اطبع هذه الصفحة


عاش صغيراً ومات كبيراً

عبدالله بن مزعل الجبر*


بداية:
على إثر إعدام رئيس العراق السابق (صدام حسين) تكاثرت الكتابات والمقالات على اختلاف كتابها، وتباين منطلقاتهم، وأفكارهم، وهي في مجملها تستهجن توقيت الإعدام، وتستنكره، وبخاصة أنه جاء مع إشراقة عيد الأضحى المبارك، والعالم الإسلامي مشدود إلى الشعائر والمشاعر.
وجاء في كثير من تلك الكتابات وصف لحكم صدام الدموي، وكيف قاد شعبه بالحديد والنار، وممارسته لأبشع التصفيات، وقتل شركائه وأبناء عشيرته، وغير ذلك مما هو مسود على الصحف هذه الأيام.
وذلك التاريخ محفوظ، ولا يجادل فيه عاقل -وإن كانت المبالغات تكتنف أحداثاً كثيرة جاءت في تضاعيفه- إلا أن الأحرى بكل كاتب منصف ألا ينظر إلى الحدث بعين زائغة، والأولى به ألا يتعامل مع حياة صدام كقطعة واحدة؛ فكل من له أدنى تأمل ومتابعة لحياة الرجل يدرك حجم التغيرات الجذرية في عقيدته وإيمانه، وهي بطبيعة الحال ستؤول إلى تحول في منهجه، وسياساته.
ولقد قصدت بتسوية هذه السطور تسليط الضوء على العقد الأخير من عمر صدام، وحكمه في العراق، مستفيداً من كتابات من سبقني، خصوصاً ما جاء في كتاب (عقد من حياة صدام في ميزان الإسلام).
وهي حقائق مثبتة، ووقائع مشاهدة، لا تحكمها العاطفة، ولا يغلب عليها رد الفعل لإعدام صدام وتوقيته المخالف للإنسانية والقانون.

شهادة للتاريخ:
(كتابة التاريخ شهادة ... والواجب في الشهادة هو الدقة المتناهية في سرد الوقائع واستفراغ الجهد في فهمها، مع البراءة الكاملة من الأهواء الشخصية أو الميول النفسية، والضغوط الاجتماعية، والآصار التاريخية).
ولا يؤخذ التاريخ من منابر الإعلام المضلِلة والساعية لأغراض وغايات شتى، ولا من أقلام المنتسبين إلى الصحافة، والذي لا هم لأحدهم إلا العائد المادي، أو الشهرة الناجمة عن موضوع كهذا.
يؤخذ التأريخ من أفواه قوم صادقين، عماد الشهادة عندهم هو القيام بالقسط، وأن أي تغيير أو تبديل، أوليٍّّ أو تحويل، أو خوف أو طمع يؤثر في تلك الشهادة، وقد يحولها من شهادة حق إلى شهادة زور!
وإن ما يكتب عن حياة صدام الأخيرة -والمدون شيءٌ منها في هذا المقال - إنما هو بأقلام طافت أرض العراق طولاً وعرضاً، وأثبتت شهادات أبنائه، ورقمت آراءهم ورؤيتهم، وهم من أهل العراق، وممن ناله الأذى من صدام في سابق عهده، إلا أن ولاءهم لهذا الدين، وتقديرهم لخطورة المرحلة التي تمر بها أمة الإسلام، وإنصافهم لتاريخ صدام، كل ذلك أملى عليهم أن يكتبوا التاريخ بصدق، وأمانة.

مآثر العقد الأخير من حياة صدام:
- منذ عشر سنين تقريباً –أيام حكم صدام- أصبحت حصة التربية الإسلامية في المدارس العراقية إلزامية في الاختبارات والدرجات، وهي في السابق معدومة، أو شبه معدومة.
- أصدر صدام حسين قراراً بإسقاط الضريبة عن أي تاجر يبني مسجداً، وتؤمن الحكومة له مواد البناء بنصف سعر السوق.
- قام ببناء الكثير من المعاهد الإسلامية والكليات الشرعية للسنة.
- قام بفتح بنك إسلامي بعد مشورة أحد علماء العراق الأفاضل.
- أنشأ مركزاً لجمع السنة النبوية كلها وقد سمي بـ: (مركز الإمام البخاري).
- أمر بتحويل دور اللهو والفساد إلى مساجد، وأماكن للعبادة.
- أصدر قراراً بمنع إنشاء أي خمارة جديدة في البلاد، وإغلاق الخمارات القائمة.
- يعرف العراقيون فيما بينهم ما يسمى بـ: (الحملة الإيمانية) التي أطلقها الحزب الحاكم في عهد صدام، وقد أتت هذه الحملة على إثر عقد (اجتماعات هامة في قيادات الحزب في العراق، وكان عليهم أن يقرروا عندها خطاً واحداً من خطين لمنهجية حزب البعث: إما الخط العلماني وإما الخط الإيماني، وانتهى الأمر إلى اختيار الخط الإيماني، وذلك بعد إصرار الرئيس صدام على هذا الاختيار، رغم المعارضة السرية لدى أعضاء في حزب البعث على مثل هذا التوجه والذي اتضح أثرها في خيانة أعضاء من البعث مع القوات الأمريكية في لغز سقوط بغداد).
- اهتم صدام بالعلماء والمهندسين وغيرهم اهتماماً كبيراً فقل أن تشاهده إلا وحوله عدد منهم حتى في اجتماعات وزرائه ، فهذا عالم في الفيزياء النووية، وذلك عالم في التصنيع ، وهكذا...
من شاهدهم عرف أنه يعدّهم كجواهر ترصع تاج حكمه، وهناك كلمة مشهودة له قالها لأحد كبراء الخليج قبل ضرب العراق حيث قال: لو هدمت أمريكا العراق فعندي من يبنيه، عندي أكثر من سبعين ألف عالم!
- في خطاب ألقاه صدام سنة 2002 في ذكرى انتصار العراق على إيران، قال بعد سرد لبداية الحزب، ومراحل تطوره: (وأرجو أن لا تحاسبونا أو تقيسونا منذ سبع سنين على ما سبق، فإن ثمة اختلافاً جذرياً في إيماننا).
- سألت مجلة نيوزويك بتاريخ 11 مارس 2003 (دان راذار) بعد لقائه الشهير مع صدام سألته عن الجديد الذي رآه في صدام؟
فأجاب: (لقد فاجأني كم كان رابط الجأش وثابت العزم... وإذا ما استطعت مقارنة هذه المقابلة بمقابلة عام 1990، فإن هناك الكثير من المفردات الإسلامية، الآن يكثر من استخدام المصطلحات الإسلامية، لقد أعاد أسلمة العراق، وهو الآن يصلي خمس مرات في اليوم بشكل متفاخر، ويقول إن القرآن يسري في عروقه).
- ومما جاء في لقاء راذار: (دام اللقاء معه –أي مع صدام- ثلاث ساعات ، لم يقطعه إلا للصلاة).

خيانة:
كانت تلك التغيرات الجوهرية في سياسة العراق محسوبة ومرصودة وبشكل دقيق، وهي مراقبة على المستوى الشعبي والرسمي من قِبَل الغرب وعلى رأسه أمريكا.
وخطابات صدام، ولقاءاته محل متابعة واهتمام شديدين.
وكان تقديرهم أن أمر العراق إن ترك فسوف يشب عن الطوق، وقد يستفحل خطره، ويتعذر في المستقبل استئصاله.
هاجمت أمريكا العراق لأسباب واهية، وخدع مضللة، كشف الزمن زيفها وكذبها، وكانت في الأساس مطامع استعمارية، وحداً للصحوة الدينية بين العراقيين.
لم تكن قصة سقوط بغداد خافية على من له أدنى مسكة من عقل، فليس سقوطها عسكرياً كما يتشدق الأمريكيون، بل كان عن خيانة تورط بها بعض قادة الحزب؛ مؤثرين سلامتهم، وأهليهم، على سلامة العراق وشعبه.
ويعيد التاريخ نفسه، فسنن الله باقية، لا تحول فيها ولا تبديل؛ تسقط العراق مرة أخرى، وبفعل فاعل، وغدر غرٍّ خبيث، وتواطؤ على الاحتلال لا ينكر، ومباركة من القريب قبل البعيد.

أذاعت محطة البي بي سي عن شاهد عيان قوله: (لقد صلى معنا صدام يوم 9/4 صلاة الظهر في مسجد الإمام الأعظم أبو حنيفة، وجلس إلى ثلاثة رجال كبار من أصحابه القدماء، وتحدث معهم قليلاً وكان مما قال لهم: (لقد غدروا بي ....)
ثم خرج صدام من المسجد فاجتمع الناس من حوله، فحياهم كعادته، وتزاحموا عليه في منظر عجيب بثته قناة أبو ظبي منفردة.
وقال: (ثم توجه صدام بالسيارة إلى مكان آخر من الأعظمية، فوقع فيه قتال شديد جداً واشترك صدام في القتال لمدة ساعتين).
وسمى صدام في خطابه الأخير -والذي بثته قناة أبو ظبي- ولأول مرة منذ أن نشب القتال التدخل الأمريكي احتلالاً، وذكر أنه عازم على المقاومة.
وفي لقاء أجرته قناة الجزيرة مع الدكتور ظافر العاني، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بغداد، بتاريخ 14/4/2003 وصف فيه حجم المعاناة التي واجهها صدام، ومدى الغدر الذي حل بدولة العراق، بقوله: (قبل ثلاثة أيام –أي قبل سقوط بغداد- وقعت معركة شرسة في الأعظمية ما بين القوات الأمريكية والمقاتلين العراقيين، وقد كان صدام يقاتل بنفسه مع المقاتلين، وقد أخبرني بهذا الشيء الذين كانوا يقاتلون مع صدام.
وقد أخبرني من سمع صدام بنفسه يقول وهو يتحرق: (لقد غدروا بي) يقصد في تسليم بغداد من قادة حزبيين وسياسيين وعسكريين، باعوا بلادهم ومبادئهم إلى أمريكا).

وبعد:
فماذا عن إعدام صدام، وتصفيته بهذه السرعة، وبهذا التوقيت، وهل هو تطييب لخاطر الشيعة، ومن ورائهم إيران، وماذا عن الهتافات الطائفية المتشفية المصاحبة لتوقيت الإعدام؟
وهل تلك المحاولة اليائسة البائسة إمعان في إذلال العالم الإسلامي الذي يحاول الإعلام الغربي جاهداً وصمه بالإرهاب زوراً وبهتاناً؟!
أسئلة تبقى مفتوحة، والتاريخ كفيل بالإجابة عنها، ومع ذلك كله فقد انقلب السحر على الساحر، وأخذت القضية العراقية بعداً آخر (إنهم يكيدون كيداً، وأكيد كيداً).
وأخيراً لقد رحل صدام مرفوع الرأس، ثابت القدم، لم تلن له قناة، شجاعاً مقداماً، لم يهن ولم يحزن، غير خائف ولا وجل.
وقفت وما في الموت شك لواقف ** كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ** ووجهك وضاح وثغرك باسم
عاش صغيراً، ومات كبيراً، نطق بالشهادتين، في مشهد يحسده عليه أعداؤه قبل أحبابه؛ فرحمه الله رحمة واسعة، وأسبغ عليه شآبيب المغفرة والرضوان.

20/12/1427هـ
*amz4508@hotmail.com
 

بلاد الرافدين

  • الفلوجة
  • رسائل وبيانات
  • في عيون الشعراء
  • من أسباب النصر
  • فتاوى عراقية
  • مـقــالات
  • منوعات
  • الصفحة الرئيسية