخذنصر» سالف الذكر. ويستطيع الناظر في العهد القديم أن يلمح بغير مواربة كثيرًا من القصص والأساطير التي تؤصّل للكراهية للإمبراطورية الآشورية والبابلية في العراق، والتي كانت مبررًا فيما بعد للتدخل وزرع أذرع الصهيونية في البلاد وتكريس الاحتلال بها.

وبعد الهجرة اليهودية إلى «إسرائيل» في العام 1948م تحدث كثير من اليهود العراقيين عن أموال وممتلكات يهودية قديمة دُمِّرت واستُولي عليها إبان حكم الرئيس السابق صدام حسين وقبله، وهذا ما يفسر مشاهد سرقة جنود الاحتلال الأمريكيين وبعض المنظمات اليهودية لآثار معينة من العهدين البابلي والآشوري من متحف بغداد بعد دخول الجيش الأمريكي إليها في العام 2003م.

ولا يفوتنا في هذا المقام الإشارة كذلك إلى مدى الخطر والتهديد الذي كان يمثله العراق بترسانته العسكرية على الآلة العسكرية الصهيونية؛ فمنذ حرب العام 1948م مع الجيوش العربية التي كان من نتائجها احتلال دولة فلسطين ظلت العراق في حالة حرب مستمرة مع الكيان الصهيوني ورفضت الاعتراف به كيانًا قائمًا على غرار ما فعلت الدول العربية، فضلاً عن الطموح العراقي النووي، والذي سنتعرف من خلال الأسطر التالية كيف استطاعت أذرع الموساد أن تئده في مهده.

هذا فضلاً عن المخزون النفطي العراقي الذي شكّل أحد المطامع الاستعمارية الكبرى، والذي يوازي في مجموعه ـ وفق تقرير أصدره الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة العربية في العام 2008م ـ أكثر البلدان النفطية غنى بالعالم، حيث أورد التقرير أن ثمة 115 موضعًا تم حفرها حتى الآن تقدر احتياطاتها بنحو 311 مليار برميل من النفط، بالإضافة إلى 415 موضعًا غير مكتشف تزيد احتياطاتها عن 215 مليار برميل. وقد أعلنت وزارة النفط العراقية خلال النصف الأول من العام 2007م عن اكتشاف حقل غاز يمتد من محافظة نينوى شمالي العراق إلى منطقة القائم في المنطقة الغربية من البلاد وجنوبًا حتى الحدود مع المملكة العربية السعودية.

الموساد والأكراد.. تعاون لم ينتهِ:


يحمل التاريخ العراقي الحديث مؤشرات قاطعة ودلالات واضحة واعترافات صريحة على التعاون المكثف بين الموساد «الإسرائيلي» والأكراد والدولة الإيرانية، في محاولة لاختراق العراق وتحقيق المصالح المشتركة لهذه القوى الثلاث على حساب البلد الذي كان يشكل عاملاً مهمًا في تحقيق التوازن الإستراتيجي في الصراع العربي الإسرائيلي والغربي على مدى عقود طويلة من الزمن.


وتكشف سلسلة التعاونات بين القوى الثلاث الأهداف التي كان يرنو إليها كل طرف من أطراف هذه المعادلة، وهي كالتالي:


1ـ إنشاء وطن قومي للأكراد، وذلك باقتطاع أجزاء من تركيا في الشمال والعراق في الجنوب، وهذا ما يفسر الاشتباكات المتكررة بين الأكراد من جانب والجيش التركي من جانب آخر، إضافة إلى العلاقة المضطربة بالدولة العراقية، والتي لم تخلُ من الاشتباكات المسلحة.

2 ـ زيادة النفوذ الإيراني داخل العراق، بتمويل الجماعات الشيعية المتعددة والتي تحظى بدعم إيراني داخل العراق، أضف إلى ذلك الشعوبية التي تتمتع بها الدولة الصفوية الفارسية، والتي أوغلت بالكراهية إلى الحد الذي اعترف به مسؤولون كبار بالدولة بمساعدتهم الاحتلال الأمريكي فيما بعد في دخول العراق وأفغانستان.

3 ـ أما الموساد فحدّث ولا حرج، وقد سبقت الإشارة إلى طرف من أهدافه الخبيثة في المنطقة العربية بشكل عام والعراق بوجه أخص، والتي منها وأهمها تحقيق حلمه التوسعي بإنشاء دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.

أما تفاصيل التعاون الخبيث بين الموساد الصهيوني والأكراد لتحقيق المصالح المشتركة بين الطرفين فهذا جانب منه:


يعود تاريخ التعاون والعمالة بين الجانبين الكردي والإسرائيلي إلى عقد الثلاثينيات من القرن العشرين؛ حيث عيّنت الوكالة اليهودية مندوبًا لها يدعى «رويفين شلواح» في العاصمة العراقية بغداد ـ ومن اللافت للنظر هنا أن «شيلواح» هذا هو المؤسس الفعلي لجهاز المخابرات الصهيوني الموساد، الأمر الذي يدل على أهمية القضية العراقية لدى «الإسرائيليين» ـ حيث أسندت إليه الوكالة اليهودية مهمة إقامة حزمة من العلاقات الكردية الصهيونية مع زعماء الأكراد حينئذ. وقد نجح في ذلك بجدارة.
وقد أصدر الصحفي شلومو نكديمون ـ وهو صحفي صهيوني متخصص في مجال مسارات القرار الصهيوني السياسي ـ كتابًا تحدّث فيه عن مدى التعاون بين الكيان الصهيوني ـ وتحديدًا الموساد ـ وبين الزعيم الكردي مصطفى البارزاني الذي كان يقود التمرد ضد الحكومات العراقية في الفترة من 1963م ـ 1975م، ومدى تغلغل الموساد «الإسرائيلي» داخل شمال العراق ليس لنوازع إنسانية كما كان يزعم «الإسرائيليون» ولكن لإضعاف العراق وإحداث خلخلة في أمن البلد الذي كان ينظر إليه دومًا على أنه الخطر المزعج.

وقد دامت العلاقة بين الموساد والأكراد في هذه الفترة حوالي اثني عشر عامًا اتسمت بالتعاون المكثف بين الطرفين؛ حيث لم يفارق المستشارون العسكريون «الإسرائيليون» معسكر البارزاني طيلة هذه السنوات، وكانت تُستبدل طواقم المستشارين كل ثلاثة أشهر، فيما كان يترأسها بصورة دائمة أحد عناصر الموساد إلى جانب ضابط في الجيش «الإسرائيلي» ومستشار فني. وكان الموساد والمستشارون «الإسرائيليون» يقدّمون المساعدة للبارزاني لتعلم أساليب الحرب الحديثة، فضلاً عن المساعدات المالية التي تلقاها الأكراد لتنفيذ حلمهم بالاستقلال عن العراق. وقد اعتبرت «إسرائيل» القضية الكردية فرصة لا تقدر بثمن لإضعاف مخالب الجيش العراقي.

وتحدث الصحفي نكديمون عن لقاء تمّ بين موظف «إسرائيلي» رفيع وآخر إيراني في العام 1963م في باريس؛ حيث قال الإيراني: إن الأكراد يطلبون مساعدتنا، ومصلحتنا تقتضي تقديمها لهم، بيد أننا لا نعتزم عمل ذلك دون موافقتكم. وقد سميت هذه العملية «عملية أثينا»، وتم خلالها دعم الأكراد بالمال ومحطة للإرسال، وقد أرسلت هذه المواد من «إسرائيل» إلى الأكراد عبر إيران بواسطة جهاز المخابرات الإيراني «السافاك» الذي أنشئ في الأساس بمساعدة وكالة الاستخبارات الأمريكية والموساد في العام 1957م.

ويذكر الباحث «آدموند غاريب» في كتابه «القضية الكردية في العراق» أن جهازيْ الموساد والسافاك شكّلا جهاز مخابرات كرديًّا متطورًا؛ بهدف جمع المعلومات عن الحكومة العراقية، وأوضاع العراق لتنقل فيما بعد إلى السافاك والموساد.

وفي نوفمبر من العام 1963م وصل مبعوثان كرديان إلى السفارة «الإسرائيلية» في باريس وطلبا الاجتماع مع ممثلي الموساد، وقالا بالحرف الواحد: (نحن جائعون) وطلبا ذخائر حربية وأموالاً ومساعدات، وبالفعل أرسلت الأسلحة بناءً على طلب إيراني بمواصلة إرسال السلاح إلى الأكراد، ولكنّ تغيرًا طرأ في المصالح الإيرانية وقتذاك ـ منتصف يناير من العام 1964م ـ جعل الإيرانيين يمتنعون عن إيصال الأسلحة بدعوى أن الأكراد توصلوا إلى اتفاق هدنة مع الحكومة العراقية.

وفي العام 1965م قامت «إسرائيل» بتزويد الأكراد بالسلاح خلال قتالها مع الحكومة العراقية من بنادق بازوكا وألغام ومتفجرات زنتها تسعة أطنان؛ حيث هبطت الطائرة التي تحملها في طهران ثم نُقلت إلى شمال العراق بواسطة جهاز المخابرات الإيراني «السافاك».

ويمضي مؤلف الكتاب إلى القول: لقد أثارت الإنجازات الكردية اهتمام المسؤولين «الإسرائيليين» الثلاثة الذين يشرفون على عمليات المساعدات المقدمة للأكراد ـ رئيس الحكومة ووزير الدفاع ليفي أشكول، ورئيس الأركان عزرا وايزمان، ورئيس الموساد مائير عميت ـ وبدا أن هناك سببًا رئيسًا يدعوهم لزيادة حجم المساعدات إلى الأكراد لمواجهة العراقيين، ففي العام 1966م طار وايزمان إلى طهران للاجتماع بالشاه في طائرة نقل عسكرية كانت تحمل على متنها خمسة أطنان من التجهيزات العسكرية للأكراد، تم إيصالها في يونيو من العام 1966م من قبل السافاك الإيراني.

وقد خلع الموفد «الإسرائيلي» بالشحنة رتبته العسكرية وأهداها إلى مصطفى البارزاني الذي قطع ثلاث ساعات مشيًا هو وأبناؤه وكبار حاشيته من أجل استقبال المبعوث الصهيوني، وقد تقبّلها البارزاني بمزيد من السرور والتأثر. وقد أثنى البارزاني على «إسرائيل» ودورها في استمرارية التمرد الكردي والمساعدات المتواصلة التي تقدمها من تسليح وتدريب ودعم مادي ومعنوي واستشاري، حتى وصل الحال بالمبعوث الصهيوني أن أبدى فيما بعد شعوره بالضيق من الثقة الزائدة والإيمان العميق الذي يكنّه البارزاني لـ«إسرائيل» دون أن يعرف طبيعة الصعوبات التي تواجهها!!

وتتواصل شواهد التعاون الذي لم يتوقف طيلة هذه المدة حتى انكشفت سوءته وطويت صفحته في العام 1975م بعد أن فُرض حصار اقتصادي محكم على المنطقة الكردية، وأقيم اتفاق بين العراق وإيران ووُقِّع في الجزائر بين صدام حسين وشاه إيران كان من أهم أهدافه إخماد التمرد الكردي الذي يقوده مصطفى البارزاني، فكان من نتائج هذا الاتفاق أن انهار التمرد الكردي وانهارت معه آمال مصطفى البارزاني، حتى إن شاه إيران رفض استقباله. واعترف البارزاني أخيرًا بعدم محبة الإيرانيين للأكراد، وأنهم كانوا يستخدمونهم فقط جسرًا لتحقيق مصالحهم، فيما لو تأمل قليلاً لوجد كذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية و«إسرائيل» لا يهيمون أيضًا في حب الأكراد، وإنما يستخدمونهم جسرًا لتحقيق المصالح الصهيو أمريكية في المنطقة.

ومما يؤكد تلك العلاقة كذلك اعتراف رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق «مناحيم بيجين» في نهاية السبعينيات بأن الكيان الصهيوني قدّم لأكراد العراق السلاح والمال والتدريب، فيما تحدثت مصادر أمريكية وغربية عن وجود اتصالات بين الموساد وأكراد العراق حتى حرب الخليج الثانية، بل وحتى هذه اللحظة.

وكانت الفترة الثانية في التحالف الصهيوني الكردي والعلاقة بين الأكراد والموساد هي فترة ما بعد حرب الخليج الثانية بين العراق والكويت في العام 1991م، وهي الفترة التي استعاد فيها الأكراد بقوة علاقتهم بالموساد على يد مسعود البارزاني ابن العميل السابق مصطفى البارزاني سالف الذكر، وكان هدف «إسرائيل» من هذه المرحلة من التعاون المبالغة في دق أسافين الفتنة بين الشمال ـ متمثلاً في الأكراد ـ وبقية مناطق العراق، لتفتيت الدولة وإثارة النعرات الطائفية والعرقية، وتقديم الدعم العسكري والأمني والاقتصادي بهدف إقامة كيان مستقل للأكراد في شمال البلاد، والعمل على إضعاف حكومة العراق المركزية؛ للحيلولة دون توجيه ضربة عسكرية محتملة من العراق للكيان الصهيوني مستقبلاً.

وقد صرّح الدكتور أسامة النجيفي عضو القائمة العراقية في البرلمان العراقي ووزير الصناعة الأسبق أن «العلاقة الصهيونية بالأكراد تعززت في التسعينيات من القرن الماضي في ظل الصراع الكبير الذي نشأ بين الأكراد ونظام صدام حسين، وذلك عبر فتح قنوات اتصال مباشرة مع الأحزاب الكردية الأساسية».

وقال النجيفي: إن إسرائيل استغلت ضعف الأكراد في محيطهم العربي داخل العراق وخارجه، وساعدت في تدريب البشمركة؛ وذلك بهدف تعزيز وتطوير الصراع العربي الكردي، مؤكدًا أن ظواهر كثيرة كانت تؤكد وجود عناصر يهودية وصهيونية بالتحديد في مناطق كردستان، خاصة وأن أصحاب القلنسوات ـ في إشارة إلى اليهود ـ كانوا يتنزهون في شوارع أربيل والسليمانية ودهوك علنًا وأمام الجميع.

وقد سار مسعود البارزاني على نهج أبيه في المحافظة على العلاقة الحسنة بين إسرائيل والأكراد، وتمثل ذلك في تدريب الجيش الإسرائيلي لما يزيد عن 130 ألف مقاتل من مقاتلي البشمركة الأكراد مقابل معلومات أفادت فيما بعد في احتلال العراق؛ يقول محمود عثمان مستشار مسعود البارزاني: (كان «الإسرائيليون» يطلبون منا المعلومات عن الجيش العراقي، وفي الوقت نفسه يزودوننا بمعلومات عن تحركاته، حتى المستشفى الميداني الذي أقامه «الإسرائيليون» في شمال العراق كان من أهدافه جمع أسرار استخبارية عن العراق لمصلحة «إسرائيل»).

مخطط استيطاني صهيوني بالعراق بمساعدة الأكراد:


وكان آخر التقارير التي كشفت عن حجم التغلغل «الإسرائيلي» في العراق بالتعاون مع الأكراد ما كشفه الصحفي الأمريكي «وين مادسن» في تقرير نُشر على موقعه، عن مخطط «إسرائيل» التوسعي الاستيطاني في العراق، أكد فيه أن «إسرائيل» تطمح في السيطرة على أجزاء من العراق تحقيقًا لحلم دولة «إسرائيل الكبرى» من النيل إلى الفرات.

وتضمّن التقرير معلومات لم تُنشر في السابق حول مخطط نقل اليهود الأكراد من «إسرائيل» ـ والذين سبق ترحيلهم من العراق إلى «إسرائيل» ـ إلى مدينة الموصل ومحافظة نينوى في شمال العراق، متسترين بالبعثات الدينية وزيارة المزارات اليهودية القديمة في العراق.

ووفقًا للتقرير فإن اليهود الأكراد قد بدؤوا منذ العام 2003م ـ حيث الغزو الأمريكي للعراق ـ في شراء أراضٍ بالمنطقة التي يعدونها ملكية يهودية تاريخية كما سبق وأشرنا. ويعود سبب التركيز على هذه المناطق دون غيرها من أنحاء العراق للرغبة الصهيونية في إيجاد الذريعة التي يقوم عليها أساس عملية الهجرة إلى العراق، حيث تحوي تلك المناطق آثارًا يهودية قديمة مثل قبر حزقيل في مدينة الكفل الواقعة في محافظة بابل، وقبر عزرا الواقع في مدينة العزيز بمحافظة ميسان، وقبر النبي يونس بمدينة الموصل محافظة نينوى، ومقبرة النبي دانيال في كركوك. بالإضافة إلى ما شاع في الفكر اليهودي من أن هذه المناطق جزء لا يتجزأ من دولة «إسرائيل».

ومما يلفت الانتباه في هذا التقرير تأكيده أن فرق جهاز الموساد كانت تشن ـ بالتعاون مع ميليشيات من المتمردين الأكراد ومجموعات أخرى من المرتزقة ـ هجمات على النصارى العراقيين الكلدانيين والآشوريين في كل من الموصل وأربيل والحمدانية وتل أسقف وقره قوش وعقره... وغيرها؛ بهدف إلصاقها بالتنظيمات الإسلامية المسلحة ـ وعلى رأسها تنظيم القاعدة ـ لتشويه صورة المقاومة الإسلامية التي تقاتل لإخراج العدو الأمريكي من البلاد من جانب، ومن جانب آخر لتهجير المنطقة استعدادًا للوافدين الجدد من اليهود الأكراد لتوطينهم في تلك المناطق، وتسهيل عملية الاستيلاء عليها من قبل الدولة العبرية بحجة كونها أرضًا يهودية.

وقد وجّه الصحفي «مادسن» أصابع الاتهام بما لا يقبل مجالاً للشك إلى الإدارة الأمريكية برعاية هذه المخطط الخبيث الذي يقوم على تنفيذه في أرض الرافدين ضباط من الموساد الإسرائيلي برعاية كردية من حزبيْ الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الرئيس العراقي الحالي جلال طالباني. فيما شبّه هذه العملية بما قام به اليهود أيام الانتداب البريطاني من اقتلاع الفلسطينيين من بلادهم وإحلال الصهاينة مكانهم.

ومما يؤكد ذلك دراسة أخرى معززة بالأسماء والعناوين أعدها مركز «دار بابل» العراقي للأبحاث، والتي كشف فيها معلومات مذهلة عن مدى تغلغل الأخطبوط الصهيوني في العراق، مؤكدًا أن الاختراق «الإسرائيلي» طال الجوانب السياسية والتجارية والأمنية، بالإضافة إلى أنه مدعوم مباشرة من رجالات مسؤولين في الدولة من أمثال مسعود البارزاني، وجلال الطالباني، وكوسرت رسول مدير مخابرات السليمانية، ومثال الألوسي نائب ورجل أعمال، وكنعان مكيّه مدير وثائق الدولة العراقية، وأحمد الجلبي... وغيرهم.

وقد ثبت كذلك قيام وحدات من الكوماندوز «الإسرائيلي» بتدريب القوات الأمريكية والعراقية على أساليب تصفية نشطاء المقاومة في العراق، وذلك في القاعدة العسكرية «بورت براغ» في شمال كارولينا؛ وذلك للخبرات التي يمتاز بها الموساد «الإسرائيلي» في مجال حرب العصابات خلال صراعه مع الفلسطينيين منذ احتلال فلسطين في العام 1948م.

أما سلسلة الشركات التي تنقل الوفود اليهودية «الإسرائيلية» بعد جمعهم من «إسرائيل» وإفريقيا وأوروبا، والسفر بهم على متن خطوط جوية عربية، ومن ثم إلى المواقع الدينية اليهودية ـ المسيحية في العراق؛ فيشرف عليها وزير البنى التحتية الحالي ووزير الحرب الصهيوني السابق فؤاد بنيامين بن أليعازر، اليهودي من أصل عراقي، وهو من مواليد محافظة البصرة العراقية.

وقد نشط الموساد من جديد داخل الدولة العراقية منذ بداية الاحتلال في العام 2003م، فقد أفاد التقرير أن «إسرائيل» قامت منذ ذلك التاريخ بنشر ضباط الموساد لإعداد كوادر كردية عسكرية وحزبية لتفتيت العراق وتقسيمه، كما يقوم الموساد «الإسرائيلي» منذ العام 2005م بمهام تدريب وتأهيل متمردين أكراد من سوريا وإيران وتركيا داخل معسكرات قوات البشمركة الكردية العراقية.

كما أسس الموساد «الإسرائيلي» بنك القرض الكردي الذي يتخذ من مدينة السليمانية التابعة لكردستان العراق مقرًّا له، وتقتصر مهمة البنك المذكور السرية على شراء أراضٍ شاسعة زراعية ونفطية وسكنية تابعة لمدينتي الموصل وكركوك الغنيتين بالنفط. بغية تهجير أهلها الأصليين من العرب والتركمان والآشوريين منها بمساعدة قوات البشمركة الكردية، تمهيدًا لإحلال العراقيين اليهود الذين سبق أن هاجروا لإسرائيل مكانهم.

النووي العراقي.. وأد في المهد:


كانت الذريعة الكبرى التي تذرعت بها أمريكًا زورًا عندما أقدمت على احتلال العراق هي امتلاك الأخيرة أسلحة نووية وأنواعًا أخرى فتاكة كالجرثومية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، وقد اعترف المسؤولون الأمريكان فيما بعد احتلال العراق بأن التقارير التي قُدمت للكونجرس الأمريكي لتبرير الحرب بامتلاك العراق للسلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل كانت كاذبة وملفقة، تمت فبركتها لتجميل وجه المحتل الأمريكي أمام المجتمع الدولي.

ولكن شهادات العلماء النوويين العراقيين تؤكد أن العراق قد قطع شوطًا لا بأس به في سبيل الحصول على قنبلة نووية؛ يقول العالم العراقي النووي الدكتور عماد ختوري: استطاع فريق العمل في موقع الصفاء بالطارمية الحصول على نحو 15 جرامًا من «اليورانيوم 135» بالتغذية العسكرية المطلوبة، في حين يحتاج قلب القنبلة النووية إلى نحو 18 إلى 20 كيلوجرامًا منه. أما بالنسبة إلى تصميم القنبلة فقد كانت فرق العمل في موقع الأثير بإشراف خالد إبراهيم سعيد لا تزال في خضم التصاميم التجريبية للقنبلة، ولم تتوصل بعد إلى التصميم النهائي لها. وإجمالاً فإن العراق قد مضى في الشوط بنسبة 10 إلى 20% من المسار الكلي لامتلاك القنبلة النووية. اهـ.

كان ذلك في العام 1991م، أي بعد عشر سنوات من ضرب «إسرائيل» للمفاعلين الذريين العراقيين تموز1 وتموز2 اللذين جلبتهما العراق من فرنسا، واغتيال العالم النووي المصري الدكتور يحيى المشد في العام 1980م في ظروف غامضة بسبب مساعدته وانضمامه إلى فريق العمل العراقي. فقد اقترب العراق من تحقيق حلمه بالتوازن النووي الذي كان ينشده مع الكيان الصهيوني، ولولا ضرب المفاعل العراقي لتحقق ذلك، ولانضم العراق الآن إلى الدول النووية في المنطقة كأمثال الهند وباكستان و«إسرائيل».

ولم يتوقف الأمر بإسرائيل عند هذا الحد، بل أكد تقرير حكومي أمريكي رُفع إلى الرئيس السابق جورج بوش في أغسطس من العام 2008م أن جهاز «الموساد» تمكّن حتى الآن من قتل 350 عالمًا نوويًّا عراقيًّا، بالإضافة إلى أكثر من 300 أستاذ جامعي في كافة التخصصات العلمية المختلفة، وذلك بمساعدة قوات الاحتلال الأمريكي في العراق.

وأوضح التقرير الذي أعدته وزارة الخارجية الأمريكية «أن ضباط الموساد والكوماندوز الإسرائيليين الذين يعملون في الأراضي العراقية منذ العام 2007م، مهمتهم الأساسية هي تصفية العلماء النوويين العراقيين المتميزين، بعد أن فشلت جهود واشنطن منذ بداية الاحتلال في العام 2003م في استمالتهم للتعاون والعمل في الأراضي الأمريكية. ورغم أن بعض هؤلاء العلماء أجبر على العمل في مراكز أبحاث حكومية أمريكية، إلا أن الغالبية الكبرى منهم رفضوا التعاون مع العلماء الأمريكيين في بعض التجارب، وهرب جزء كبير منهم من أمريكا إلى بلدان أخرى.

وقد ثبت كذلك تورط الميليشيات الشيعة في بداية الغزو الأمريكي للعراق في اختطاف وقتل وتعذيب أساتذة الجامعات والعلماء النوويين العراقيين لتصفية العراق من كوادره التي تجابه قوات الاحتلال.
كما يقوم الموساد «الإسرائيلي» بمساعدة عناصر البشمركة في قتل وتصفية واعتقال العلماء والمفكرين والأكاديميين العراقيين «السنة والشيعة والتركمان». بالإضافة إلى تهجير الآلاف منهم، بغية استجلاب الخبرات «الإسرائيلية» وتعيينها بدلاً منهم في الجامعات العراقية الكردية.

وأشار التقرير إلى أن العلماء العراقيين الذين قرروا التمسك بالبقاء في الأراضي العراقية خضعوا لمراحل طويلة من الاستجوابات والتحقيقات الأمريكية التي ترتب عليها إخضاعهم للتعذيب، إلا أن «إسرائيل» كانت ولا تزال ترى أن بقاء هؤلاء العلماء أحياءً يمثل خطرًا على الأمن «الإسرائيلي» في المستقبل، فرأت أن الخيار الأمثل للتعامل مع هؤلاء العلماء هو تصفيتهم جسديًّا، وإن أفضل الخيارات المطروحة لتصفيتهم هو هذا المناخ من العنف الدموي الذي يخيم على العراق منذ بداية غزوه في العام 2003م.

وأضاف التقرير: أن البنتاجون كان قد أبدى اقتناعه منذ أكثر من سبعة أشهر بوجهة نظر تقرير الاستخبارات الإسرائيلية، وأنه لهذا الغرض تقرر قيام وحدات من الكوماندوز الإسرائيلية بهذه المهمة، وأن هناك فريقًا أمنيًا أمريكيًّا خاصًّا يساند القوات الإسرائيلية في أداء هذه المهمة.

وكشف التقرير كذلك عن حجم التواطؤ الإسرائيلي الأمريكي، حيث أوضح أن الفريق الأمني الأمريكي يختص بتقديم السيرة الذاتية الكاملة للعلماء العراقيين المطلوب تصفيتهم، وطرق الوصول إليهم، وهذه العملية مستمرة منذ أكثر من سبعة أشهر، وأنه ترتب على ذلك قتل 350 عالمًا نوويًّا و200 أستاذ جامعي حتى الآن، بعيدًا عن منازلهم، فيما تستهدف هذه العمليات أكثر من ألف عالم عراقي.

أمريكا وإسرائيل.. أيادٍ متشابكة حول العنق العرقي:


تتوافق الإدارتان الأمريكية والإسرائيلية في الرؤى والأهداف بشكل كبير يكاد يكون متطابقًا، كيف لا وإسرائيل فرع من فروع الدولة الأمريكية بالمنطقة، أو إن شئنا أن نكون أكثر واقعية فأمريكا ـ على عظمتها ـ هي أحد أذرع الأخطبوط الصهيوني؛ فاللوبي الصهيوني صاحب النفوذ في الولايات المتحدة الأمريكية له إملاءات على الإدارة الحاكمة لا تقبل الجدل أو النقاش، فهو سيف مسلط على رقاب العاملين في الإدارة بداية من الرئيس الأمريكي نفسه وحتى أقل العاملين شأنًا فيها. ولا شك أن قرار احتلال العراق كان على هذه الشاكلة وبدافع من المسيحيين المتصهينين واللوبي الصهيوني في أمريكا، وإن كان الأمر لا يحتاج ضغطًا من أحد؛ حيث إن المصالح المتحققة من الحرب على العراق للطرفين كانت كبيرة إلى الحد الذي يحدو بكل منهما إلى التسابق نحو بغداد.

ومما يثير الدهشة عن مدى التعاون الأمريكي الصهيوني في ممارسات الاحتلال داخل العراق، ذلك التشابه ـ الذي يكاد يكون متماثلاً ـ في أسلوب إدارة الحرب ومظاهر العدوان على الشعب العراقي من قبل جنود الاحتلال الأمريكي مع نظيره الذي تمارسه إسرائيل مع الشعب الفلسطيني، متمثلاً في دهم ونسف المنازل وتجريف الأراضي والبساتين وقلع الأشجار؛ فقد ثبت فيما بعد أن هناك فرقًا من الخبراء الصهاينة يقومون على تدريب وحدات من الجيش الأمريكي بالعراق على حرب المدن وأساليب الدهم والتوغلات والاقتحامات والتعذيب وحرب العصابات، بالإضافة إلى الاعتداءات الجنسية ـ كالتي كشفت عنها الصحافة في سجن أبو غريب ـ فضلاً عن أساليب التحقيق المرعبة والتي استخدم فيها الجنود الأمريكان طرقًا في التعذيب مشابهة للتي يستخدمها الصهاينة في الأراضي الفلسطينية، وذلك لما للصهاينة من خبرة واسعة في هذا المجال. وذلك وفقًا لما نشرته صحيفة «يو إس إيه توداي» الأمريكية في تقرير لها في العام 2002م.

وأضافت الصحيفة أن رئيس الوزراء «الإسرائيلي» آنذاك أرييل شارون طالب بوضع إستراتيجية عسكرية جديدة في العام 2001م بالتعاون مع خبراء البنتاجون للحرب على العراق، وأنه ناشد الرئيس الأمريكي عدم تأجيل أمريكا عملها العسكري، وأن أي تأخير سوف يزيد من المخاطر ومن إمكانية تزوّد العراق بالأسلحة النووية.

وذكرت صحيفة الجارديان البريطانية ـ إضافة إلى ذلك ـ أن أكثر من ألف جندي من المارينز تلقوا تدريبًا في «إسرائيل» حول حرب المدن، فيما استدعى البنتاجون فان سرفلد الخبير العسكري والإستراتيجي الإسرائيلي في الجامعة العبربة بالقدس في العام 2002م ضمن الاستعداد لغزو العراق؛ لإلقاء محاضرات حول حرب المدن، معتمدًا في محاضراته على نموذج مخيم جنين. وقد أنشئت في جنوب إسرائيل خلال فترة التدريب مجسمات للمدن العراقية المستهدفة لتدريب جنود المارينز.

وقد شاركت إسرائيل كذلك ـ فضلاً عن الدعم اللوجيستي والتدريبي ـ مشاركة فعلية بإرسال قوات من جيش الحرب الصهيوني في احتلال العراق ومعاونة قوات الاحتلال الأمريكية في المعارك بينها وبين المقاومة العراقية، حيث كشف الحاخام الصهيوني أرفينينج إليسون (وهو رائد في الجيش الأمريكي) ـ وفقًا لما نشرته صحيفة هآأرتس الصهيونية ـ عن عدد الجنود الإسرائيليين بالعراق، والذي يتراوح ما بين 800 إلى 1000 جندي وضابط، كاشفًا عن وجود عدد كبير من الجنود اليهود في الجيش الأمريكي تتراوح أعمارهم بين 18 و19 عامًا منهم عدد من المجندات اليهوديات، فيما بلغ عدد الحاخامات بالجيش الأمريكي حوالي 37 حاخامًا موزعين على قوات الاحتياط والبحرية والقوات الجوية. في حين يقدِّر آخرون عدد الجنود الصهاينة في جيش الاحتلال الأمريكي بحوالي ثلاثة آلاف جندي وضابط. وفي هذا السياق حذّر الأمين العام لهيئة علماء المسلمين بالعراق حارث الضاري في العام 2006م من وجود آلاف العسكريين الإسرائيليين في عدة أنحاء من العراق تحت عناوين ومسميات مختلفة.

وقد تواترت الأنباء التي تؤكد ذلك الوجود العسكري لإسرائيل في العراق، فقد كشفت صحيفة معاريف «الإسرائيلية» في فبراير من العام الماضي عن مقتل الجندي «الإسرائيلي» حاي بيتون في العاصمة العراقية بغداد بعد أن استهدف لغم أرضي السيارة الجيب التي وجد بداخلها، وذكرت الصحيفة أن الجندي هو أول من رفع علم «إسرائيل» في سماء العاصمة العراقية بغداد. هذا بالإضافة إلى مصرع أربعة جنود يهود آخرين خلال معارك في مدينة الفلوجة كان أحدهم حفيدًا لأحد كبار الحاخامات في أمريكا.

وقد أكد شهود عيان أن الجنود الإسرائيليين بجيش الاحتلال الأمريكي بالعراق لا يحملون شارات تميزهم عن أقرانهم من الجنود الأمريكيين، إلا أنهم يستوشمون بنجمة داود على زنودهم لتمييزهم عن غيرهم حال القتل.

وقد كشفت مصادر عراقية أن وحدات أمنية صهيونية كانت برفقة قوات كردية قد دخلت إلى بغداد في اليوم التالي لسقوطها مباشرة، وقد تسربت تلك الوحدات إلى بغداد بملابس مدنية، عن طريق سيارات مدنية تشير لوحاتها المعدنية إلى أنها من «السليمانية»، و«أربيل». وكان الهدف الأساس لهذه القوات هو اكتشاف مخابئ أرشيف المخابرات العراقية للحصول على معلومات عن بعض عمليات الموساد الإسرائيلي خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين.

هذا بالإضافة إلى الشركات العسكرية العاملة بالعراق والتي بلغت ما بين 70 إلى 100 شركة إسرائيلية وفق ما أوردت صحيفة معاريف العبرية في سبتمبر من العام الماضي، والتي منها شركة الصناعات العسكرية «الإسرائيلية» «رفائيل» التي تشارك في تحصين مدرعات برادلي التي يستخدمها جيش الاحتلال الأمريكي في العراق، بالاتفاق مع شركة أمنية أمريكية فازت بالمناقصة. وقد زودت الشركة القوات الأمريكية بأنظمة تدريع لمدرعاتها وصلت قيمتها إلى أكثر من 100 مليون دولار منذ بداية الغزو الأمريكي للعراق وحتى الآن.

وتعمل هذه الشركات الإسرائيلية على تصدير كل المنتجات الإسرائيلية إلى العراق، بما في ذلك الوقود، والمياه المعدنية، والهواتف، والإلكترونيات، والأجهزة الزراعية، والمنسوجات، والحافلات، والستر الواقية من الرصاص، وحاويات النفايات، إلا أنها تتفادى الحديث عن الأمر حتى لا تتضرر مصالحها، فيما تعيد تغليف منتجاتها المخصصة للسوق العراقي حتى لا يكتشف المستهلك مصدر إنتاج تلك السلع.

انتشار «إسرائيلي» في المؤسسات البحثية والحكومية:


ولم يقنع صانعو القرار اليهود بهذا التغلغل المتنفذ داخل المؤسسات السياسية والعسكرية الرسمية، بل عمدوا كذلك إلى تثبيت أقدامهم داخل المؤسسات الاجتماعية والبحثية والثقافية في المجتمع العراقي؛ وذلك للتأثير في اتجاهات مواطني ذلك البلد وتشوبه وعيهم وإعادة تشكيله بصورة تتوافق مع المعتقدات وطريقة التفكير اليهودية فيما يخص القضايا المؤثرة الكبرى، والتأثير فيهم إعلاميًّا عن طريق السيطرة على صناعة الأخبار والتحليلات السياسية والاجتماعية التي تتعاطى مع القضية العراقية من وجهة نظر أمريكية.

وكانت أولى هذه الخطوات افتتاح مركز صهيوني للدراسات الشرق أوسطية تابع لمؤسسة أمريكية صهيونية مقرها الرئيس في واشنطن تدعى «ميمري»، وقد افتتح المركز في شارع «أبو نواس» المطل على نهر دجلة في العاصمة العراقية بغداد، وذلك في العام 2003م بعد الغزو مباشرة، ويُعنى المركز بمتابعة الصحف العربية الصادرة في البلدان الإسلامية والأوروبية وترجمة أهم المقالات بها إلى عدة لغات ـ منها العبرية ـ وتوزيعها على المشتركين به، بالإضافة إلى إيصالها للمؤسسات الصهيونية الرسمية في «إسرائيل». ويحظى هذا المركز بحراسة أمريكية مشددة حوله.

وقد أفاد تقرير أعدّه مركز بابل العراقي للأبحاث بأن مركزًا آخر يدعى «إسرائيل للدراسات الشرق أوسطية.. مركز دراسات الصحافة العربية» يتخذ من مقر السفارة الفرنسية في بغداد مقرًّا له. وقد نقل الموساد مقر المركز خلال الهجمات الصاروخية التي استهدفت مبنى السفارة الفرنسية إلى المنطقة الخضراء بجانب مقر السفارة الأمريكية.

وأوضح التقرير كذلك أن الموساد استأجر الطابق السابع في فندق «الرشيد» الكائن في بغداد والمجاور للمنطقة الخضراء، وحوّله إلى شبه مستوطنة للتجسس على المحادثات والاتصالات الهاتفية الخاصة بالنواب والمسؤولين العراقيين والمقاومة العراقية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل افتتحت صحيفة يديعوت أحرونوت «الإسرائيلية» في العام 2005 مكتبًا لها في بغداد وآخر في مدينة أربيل الكردية في الفندق المذكور نفسه.

وأكد التقرير نفسه وجود 185 شخصية «إسرائيلية»، أو يهودية أمريكية يشرفون من مقر السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء على عمل الوزارات والمؤسسات العراقية العسكرية والأمنية والمدنية. بالإضافة إلى وجود كمّ كبير من الشركات «الإسرائيلية» الخالصة أو الشركات متعدّدة الجنسيات العاملة في العراق، وتمارس نشاطها إما مباشرة، أو عن طريق مكاتب ومؤسسات عربية في هذه العاصمة أو تلك. ويأتي في مقدمتها كلها شركات الأمن الخاصة التي تتميّز بالحصانة مثل الأمريكان، وهي التي يتردّد أنها متخصصة أيضًا في ملاحقة العلماء والباحثين وأساتذة الجامعات والطيّارين العراقيين والعمل على تصفيتهم.

وفيما يتعلق بالنفط العراقي، فإن عملية تشغيل المصافي تشرف عليها شركة «بزان» التي يترأسها «يشار بن مردخاي»، وتم التوقيع على عقد تشتري بمقتضاه نفطًا لينقل من حقول كركوك وإقليم كردستان إلى «إسرائيل» عبر تركيا والأردن.

وأخيرًا:


فهذا فصل واحد من فصول كتاب الخيانة الذي سطرته أيدي يهود، تمثل فيه بلا شك حجم النفوذ الصهيوني في بقعة صغيرة من بقاع الإسلام، وإنه لن تتوقف الأيدي الصهيونية العابثة عن التدخل السافر في بلاد المسلمين بالتخريب تارة، وزرع الفتنة تارة، والاحتلال المباشر تارة أخرى، إلا بحصول النصر المتأخر.. {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً}..


* باحث وأديب مصري.
ghobashy79@hotmail.com

 

بلاد الرافدين

  • الفلوجة
  • رسائل وبيانات
  • في عيون الشعراء
  • من أسباب النصر
  • فتاوى عراقية
  • مـقــالات
  • منوعات
  • الصفحة الرئيسية