اطبع هذه الصفحة


الهوى وأثره في الخلاف

لفضيلة الشيخ : عبدالله الغنيمان

 
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، يقول – تعالى – في محكم تنزيله : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [سورة آل عمران ، الآية :102 ] .
ويقول – جل ثناؤه :- { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } . [سورة النساء الآية : 1 ]
وقال عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديداً . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيمًا } [سورة الأحزاب ، الآية 70 ] .
وبعد
نتقدم للقراء الكرام بهذه النصيحة القيمة المباركة، من فضيلة شيخنا وأستاذنا الشيخ عبدالله بن محمد الغنيمان .. أستاذ الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة على ساكنها صلوات ربي وتسليمه ، في موضوع يشغل بال كل مسلم، وكل طالب علم على الخصوص، ألا وهو موضوع الأهواء والمنازعات والخلافات التي تحدث بين آونة وأخرى بين فئات من المسلمين، وما ينتج عن هذه الخلافات من العدوان والظلم والتجني من بعض من ينتسبون للعلم .
وكان هذا الموضوع في أصله عبارة عن محاضرة ألقاها فضيلة الشيخ عبدالله الغنيمان، بعنوان : "الهوي وأثره في الخلاف " .
وقد عالج فضيلته هذه المسائل وجزئياتها بأسلوب علمي منهجي رصين، جمع بين الأصالة في حشد النصوص والآثار، وبين الرصانة والموضوعية في عرض المسائل، بأسلوب واضح، وسياق سلس، وبروح العالم الناصح المشفق، مقتفيا نهج السلف الصالح في العرض والاستدلال والمناقشة، بعيدا عن التكلف والعمق والتميع الذي وقع فيه كثير من الكتاب الإسلاميين المحدثين، وأنصح كل طالب علم ومن تصدى للدعوة بصفة خاصة أن يقرأ هذا الكتاب بتمتعن وروية فسيجد فيه بغيته - إن شاء الله - .
وفق الله الجميع للسداد والرشاد وجزى الله شيخنا خير الجزاء، وأحسن له في الدنيا والاخرة .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وآله وصحبه وسلم .

وكتبه : ناصر بن عبدالكريم العقل


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه أجمعين .
إن من أعظم دواعي الضلال وأسباب الهلاك اتباع الهوى، فإنه يهوي بصاحبه إلى المهالك حتى يورده النار .
قال الشاطبي: " سمى الهوى هوى، لأنه يهوي بصاحبه إلى النار " . وروي هذا عن الشعبي .
وقال ابن عباس : ما ذكر الله – عز وجل – الهوى في كتابه إلا ذمه !!
" وأصل الضلال : اتباع الظن والهوى، كما قال تعالى فيمن ذمهم : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } [سورة النجم الآية :23 ] .
وهذا وصف للكفار فكل من له نصيب من هذا الوصف فله نصيب من متابعة الكفار بقدر ذلك النصيب .
وقال – تعالى – في حق نبيه، صلى الله عليه وسلم، { والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحى يوحى } [سورة النجم الآيات1-4]
فنزهه عن الضلال والغواية، الذين هما : الجهل والظلم، فالضال هو الذي لا يعمل الحق، والغاوي الذي يتبع هواه .
وأخبر أنه لا ينطق عن هوى النفس، بل هو وحى أوحاه الله إليه. فوصفه بالعلم ونزهه عن الهوي " .
ومتبع الهوى لا بد أن يضل، سواء عن علم أو عن جهل، فإنه كثيراً ما يترك العلم اتباعاً لهواه، ولا بد أن يظلم إما بالقول أو بالفعل، لأن هواه قد أعماه .
ولهذا حذر السلف عن مجالسة من هذه صفته،
كما قال أبو قلابة : " لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما تعرفون " .
وقال أيضا: "لا تجالسوا أهل الأهواء فإنكم إن لم تدخلوا فيما دخلوا فيه لبسوا عليكم ما تعرفون " . يعني أن مجلس صاحب الهوى لا يسلم من الشر . فإما أن يتابع صاحب الهوى على هواه وباطله، أو يدخل عليه شبهة في دينه الذي يعرف أنه حق .
وقال ابن عباس : " لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلوب " .
وقال ابراهيم النخعي : " لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث البغضة في قلوب المؤمنين " .
وقال مجاهد : " لا تجالسوا أهل الأهواء فإن لهم عرة كعرة الجرب " .
يعني أنهم يعدون من قرب منهم، كما أن من قارب الأجرب جرب .
وقال محمد بن علي : " لا تجالسوا أصحاب الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله " .
يقصد قوله – تعالى : { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا } [ سورة النساء ، الآية : 140 ] .
وقال مصعب بن سعد : " لا تجالس مفتونا فإنه لن يخطئك منه إحدى اثنتين إما أن يفتنك فتتابعه ! وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه " !!
وقال يونس بن عبيد : " أوصيكم بثلاث : لا تمكنن سمعك من صاحب هوى ، ولا تخل بامرأة ليست لك بمحرم ، ولو أن تقرأ عليها القرآن، ولا تدخلن على أمير ولو أن تعظه ".
وقال أبو قلابة يوصي أيوب السختياني : " يا أيوب احفظ عني أربعاً : لا تقل في القرآن برأيك، وإياك والقدر، وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمسك، ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك فينبذوا فيه ما شاءوا " .
وقال أبو الجوزاء: "لئن تجاورني القردة والخنازير في دار أحب إلي من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء". وقد دخلوا في هذه الآية : {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور }. [سورة آل عمران ، الآية :119] .

وقد دل على هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدجال، فإنه قال : " من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات "  .
والمتعين على العبد – ولا سيما المبتدئ والشاب – أن يبتعد عن الشبه والجدال في الدين، فإن ذلك يجر الى الردى .
قال ابن بطة : قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، :" من سمع منكم بخروج الدجال فلينأ عنه ما استطاع فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فما يزال به حتى يتبعه لما يرى من الشبهات " .
قال : هذا قول الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، فلا يحملن أحداً منكم حسن ظنه بنفسه وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينة في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء فيقول : أداخله لأناظره أو لأستخرج منه مذهبه فإنهم أشد فتنة من الدجال، وكلامهم ألصق من الجرب، وأحرق للقلوب من اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبونهم فجالسوهم على سبيل الإنكار والرد عليهم فما زالت بهم المباسطة وخفي المكر ودقيق الكفر حتى صبوا عليهم .
وذكر أن محمد بن السائب كان من أهل السنة، فقال : نذهب نسمع من هؤلاء فما رجع حتى أخذ بها وعلقت في قلبه . أ . هـ ومثله كثير .

والهوى : كل ما خالف الحق، وللنفس فيه حظ ورغبة من الأقوال والأفعال والمقاصد، فالهوى ميل النفس إلى الشهوة، ثم يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وفي الآخرة إلى الهاوية !!
فميل النفس إلى الثناء ومدح الناس وتعظيمهم إياه وطلب الرفعة عليهم في رئاسة أو صفة هو الهوى .
وقد ذم الله اليهود لاتباعهم لأهوائهم، حيث قادهم ذلك إلى تبديل شرع الله والكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من الوحي .
وسبب ذلك اتباعهم لأهوائهم، قال تعالى : { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتهم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [سورة البقرة الآية 87] . وقال تعالى : { لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون } [ المائدة ، الآية : 70]
فاتباع الهوى هو أصل الضلال والكفر، ومعلوم أن ذلك يتفاوت تفاوتاً عظيماً، فمن اتباع الهوى ما يوصل إلى ما ذكر، ومنه ما هو أقل من ذلك، وكل من خالف الحق لا يخرج عن اتباعه للهوى أو الاعتماد على الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، كما قال تعالى : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } [سورة النجم ، الآية :23] . فإن كان يعتقد أن قوله صحيحاً وله فيه حجة يتمسك بها فغايته اتباع الظن الذي لا يغني من الحق شيئا وتكون حجته شبهات فاسدة مركبة من ألفاظ مجملة ومعان متشابهة لم يميز بين حقها وباطلها، فإذا ميز الحق فيها عن الباطل زال الاشتباه .
ومما يجب أن يعلم أن الله – تعالى – لم يقص علينا في القرآن الكريم قصص السابقين إلا لنعتبر بها لما فينا من الحاجة إلى ذلك، ولما فيه من المصلحة، وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا ما يقع لنا وما يكون فينا على ما وقع من السابقين وحصل لهم من جراء ذلك .
ولولا أن في نفوس كثير من الناس أو أكثرهم ما كان في نفوس المكذبين للرسل لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه بقول أو فعل أو سجية كامنة في النفس تنتظر الخروج، ولكن الواقع مثل ما قال الله تعالى : {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم } [ سورة البقرة ، الآية 118] وقوله تعالى : {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} [ سورة الذاريات الآية :52 ] وقال تعالى : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } [سورة فصلت ، الآية :43] وقوله : { يضاهئون قول الذين كفروا من قبل } [ سورة التوبة الآية :30 ] ، أي قولهم يماثل قول من سبقهم بالكفر ويشابهه .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ " . والقذة : ريشة السهم، وهي ما يشبه رصاصة البندقية (اليوم)، فكل واحدة تكون مساوية للأخرى، فالمعنى أنكم تكونون مثلهم بأفعالهم سواء بسواء .
وفي الحديث الآخر : " لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتى بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعا بذراع فقيل يا رسول الله ، كفارس والروم ؟ فقال : ومن الناس إلا أولئك " .
بمعنى الأول تماما . وكثير من الناس يدعو إلى أن يكون شريكا لله تعالى في طاعة الأمر واتباعه، بل والتعظيم ! وإن كان لا يستطيع أن يصرح بذلك، ولكن هذا كامن في نفسه، وهذا غاية الظلم والجهل، وكل نفس – إلا ما شاء الله – فيها على الأقل شعبة من ذلك، إن لم يعن الله العبد ويهديه، وإلا ظهر ذلك من نفسه ووقع فيما وقع فيه إبليس وفرعون بحسب قدرته وسلطانه .
قال بعض السلف : ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون، غير أن فرعون قدر فأظهر وغيره عجز فأضمر .
والعاقل إذا تعرف على أحوال النفس، ونظر في أخبار الناس، وجد أن كل واحد منهم يريد لنفسه أن تطاع وتعلوا بحسب حاله وقدرته، فالنفوس مشحونة بحب العلو والرئاسة بحسب إمكانها . فتجد أحدهم يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه ! فمعبوده ما يريده ويهواه … كما قال تعالى: { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عيه وكيلا } [سورة الفرقان ، الآية : 43 ] . فمن وافق هواه واستمع لأقواله واتبعه صار صديقا له مقربا منه، وإن كان عاصيا لله تعالى بل ربما وإن كان مشركا كافرا، ومن لم يوافقه فيما يهواه كان عدوا وإن كان من أولياء الله المتقين . والتفاوت في هذا بين الناس كبير، فكثيرمن المسلمين يطلبون طاعتهم في غيرهم، وإن كان في طاعتهم معصية لله تعالى ، فمن أطاعهم في ذلك كان أحب إليهم وأعز عندهم ممن أطاع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وكثير من الناس يكون في نفسه حب الرئاسة كامن لا يشعر به، ويخفى عليه، فضلا عن غيره، وعند المقتضيات تظهر هذه الكوامن؛ ولهذا سميت هذه الشهوات الخفية .
قال شداد بن أوس : " يا بقايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية، قيل لأبي داود السجستاني : ما الشهوة الخفية ؟ قال : حب الرئاسة، فهي خفية تخفى على الناس وقد تخفى على صاحبها " .
* ومن علامات ذلك محبة من يعظمه بقبول قوله أو الاستماع له أكثر من غيره، وإن كان ذلك الغير أطوع لله وأتقى ، وهذا يوجد كثيرا حتى في أهل العلم !! فتجد بعض أهل العلم يحب من يعظمه ويطيعه دون أن يعظم من هو نظيره في العلم أو أفضل منه، وإن كانا على منهج واحد، وإنما يتم بقبول قوله والاقتداء به أكثر من غيره، وإن كان ذلك الغير أكثر طاعة لله، وربما أبغض من يشاركه في العلم والاتباع حسدًا وبغيًا .. كفعل اليهود لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى مثل ما دعا إليه موسى : كفروا به وأبغضوه . قال تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم } [ سورة البقرة ، الآية :91] .
ثم قد يحصل ممن هذا وصفه ظلم وعدوان لمن خالفه في هواه، أو ربما لمن قام ببعض ما يجب عليه لله من نشر علم أو دعوة الى الله تعالى ، فيقف في وجهه صادا عن الحق أو ملبسا الحق بالباطل كفعل علماء اليهود، كما قال تعالى عنهم: {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} [سورة آل عمران الآية :71] . ثم تجده يرمي من خالفه بالألقاب المكروهة المنفرة التي تخالف أمر الله ورسوله ابتغاء التفرقة وابتغاء الفتنة، وهو في ذلك يزعم أنه مصلح ودافع للفساد، كما قال الله عن فرعون : {ذروني أقتل موسى وليدع ربه إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} [سورة غافر الآية : 26 ] فهو يزعم أنه هو المصلح والمحافظ على الدين الحارس له من التغيير والتبديل، وأما موسى فإنه ممن يسعى لتغيير الدين والفساد في الأرض !! وهكذا تقلب الحقائق لدى أهل الأهواء ومبتغي العلو في الأرض فيصبح المفسد مصلحا والمصلح حقا لديهم مفسدا، والكفر بالله ومنازعته سلطانه : دينا يجب أن يحمى ويصان، ودين الله يعتبر تغييراً للدين وتبديلا للحق ، فتجد هؤلاء يصنفون الناس حسب أهوائهم . فهذا إخواني وذلك سلفى والآخر تبليغي، والثاني سروري أو اخونجي !! وهكذا أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وليست في دين المسلمين، بل هي من دين الجاهلية ومدعاة للعصبية والتفرقة !!
وإن كان اسم "السلفي" قد وردت به الآثار، والمقصود به من اتبع طريقة الصحابة، ومن اقتدى بهم، ومع ذلك فإذا استخدم للتعصب والتحيز إلى فريق معين فإنه يكون ممقوتا في الشرع .
فقد جاء في السيرة في أحد مغازي النبى صلى الله عليه وسلم " أنه اقتتل غلامان : غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار فنادى المهاجر يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري يا للأنصار فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذا ، دعوى أهل الجاهلية ؟! دعوها فإنها منتنة " . مع أن هذين الإسمين [المهاجرين والأنصار] جاء بهما القرآن، وهما محبوبان لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولما استخدما لنوع من العصبية صار ذلك من فعل الجاهلية، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الدعوى منتنة لأنها تدعو إلى التفرق والتفكك .
وقريب من هذا ما حصل لسلمان يوم أحد، لما رمى أحد المشركين ، قال خذها وأنا الفارسي، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : قل وأنا الرجل المسلم .
ومثله ما ذكره شيخ الإسلام يرحمه الله تعالى ، قال : روينا عن معاوية بن أبي سفيان : أنه سأل ابن عباس : أأنت على ملة علي أو على ملة عثمان ؟ فقال : لست على ملة علي ولا على ملة عثمان بل أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم،  قال : "وكذلك كان كل من السلف يقولون : كل هذه الأهواء في النار . ويقول أحدهم : ما أبالي أي النعمتين أعظم : أن هداني الله للإسلام أو أن جنبني هذه الأهواء " .
فلا يجوز التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله، مثل أن يقال للرجل : أنت شكيلي أو قرفندي ، فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلى ولا قرفندي !! بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى قد سمانا في القرآن المسلمين المؤمنين عباد الله ، فلا نعدل عن الأسماء التي سمانا الله بها إلى أسماء أحدثها قوم وسموها هم وآباؤهم ، فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بهذه الأسماء ولا يوالى عليها ويعادي بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان . أ هـ .
والواجب على كل من يتكلم في أمر من أمور الدين أن يكون مخلصا لله متجرداً للحق، وغالباً على نفسه بالمجاهدة عن اتباع الهوى وما تميل إليه من حظوظها الدنيوية، كحب الثناء والظهور وكثرة الأتباع، أو ما هو أسوأ من هذا كله، وهو الحصول على شيء من حطام الدنيا .

* ومن نظر في كثير من الخلافات بين الجماعات والأفراد ، سواء كان ذلك في مسائل العلم أو في مجال التوجيه والعمل، وجد ظاهرها في طلب العدل والإنصاف، أو الصواب وترك الانحراف، وحقيقتها حب عبادة النفس واتباع الهوى، أو أغراض سيئة دنيئة، وقد علم أن الهوى يعمي ويصم ويضل عن سبيل الله، وقد ترجع إلى أمور شخصية أو تطلعات معينة دنيئة، وإن غلفت بالغيرة على الدين وإرادة إظهار الحق، والواقع خلاف ذلك .
ومن هذه صفته فهو ومن نحى نحوه المعني بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة وعبد القطيفة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط . تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش "  .
فهو عبد لهذه الأشياء لأن عمله من أجلها، ولها يرضا ويسخط، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط". وهذا يدل على أن صاحب الهوى يعبد هواه كما قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله } [سورة الجاثية ، الآية 23 ] . وفي حديث أبي هريرة الذي في الصحيح في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار : " الأول من تعلم علما ليقال : هو عالم قارئ، والآخر من قاتل ليقال هو جريء شجاع، والثالث : من تصدق ليقال هو جواد كريم " . فهؤلاء إنما كان قصدهم مدح الناس لهم وطلب الجاه عندهم وتعظيمهم لهم، لم يقصدوا بفعلهم وجه الله وإن كانت صور أعمالهم حسنة في الظاهر .
وفي الحديث الآخر : " من طلب العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه فله من عمله النار " .
فمباهات العلماء أن يظهر لهم أنه يعرف ما يعرفون، ويدرك ما لا يدركون من المعاني والاستنباطات، وأنه يستطيع أن يرد عليهم، ويبين أنهم يخطئون .
وأما مماراة السفهاء فهو مجادلتهم ومجاراتهم في السفه .
وأما صرف وجوه الناس إليه فالمراد به طلب ثنائهم ومدحهم له، وتعريفهم بأنه عالم، فهو بعمله هذا يتقرب إلى النار .
وفي الحديث الآخر : " من طلب علما مما يبتغي به وجه الله تعالى لا يطلبه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة . وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة سنة " .
ومقابله ما قاله أبو عثمان النيسابوري : " من أمر السنة على نفسه قولا وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة " لأن الله يقول : {وإن تطيعوه تهتدوا} [سورة النور الآية:54] .

فاتباع الهوى نوع من الشرك كما قال بعض السلف : " شر إله عبد في الأرض الهوى " ! فهو يضل الإنسان عن الحق وإن كان يعرف ذلك، فإذا صار الهوى هو القائد والدافع صار أصحابه شيعا يتعصب كل واحد لرأيه ويعادي من خالفه، ولو كان الحق معه واضحا لأن الحق ليس مطلوبه !! وبذلك يذلوا وتذهب ريحهم، ويفشلوا أمام كل عمل أرادوه، لأنهم صاروا متفرقين تتحكم فيهم الأهواء، ولذلك تجد هؤلاء كلما علم أحدهم أن من يخالفه قد تكلم في مسألة أو موضوع تجده يبادر إلى الرد عليه بدون تأمل في قوله وتلمس لوجه الصواب، بل يعمى عن هذا المقصد، ويبذل جهده في تضليل مخالفه، وتفنيد رأيه بكل ما يستطيع، ولو برأي تافه وتعسف بغيض، مع أن الذي يوجبه الإسلام هو محادثة المخالف والاطلاع على دلائله، ووزنها بميزان الكتاب والسنة . ثم يكون ذلك هو المنهي للنزاع، كما قال تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } [سورة النساء ، الآية 65 ] فنفى الإيمان عمن لم يحكم الكتاب والسنة فيما يختلف فيه هو وغيره، ثم يسلم لحكمهما وينقاد له بدون تبرم أو ضيق صدر بذلك . بل لا بد من الرضا به والتسليم له مطلقا وإلا لا يكون مؤمناً .
وقال تعالى : {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } [سورة النساء الآية 59] فأوجب رد كل ما حصل فيه نزاع إلى الله والرسول لأن قوله : { في شيء } نكرة تعم كل ما أحدث نزاعاً وإن قل، وبين أن الرد إليهما هو مقتضى الإيمان، فإذا لم يرد النزاع إلى الله والرسول فمفهوم ذلك انتفاء الإيمان عمن فعل ذلك . وهذا المفهوم قد صرح به منطوقا في الآية السابقة . والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته .. وذلك بإجماع العلماء .
وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [سورة النور الآية: 63]. أي فليحذر من لم يتبع الرسول في أقواله وأعماله ظاهراً وباطنا أن يطبع الله على قلبه ويزين له سوء عمله فيراه حسنا فيزداد شرا على شر أو يصيبه الله بعقاب عاجل مؤلم لا يتخلص منه مع ما أعد له في الآخرة من النكال والإهانة.
قال ابن كثير :" أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطنا : {أن تصيبهم فتنة} أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة . {أو يصيبهم عذاب أليم} أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك . ثم ذكر الحديث الذي في الصحيحين : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما مثلى ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب يقعن فيها فجعل الرجل يزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها ". ووجه ذكر هذا الحديث تفسيراً لهذه الآية ظاهر وهو أن من خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى بنفسه في النار فليحذر الإنسان أن يزين له الشيطان أو هواه اتباع من خالف الشرع محسنا ظنه به فيعض على يديه يوم يحصل ما في الصدور .

وكل هذا .. المقصود منه حسم النزاع وإنهاؤه ليحصل الوئام والاتفاق، فإن هذا من أعظم مقاصد الشريعة الإسلامية . وقد قال الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [سورة آل عمران الآية 102]، وقال تعالى: {وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون} [سورة آل عمران الآية 107 ]. وقال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}، [سورة الأنفال الآية :1] . وقال تعالى: {ولا تكونوا من المشركين . من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا}، [ سورة الروم الآيتان 31،32 ] وقال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} [سورة الأنعام الآية :159 ].
أمر الله عباده المؤمنين بأن يتقوه بفعل ما أمرهم به من الاجتماع على دينه متحابين متعاونين على الخير، وأن لا يموتوا إلا وهم مستسلمين لأمره منقادين لطاعته مبتعدين عن معصيته . فإن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده .
وأمرهم أن يعتصموا بدينه عن التنازع والاختلاف والتفرق الذي يدعو إلى التعادي والتقاطع ثم الفشل والضعف وتسلط الأعداء ! وأن يشكروا الله على ما من به عليهم من نعمة الاجتماع على دينه أخوة متحابين، وأمرهم أن يكونوا دعاة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم نهاهم عن التفرق بعدما أعلمهم ضرره وما يترتب عليه من العداء والتباغض، ثم التدابر والتقاتل، كما حدث لمن قبلنا الذين يجب أن نعتبر بهم لئلا يصيبنا ما أصابهم، فمن فعل ذلك سوف يسود وجهه عند ملاقاة ربه وتيقنه بالجزاء العادل، وذلك يوم تبيض وجوه أهل الحق والوفاق الذين اعتصموا بكتاب الله عن التفرق والاختلاف، فعروفوا الحق واجتمعوا عليه، وعرفوا قبح الباطل وسوء عاقبة أهله فابتعدوا عنه، وكل هذا يدل صراحة على وجوب الاجتماع والائتلاف، ويحرم التفرق والاختلاف بجميع صوره . فمن أوجد ثغرة يخرج منها عن هذا الاجتماع يكون محاربا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مفارقا لأمره، وهذا شأن أهل الضلال والأهواء .

أما أهل العلم فإنهم يختلفون في بعض مسائل العلم وهم متحابون مجتمعون على الحق، معتصمون بحبل الله، كما كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون في بعض أحكام الشرع ولا يدعوهم ذلك إلى التفرق وأن يكونوا شيعا كل فريق يعادي الآخر، كما يحصل اليوم لكثير ممن يزعم أنه من أهل العلم وذلك لأنهم اعتصموا بحبل الله جميعا كما أمر الله تعالى، وإنما كان اختلافهم في الاستنباط وإعمال الفكر في نصوص الشرع وكلياته فيما لم يجدوا فيه نصا فحمدوا وأجروا على ذلك.. مثل اختلافهم في إرث الجد مع الأخوة، وفي جواز بيع أمهات الأولاد، وفي المشركة، وفي الطلاق قبل النكاح، وفي مسائل في البيوع، وغير ذلك كثير كل واحد يخالف الآخر، ومع ذلك كانوا متوادين متناصحين، رابطة الأخوة الإسلامية قوية بينهم .
قال الشاطبي : كل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء، ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنابز والتنافر والقطيعة علمنا أنها ليست من أمرالدين في شيء، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية، وهي قوله تعالى : {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} [ سورة الأنعام الآية 159]. فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها، ودليل ذلك قوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} [سورة آل عمران الآية 103 ]. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى، فالإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين " أ . هـ  .
والتفسير الذي أشار إليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم فسر به قوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} [سورة الأنعام الآية 159] هو ما ذكره عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله عليه وسلم : يا عائشة : " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا " هم أصحاب الأهواء، وأصحاب البدع، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ! يا عائشة إن لكل ذنب توبة ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة ! وأنا بريء منهم وهم مني براء !!

وقال الشاطبي أيضا : " ينبغي أن تذكر أوصاف أهل البدع ولا يعينون بأعيانهم لئلا يكون ذلك داع إلى الفرقة والوحشة وعدم الألفة التي أمر الله بها ورسوله، حيث قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} [سورة آل عمران الآية : 103]، وقال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} [سورة الأنفال الآية 1 ]، وقال تعالى: {ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} [ سورة الروم الآيتان 31،32] وفي الحديث : (لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا) ، وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين، وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة وأنها تحلق الدين، والشريعة طافحة بهذا المعنى" أ هـ . يعنى أن من قواعد الشرع ومن مقتضيات الإيمان والاعتصام بكتاب الله : الوحدة على الحق والاتفاق عليه، وأن ترك الاهتداء بهذا الدين يورث الاختلاف والشقاق، كما قال تعالى: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق} [سورة البقرة الآية : 137] فالله تعالى أوجب علينا أن نجعل اجتماعنا ووحدتنا بكتابه، فعليه نجتمع وبه نعتصم .. لا بأوضاع زائفة، ولا بمذاهب مخترعة، ولا بجنسيات يعتز بها، ولا بسياسات باطلة مبنية على غير الحق والهدى ! ونهانا عن التفرق والتفكك والانفصام بعد هذا الاجتماع والاعتصام، لما في ذلك من زوال الوحدة التي هي مناط العزة والقوة، وبالعزة يعتز الحق فيعلوا على الباطل، وبالقوة يحفظ هو وأهله من هجمات الأعداء ومكائدهم .

* وقد جاء النهي عن التفرق مصحوبا بالوعيد الشديد لفظاعة أمره، وسوء عاقبته . كما قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم . يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} [ سورة آل عمران الآيتان :105،106]. لأن الاختلاف بعد مجيء البينات خروج على أمر الله الذي يجب أن يكون جامعا للناس موحدا لصفوفهم، فإذا فهم قول الله واتبع وحسنت المقاصد صار عاصما من الاختلاف والتفرق، داع للاتفاق والاجتماع على طاعة الله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك يتضمن التعاون على البر والتقوى والتناصر على أعداء الله وأعداء المسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح للمسلمين عامة وخاصة، ولهذا جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا هو الدين كما في حديث تميم الداري، قال : الدين النصيحة قالها ثلاثا ، قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم " .

ومما يؤسف له أن هذا الأمر المهم لم يوله طلبة العلم في أيامنا هذه ما يستحقه من الاهتمام والاعتناء به، مع وجود كثير ممن نصب نفسه للتوجيه والتدريس ويغلب عليه حب الظهور واتباع أهواء النفوس مع الجهل الكثير في المسائل العلمية المهمة، فصار من ثمار ذلك هذه الحالات التي يعيشها الشباب اليوم من التحزبات والاشتغال بالقيل والقال، وإطلاق الألسنة تلوك وتلفظ في أعراض الناس، ولا سيما المشايخ والدعاة الى الله، بل توجه إليهم سهام النقد والتجريح بلا جريمة، بل جعلوا المحاسن مساوئ !

وقد استمعت لكلام أحد هؤلاء نقل كلاما لأحد الدعاة يثني فيه على العلماء ويقول : " إنهم يقومون بأعمال كثيرة ويتحملون أعباء عظيمة، فيجب أن لا نحملهم ما لا يطيقون، ويجب علينا أن نساعدهم ونعاونهم ونكمل النقص الذي يحصل لهم " .. ثم يجعل هذا الكلام محلا للانتقاد ويقول :" وهذا هو تنقص المشايخ والعلماء وعدم تقديرهم " .. إلى آخر هذيانه الذي هو أشبه بهذيان المحموم : فما أدري ماذا يريد هذا الناقد الغيور على المشايخ ؟ هل يريد أن يجعلوا في عداد الرسل معصومين كما تقوله الرافضة أو أنه لم يجد شيئا يتعلق به إلا أن يلبس على الناس بأن هؤلاء الدعاة قد خرجوا عن الحق فصاروا يرمون أهله بالتنقص والازدراء ؟ ! .

* أقول : من نتائج أفعال هؤلاء تبلبلت أفكار كثير من الشباب .
* فمنهم من ضل طريق الهدى ، وصار يتبع ما يرسمه له هؤلاء النقدة الذين وقفوا في طريق الدعوة يصدون عن سبيل الله .
* ومنهم من صار لديه بسبب هؤلاء النقدة فجوة عظيمة بينه وبين العلماء، ووحشة كبيرة فابتعد عنهم.
* ومنهم من جعل يصنف الناس حسب حصيلته مما يسمع من هؤلاء بأن فلانا : من الإخوان، لأنه يكلم فلانا من الإخوان أو يزوره أو يجلس معه، وأن فلانا من السروريين، وفلانا من النفعيين وهكذا .
والعجب أنهم بهذا يزعمون أنهم يطبقون منهج الجرح والتعديل. وقد اتخذوا في هذا رؤساء جهالاً فضلوا وأضلوا .
فعلى المسلم أن يتقي الله في نفسه، وفي هؤلاء المساكين أرباع المتعلمين أو أعشارهم .
وفي الحديث الصحيح : " لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من حمر النعم "  يعني خير لك من الدنيا، فكذلك من ضل بسببه رجل واحد فعليه وزر عظيم . وقد قال الله تعالى بعدما ذكر قصة قتل ابن آدم لأخيه : {من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا} [سورة المائدة ، الآية :32 ].
وإضلال الإنسان في دينه أعظم من قتله بكثير، والكلام في مسائل الدين يجب أن يكون بدليل من كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وأن يقصد به وجه الله، وألا يكون ضرورة أكبر من نفعه، والا يكون الحامل عليه الحسد لمعين واتباع الهوى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : " ومعلوم أننا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة، مثل الملوك المختلفين على الملك والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، فإن العدل واجب لكل أحد وعلى كل أحد، في كل حال، والظلم محرم مطلقا لا يباح قط بحال قال تعالى : {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [سورة المائدة الآية :8 ]. وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمور به، فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهي صاحبه أن يظلم من أبغضه ، فكيف في بغض مسلم بتأويل أو شبهة أو بهوى نفس ؟! فهو أحق أن لا يظلم ، بل يعدل عليه " .
وقال : " والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته والثناء على أهله ومحبتهم. والظلم مما اتفقوا على بغضه وذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم، والعدل من المعروف الذي أمر الله به وهو الحكم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها، والحكم به واجب على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى من اتبعه، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر .
وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعت فيه الأمور الاعتقادية أو العملية . قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم} [سورة البقرة الآية 213]. وقال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [سورة الشورى الآية :10] .
فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك ومن اعتقد أنه يحكم بين الناس بشيء من ذلك ولا يحكم بينهم بالكتاب والسنة، فهو كافر ! وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة ولا يحكمون في الأمور الكلية، وإذا حكموا في المعينات فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم برأيه " .
والله تعالى قد أمر المؤمنين كلهم أن يعتصموا بحبله جميعاً ولا يتفرقوا، وقد فسر حبله بكتابه، وبدينه، وبالإسلام وبالإخلاص وبأمره، وبطاعته، وبالجماعة، وهذه كلها منقولة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وكلها صحيحة ، فإن القرآن الكريم يأمر بدين الإسلام، وذلك هو عهده وأمره وطاعته، والاعتصام به جميعاً إنما يكون في الجماعة ودين الإسلام حقيقته الإخلاص لله، وفي صحيح مسلم من حديث أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله يرضى لكم ثلاثا، أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم "  .
والله تعالى قد حرم ظلم المسلمين الأحياء منهم والأموات، وحرم دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع : " إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع" .
وقد قال الله تعالى : {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} . [سورة الأحزاب ، الآية :58 ] فمن آذى مؤمنا حيا أو ميتا بغير ذنب يوجب ذلك فقد دخل في هذه الآية .
ومن كان مجتهدا لا إثم عليه، فإذا آذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب، ومن كان مذنبا وقد تاب من ذنبه أو غفر له بسبب آخر بحيث لم يبق عليه عقوبة فآذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب وإن حصل له بفعله مصيبة .
وقال تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضا} [سورة الحجرات ، الآية : 5 ] وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الغيبة ذكرك أخاك بما يكره .. قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول . قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته " .
فمن رمى أحدا بما ليس فيه فقد بهته، ومن قال عن مجتهد إنه تعمد الظلم وتعمد معصية الله ورسوله ومخالفة الكتاب والسنة ولم يكن كذلك فقد بهته، وإن كان فيه ذلك فقد اغتابه، ولكن يباح من ذلك ما أباحه الله ورسوله، وهو ما يكون على وجه القصاص والعدل وما يحتاج إليه لمصلحة الدين ونصيحة المسلمين .
فالأول : كقول المشتكي المظلوم : فلان ضربني، وأخذ مالي ومنعني حقي ونحو ذلك . قال تعالى : { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} [ سورة النساء ، الآية : 148 ] .
وأما الحاجة : فمثل استفتاء هند بنت عتبة . قالت : يا رسول الله " إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وابنى ما يكفيني بالمعروف ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". أخرجاه  . فلم ينكر عليه قولها ذلك، وهو من جنس قول المظلوم .
وأما النصيحة : فمثل قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها . قالت : خطبني أبو جهم ومعاوية . فقال : " أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " . وفي لفظ : " يضرب النساء ولكن انكحي أسامة " . فذكر ما تحتاج إليه، وكذلك من استشار رجلا فيمن يعامله، والنصيحة مأمور بها، ولو لم يشاوره كما مر في حديث تميم  .
وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو تعمد الكذب عليه أو على من ينقل عنه العلم .
وكذلك بيان غلط من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية .
فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل وقصد النصيحة، فالله تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة فهذا يجب بيان أمره للناس، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق .

أما إذا تشاجر مسلمان في قضية ومضت ولا تعلق للناس بها ولا يعرفون حقيقتها كان كلامهم فيها كلاما بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان فذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حمى مؤمنا من منافق حمى الله لحمه من نار جهنم يوم القيامة " . وفي الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" . وفيهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " . وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } [ سور الحجرات ، الآية : 11 ] .
فنهى عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، واللمز هو العيب والطعن .
وقوله تعالى: {ولا تلمزا أنفسكم}، أي لا يلمز بعضكم بعضا . وعلى المسلم أولا أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما يقوله ويفعله، وألا يكون بقوله وفعله طالبا الرئاسة لنفسه أو لطائفته، أو تنقص غيره وحسده. وأن يفعل ذلك لطلب السمعة والرياء، فإنه بذلك يحبط عمله، وإذا كان علمه صالحا وخاليا من الشوائب المفسدة في المبدأ. ولكن لما رد عليه قوله أو أذى من أجل ما هو لله تعالى فنسب إلى الخطأ والغرض الفاسد عند ذلك طلب الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان وزين له ذلك فيكون مبدأ علمه لله ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي، وهكذا يقع لأصحاب الاختلافات إذا كان كل واحد منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة ، فيقعوا في الهوى وطلب الانتصار لجاههم ورئاستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا، لا يغضبون عليه لله، ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلا سيئ القصد ليس له علم ولا حسن قصد، فيقضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، فتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله فيتشبهون بالكفار الذين لا يطلبون إلا أهوائهم فتنشأ الفتن بين الناس.

وأصل الدين أن يكون الحب لله والبغض لله، والموالاة فيه والمعاداة فيه، والعبادة كلها له والاستعانة به، والخوف منه والرجاء له والعطاء والمنع له، وهذا لا يكون إلا بمتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره أمر الله، ونهيه نهي الله، وطاعته طاعة الله، ومعاداته معاداة الله، ومعصيته معصية لله تعالى .
وصاحب الهوى يعميه هواه ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله، ولا يطلب ذلك، فلا يرضى لرضى الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يهواه ويريده، ويغضب إذا خولف هواه، ويكون مع ذلك عنده شبهة دين وعلم، أو أنه يعمل على اتباع السنة ونصرة الدين والواقع خلاف ذلك .

ولو قدر أن الذي معه هو الحق المحض ولكنه قصده الانتصار لنفسه ولغرضه، ولم يقصد أن يكون الدين كله لله وكلمة الله هي العليا بل قصده الحمية لنفسه ولطائفته أو قصده الرياء ليعظم ويثنى عليه أو فعل ذلك شجاعة وطبعا، أو لغرض من أمور الدنيا لم يكن لله ولا في سبيله، فكيف إذا كان مثل غيره معه حق وباطل، وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة، فهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا .

والاختلاف إذا كان في ملة واحدة فكله مذموم، لأنه يؤدي إلى التنازع والتفرق، والدين يأمر بالاجتماع والإتلاف . قال تعالى: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [سورة البقرة : الآية : 176] . وقال : {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} [ سورة يونس ، الآية : 19 ] فذمهم على الاختلاف، وأما إذا كان الاختلاف بين أهل الإيمان والكفر كقوله تعالى : {فمنهم من آمن ومنهم من كفر} [سورة البقرة ، الآية : 253] فهذا مطلوب لأن فيه تمييز الحق من الباطل، ومزاولة الباطل والبعد عنه .

وإذا حصل خلاف بين أهل الدين يجب أن يقصد به طاعة الله وتنقية الحق من الباطل في نفوس الناس .. رحمة بهم وإحسانا إليهم وطلبا لرضى الله تعالى، حتى إذا رد على أهل البدع الظاهرة مثل الرافضة وغيرهم يجب أن يقصد بذلك بيان الحق وهداية الخلق، ورحمتهم والإحسان إليهم، وإذا غلط في بيان بدعة أو ذمها أو معصية يجب أن يكون قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد، وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيرا والقصد ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام .

والله أعلم .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد .

 

منتديات الحوار

  • يا روادَ المنتديات
  • الكاتب المتميز
  • آفات وأخطار
  • منوعات
  • الفتاة والمنتديات
  • أدب الحوار
  • أدب الخلاف
  • الصفحة الرئيسية