اطبع هذه الصفحة


{ الْهِجْرَةُ النّبَوِيةُ .. الإنْعِتَاقُ مِن ضِيقِ الإنْتِمَاءِ إلَى سَعَةِ الوَلَاءِ والعَطَاء }

بقلم الأستاذ :
أحمد حامد الجبراوي ( المحامي )
الخرطوم - جمهورية السودان


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله و كفى و سلام على عباده الذين اصطفى .. و بعد :

فإنَّ الهجرة النبوية تمثّل تحوّلا مهمّا في تاريخ الإسلام ، و هي تشتمل على مجموعة
ممّا يُعتَبَرُ به ممّا يمسّ واقعَنا .

و من ذلك أنّ الهجرة النّبويّة تمثّل انعتاقا كبيراً من ضيق الإنتماء إلى تجسيد بُعْدٍ أوسع من الولاء لله تعالى و الذي يؤدي بدوره إلى اتساع و شمول العطاء الإنساني إذ كلّما اتّسعت دوائر المرء و محيطاته كان ما يخرج منه بذات تلك السّعة ؛ و أما الضيق فإنّه يؤدي إلى مثله ، و نلاحظ مؤشرات ذلك من خلال التّالي :

* معنى الهجرة :

إن الهجرة تُجسِّد المضمون أعلاه و تحتشد فيه تلك المعاني باعتبارها حركة من ضيق النّفس و أسْر القبليّة و الوطنيّة و احتِباس المعاصي و الآثام و الخروج من بلاد الكفر إلى بلاد الأمان و الإيمان ، فالهجرة تعني الخروج إلى ذلك الفضاء الممتد ، و لذلك كانت هجرة النبي صلى الله عليه و سلم فتحاً كبيراً بعد ما لاقاه من عنت أهل مكة و شدّة عداوتهم حتّى إذا ما بلغ اليأس منتهاه كان الإذن بالخروج ليكون باباً لسعة الإنتصار بتحقيق قيمة الولاء قال تعالى :
( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ ) يوسف: ١١٠ ، فمهما كان في الهجرة من محنة الاغتراب إلا أنه مؤدٍ لا محالة إلى اقتراب المنح .

* العقيدة مُقدَّمة على الأوطان :

و هي الحقيقة الماضية فَمَهْما بلغت محبّة الأوطان فى النفوس إلا أن العقيدة تأخذ الأولوية ، و لذلك ترك الرسول عليه السلام مكة و هي أحب بلاد الله إلى الله و أحبها إلى رسوله فقال :
( مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ ، وَ أَحَبَّكِ إِلَيَّ ، وَ لَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ ) الترمذي .

فالانتساب الحقيقي للدين الإسلامي فكراً و مشاعر و وجداناً ، و اعتزازُ الفردِ بالانتماء إلى دينه من خلال الإلتزام بتعاليمه ، و الثبات على منهجه ، فهو ولاءٌ يعود بالنفع عطاءً و تفاعلاً حتى مع احتياجات القبيلة و الوطن و الأسرة ، و يظهر ذلك من خلال بروز محبة الفرد لوطنه و الاعتزاز بالانضمام إليه و التضحية من أجله .

و الإنتماء الحقيقي يشتمل على قيم عالية سامية ، تتمثل في محبة الفرد لمجتمعه ، و حرصه عليه و تفاعله مع جميع أفراده ورخاصة عندما يكون هذا الوطن وطناً إسلامياً بمعنى الكلمة ، و كل ذلك من ثمرات تلك السعة .

و أما اذا ضاق الولاء للأسرة و القبيلة و القومية فإنه لا يتسع ليكون محبة للدين و العقيدة ؛ فتكون القبلية و القومية محادة للدين و محاربة له أو لا تستطيع الإلتزام بتعاليمه و هديه و سمته و الشواهد على ذلك كثيرة .

* عمق الرابطة الإسلامية :

فإنها رابطة عميقة الجذور تثمر خيراً و ترابطاً و تنبض بالإنسانية ، فها هو القادم الكريم و معه أصحابه في مستوى رفيع من المكانة و الترحاب نزلا و ضيافة ؛ بل و تنازلا لهم عن الأرض و المتاع و الزرع و الضرع ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ) الحشر : ٩ .

فمهما كانت الروابط فإنها تصْغُر أمام رابطة الإسلام و التي تتسم بقيم الإحسان و خلق الرحمة و رابطة الإخاء الحق و الإيثار و الإكرام ، قال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) الحجرات : ١٠ .

و تتسع دوائر الإخاء الإيماني احتمالاً للأذى و نجدةً للملهوف و إغاثةً للمحتاج و رعايةً لليتامى و الأرامل و ذوي الإحتياجات الخاصة إخاءً يعطي للإنسانية جمعاء أسمى أنواع العطاء بلا منٍّ ولا أذى و بذا عُرِفَ الإسلام و أهله .

* في ركب السَّنن الكونية :

لم يرد الله أن تكون الهجرة إعجازاً كما في الإسراء و المعراج و إنما جعلها عملاً بشرياً خالصاً تكلؤه عناية الله و تحفظه معيته ؛ فاتخذ النبي الكريم كل ما أُتِيح له من السنن الكونية تنظيماً و تخطيطاً و مراقبةً و تنفيذاً و إمداداً و حمايةً حتى يصل إلى مبتغاه فى إنجاحها و هو مما نحتاحه في حياتنا تنزيلاً لمعاني الهجرة تلك بعمق تحقيق الإنتماء للدين و بذل الوسع في الذود عنه و تحقيق معانيه في حياتنا ابتعاداً عن عُبِيَّة الجاهلية و تفاخرها بالأنساب و القبلية و القوميات ( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجرات : ١٣ .

و نجعل من تحقيقنا و التزامها باليمن الكونية ما يعزز تلك المعاني ؛ و ليس تآمراً على معانيها ولا حرباً عليها التزاماً باليمن الكونية من العدالة و الشفافية ورمعايير الصدق و الأمانة و الإخلاص و غيرها مما تستقيم به أوضاعنا .

* الأسرة في معية الولاء :

إن رابطة الأسرة تغدو قوة إنْ كانت في صالح العقيدة الإسلامية و ترسيخ قيمها في الحياة ، و تمسي ضعيفة لا حياة فيها إذا كانت لصالح الحياة و متاعها ، و لأجل ذلك برز البيت كحاضن لنجاح الهجرة و تراتيبها المتعددة ليظهر لنا في حياتنا كترياق مضاد لكل السهام التي تنتاش الأخلاق و القيم .

و هكذا يبرز بيت الصديق - رضي الله عنه - كنموذج حي لنجاح الهجرة ؛ فالبيت كله في خدمة صاحب الرسالة ... الدار و مالكه و أبناؤه و بناته و ماله و راعِيه و غنمه ... الخ .

و حاجتنا اليوم إلى بناء البيت ليكون حاضناً و داعماً لترسيخ قيم الانتساب للدين بعيداً عن الجهوية و القبلية و القومية من الأهمية بمكان كما برز معززة لها في إنجاح الهجرة بتفاصيلها .

* تضحيات جِسام لأهداف عِظام :

إن بذل النفس و الوقت و المال و الجهد و التفكير و التضحية بالوطن و الممتلكات و مراتع الصبا و موئل الأهل كلها و غيرها تضحيات جِسام ، و هي تبذل رخيصة من أجل الغايات العظمى .

و الدرس المهم أن ترسيخ قيم الولاء لله و لديننا و لتجذيرها في الحياة يحتاج إلى جهد مبذول تُنال به الثمرات العِظام ؛ فالأمة تحتاج إلى حزمة من الإيجابية و الفعل الصادق و الولاء الراشد و العطاء المتصل خاصة في إعلان ولائها لله و لرسوله و لدينه بدلاً من الجهويات المقيتة و العصبيات البغيضة .

* التوكل و الثقة :

كان عامل التوكل بعد بذل الأسباب مؤدٍ إلى كامل الثقة في ما عند الله لإنجاح الهجرة بداياتها تلك ( إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) التوبة : ٤٠ .

فمن لوازم الولاء لله : الثقة به ، فلا اعتماد على جاه ولا قبيلة ولا منصب و إنما هي رعاية الله تعالى وحده لا شريك له ، و هي القيمة العظيمة من خلال درس الهجرة أن كل العلائق و الوسائط تتساقط و تبقى معية الله الكبير المتعال .

* إذا اتسع الولاء زاد العطاء :

بمقدار ما يزيد ولاء العبد لدينه يكون عطاؤه اللازم و المُتَعدِّي ؛ لأن الولاء ترجمان للإيمان فبزيادته تربو الحسنات و تثمر الطاعات و تكثر الخيرات و هكذا كانت حياة الأمة المؤمنة ، و قد وجدت البشرية خيرها قيماً و أخلاقاً و علماً و أدباً و رُقِيّاً و عدلاً و سماحةً و يوم أن بهت ذلك البريق و ضعف النور انتكست الأمة و أمست عالة على العالم تستجدي خيراته و تستطعم زرعه و تقتني من تقاناته ؛ أن تحديد درس الهجرة فينا بإحياء معاني الولاء الصادق و الاعتزاز بديننا الحق و ترك عصبية الجنس و تفاخر الأنساب لنعود كما كنا رُوَّاداً للنهضة و حداة لركب الأمم .

* و للمرأة أدوار عظيمة :

لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير كأم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة و وعتها و بلغتها للأمة ، و أختها أسماء ذات الناطقين التي ساهمت في التموين في الغار بالماء و الغذاء ، و تحملت الأذى ، قالت :
( لما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر - رضي الله عنه - أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام ، فوقفوا على باب أبي بكر ، فخرجتُ إليهم ، فقالوا : أين أبوك يا بنت أبي بكر ؟ ، قلتُ : لا أدري و الله أين أبي ؟ ، قالت : فرفع أبو جهل يده ، و كان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ، قالت : ثم انصرفوا ) ابن هشام و ابن كثير .

و بالتالي فالمرأة دورها عظيم في بناء قيم الدين و الولاء لله و إسناد العمل الدعوي و التربوي و غيره ، و هو دور يتجدد الإحتياج إليه اليوم و نحن نستعيد تلك الذكرى العطرة .

* حزمة الأمل :

مهما ادْلَهمَّ الخَطْبُ و زادت التحديات إلا أن الأمل يظل مرفرفاً أمام العبد ، و عليه فإنه لا يمنعن مانع عبداً من أن يصل إلى مراده لأنه متعلق بربه يحيط به أمله ، و قد جاء في مراسيل الحسن - رحمه الله - قوله صلى الله عليه و سلم لسراقة بن مالك - رضى الله عنه : ( كيف بك إذا لبست سوارَيْ كِسْرَى ؟ ).

و هكذا يحدونا أمل أن نجدد ولاءنا لديننا و عقيدتنا ، و أن ننبذ الجهويات و القبلية و العنصرية و الإثنية ؛ فأوطاننا تحتاج إلى ترسيخ مثل هذه القيم تحديداً لدروس الهجرة و عبرها .

و صلى الله و سلم على نبينا محمد و آله و صحبه و سلم .

 

شهرالله المحرم
  • نهاية العام
  • شهر الله المحرم
  • شهر صفر
  • شهر ربيع الأول
  • شهر رجب
  • شهر شعبان
  • مختارات رمضانية
  • شهر شوال
  • مختارات الحج
  • وقفات مع العيد
  • المواضيع الموسمية