|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد ..
فهذا تلخيص لـ [ كتاب الصيام ] .. من الشرح الممتع على زاد المستقنع ،
لشيخنا العلّامة : محمد بن صالح العثيمين رحمه الله ، وقد اقتصرتُ فيه على
ترجيحات الشيخ ، وعملتُ على ترقيم مسائله ؛ ليسهل للقارئ الرجوع إليها ،
وقد اشتمل على [ مائة وإحدى عشرة ] مسألة ، وأتبعتُ كل مسألة بدليلها مع
ذكر تخريجه .
[ كتاب الصيام ] ..
[ ١ ] الصيام في الشرع : هو التعبد لله سبحانه وتعالى بالإمساك عن الأكل
والشرب ، وسائر المفطرات ، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
[ ٢ ] وحكمه : الوجوب بالنص والإجماع .
[ ٣ ] ويجب الصوم بأحد أمرين : الأول : رؤية هلال رمضان ، ولا يجب الصوم
بمقتضى الحساب ، فلو قرر علماء الحساب المتابعون لمنازل القمر أن الليلة من
رمضان ، ولكن لم يُرَ الهلال ، فإنه لا يصام ؛ لأن الشرع علق هذا الحكم
بأمر محسوس وهو الرؤية . والرؤية تعم ما إذا رأيناه بالعين المجردة أو
بالوسائل المقربة ؛ لأن الكل رؤية . والثاني : إتمام شعبان ثلاثين يومًا ؛
لأن الشهر الهلالي لا يمكن أن يزيد عن ثلاثين يومًا ، ولا يمكن أن ينقص عن
تسعة وعشرين يومًا .
[ ٤ ] وإن حال دون رؤية الهلال غيم ( سحاب ) أو قتر ( تراب ) وغيرهما مما
يمنع رؤيته ، حرم صومه ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الشهر تسع
وعشرون ليلة ، فلا تصوموا حتى تروه ، فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين
" . (١) ولكن إذا رأى الإمام وجوب صوم هذا اليومف ، وأمر الناس بصومه ،
فإنه لا يُنابذ ، ويحصل عدم منابذته بألا يظهر الإنسان فطره ، وإنما يفطر
سرًا ، وهذه المسألة لم يثبت فيها دخول الشهر ، أما لو حكم ولي الأمر بدخول
الشهر فالصوم واجب .
[ ٥ ] وإذا رأى الهلال أهل بلد لزمهم صومه ، فلا يجب إلا على من رآه ، أو
كان في حكمهم بأن توافقت مطالع الهلال ، فإن لم تتفق فلا يجب الصوم ؛ لقوله
تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ، والذين لا
يوافقون من شاهده في المطالع لا يقال أنهم شاهدوه لا حقيقة ولا حكمًا .
وكما أنه يختلف المسلمون في الإفطار والإمساك اليومي ، فيجب أن يختلفوا
كذلك في الإمساك والإفطار الشهري ، وهذا قياس جلي .
[ ٦ ] ويصام برؤية عدل ، فبذلك يثبت الشهر ؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما :
" تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر
الناس بصيامه " . (٢) والصيام بشهادة واحد مقتضى القياس ؛ لأن الناس يفطرون
بأذان الواحد ويمسكون بأذان الواحد . والذي يُقبل من الشهادة ما يترجح أنه
حق وصدق ، ويُشترط مع العدالة أن يكون قوي البصر بحيث يحتمل صدقه فيما
ادعاه ، فإن كان ضعيف البصر لم تقبل شهادته وإن كان عدلًا . وهلال شوال
وغيره من الشهور لا يثبت إلا بشاهدين ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "
فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا " . (٣)
[ ٧ ] وإن صام الناس بشهادة واحد ثلاثين يومًا لزمهم الفطر ؛ لأن الفطر
تابع للصوم ومبني عليه ، والصوم ثبت بدليل شرعي وقد صاموا ثلاثين يومًا ،
ولا يمكن أن يزيد الشهر على ثلاثين يومًا .
[ ٨ ] ومن صام برؤية بلد ، ثم سافر لبلد آخر قد صاموا بعدهم بيوم ، وأتم هو
ثلاثين يومًا ولم ير الهلال في تلك البلد التي سافر إليها ، يصوم معهم ولو
صام واحدًا وثلاثين يومًا ، وربما يقاس ذلك على ما لو سافر إلى بلد يتأخر
غروب الشمس فيه ، فإنه يفطر حسب غروب الشمس في تلك البلد التي سافر إليها .
[ ٩ ] وشروط من يلزمه الصوم خمسة :
الشرط الأول : الإسلام ، فالكافر لا يلزمه الصوم حال كفره ، ولا يُلزم
بقضائه بعد إسلامه ، ويُعاقب على تركه في الآخرة ، وعلى ترك جميع واجبات
الدين . والشرط الثاني : التكليف ، والمراد به : البلوغ والعقل . والشرط
الثالث : القدرة على الصيام ، والعاجز ينقسم إلى قسمين : ١- عجز طارئ ، وهو
الذي يُرجى زوال عجزه ، وهو المذكور في قوله تعالى : { وَمَن كَانَ
مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، فينتظر
حتى يزول عجزه ثم يقضي . ٢- عجز دائم ، وهو الذي لا يُرجى زواله ، فيجب
عليه الإطعام عن كل يوم مسكينًا سواء أطعمهم أو ملَّكلهم . ويُطعم كل ما
يُسمى طعامًا من تمر أو بر أو رز أو غيره . وأما مقداره فيرجع فيه إلى
العرف ، وما يحصل به الإطعام ، فإذا غدّى المساكين أو عشّاهم كفاه ذلك عن
الفدية . وعدد المساكين على عدد الأيام ، فلا يجزئ أن يعطي المسكين الواحد
من الطعام أكثر من فدية يوم واحد . أما عن وقت الإطعام فهو بالخيار إن شاء
فدى عن كل يوم بيومه ، وإن شاء أخّر إلى آخر يوم لفعل أنس رضي الله عنه .
ولا يُجزئ تقديم الإطعام . وإن أعسر المريض الذي لا يُرجى برؤه أو الكبير ،
فإنها تسقط عنهما الكفارة ؛ لأنه لا واجب مع العجز . والشرط الرابع :
الإقامة ، فإن كان مسافرًا فلا يجب عليه الصوم ؛ لقوله تعالى : { وَمَن
كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ،
وقد أجمع العلماء أنه يجوز للمسافر الفطر . والأفضل للمسافر والمريض أن
يفعلا الأيسر ، فإن كان في الصوم ضرر كان الصوم حرامًا لقوله تعالى : {
وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ، وإن
كان الفطر والصيام سواء فالصيام أولى ؛ لفعله عليه الصلاة والسلام ، وإذا
كان يشق عليه الصيام فالفطر أولى ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيمن صام
يوم شق على الناس الصيام في السفر : " أولئك العصاة أولئك العصاة " . (٤)
والشرط الخامس : الخلو من الموانع ، وهذا خاص بالنساء ، فالحائض والنفساء
لا يلزمهما الصوم ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم مُقررًا لذلك : " أليس
إذا حاضت لم تُصل ولم تصم " . (٥) فلا يلزمهما الصوم إجماعًا ولا يصح منهما
إجماعًا ، ويلزمهما قضاؤه إجماعًا .
[ ١٠ ] ومن قام به سبب الوجوب أثناء نهار رمضان كأن يسلم الكافر أو يبلغ
الصغير أو يفيق المجنون ، فإنه يلزمهم الإمساك دون القضاء ؛ لأنهم لا
يلزمهم الإمساك في أول النهار لعدم شرط التكليف وقد أتوا بما أُمروا به حين
أمسكوا عند وجود شرط التكليف ، ومن أتى بما أُمر به لم يُكلف بالإعادة .
أما إذا زال مانع الوجوب في أثناء النهار ، كالحائض والنفساء إذا طهرتا ،
والمسافر إذا قدم مفطرًا والمريض إذا برئ ، فلا شك في وجوب القضاء ؛ لأنهم
أفطروا في رمضان فلزمهم قضاء ما أفطروا . ولا يلزمهم الإمساك ؛ لما روي عن
عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : " من أكل أول النهار فليأكل آخره
" . (٦) والقاعدة : أن من أفطر في رمضان لعذر يبيح الفطر ، ثم زال ذلك
العذر أثناء النهار لم يلزمه الإمساك بقية اليوم .
[ ١١ ] والمريض له ثلاث حالات : الأولى : ألا يتأثر بالصوم ، مثل الزكام
اليسير ، أو الصداع اليسير ، أو وجع الضرس ، وما أشبه ذلك ، فهذا لا يحل له
أن يفطر ويجب عليه الصوم . الثانية : أن يشق عليه الصوم ولا يضره ، فهذا
يكره له أن يصوم ، ويسن له أن يفطر . الثالثة : أن يشق عليه الصوم ويضره ،
كالمصاب بمرض الكلى أو السكر ، وما أشبه ذلك ، فيحرم عليه الصوم ، ولا
يُجزئه لو صام ويجب عليه القضاء .
[ ١٢ ] والمسافر له ثلاث حالات : الأولى : ألا يكون لصومه مزية على فطره ،
ولا لفطره مزية على صومه ، ففهي هذه الحالة يكون الصوم أفضل له ؛ لفعله
عليه الصلاة والسلام ، ولأنه أسرع في إبراء الذمة ، ولأنه أسهل على المكلف
غالبًا لأن الصوم والفطر مع الناس أسهل من أن يستأنف الصوم بعدهم ، ولأنه
يُدرك الزمان الفاضل وهو رمضان . الثانية : أن يكون الفطر أرفق به ، فالفطر
أفضل ، وإذا شق عليه الصوم بعض الشيء صار الصوم في حقه مكروهًا ؛ لأن
ارتكاب المشقة مع وجود الرخصة يُشعر بالعدول عن رخصة الله عز وجل . الثالثة
: أن يشق عليه الصوم مشقة شديدة ، فيكون الصوم في حقه حرامًا .
[ ١٣ ] وإن نوى حاضر صيام يوم ثم سافر في أثنائه فله الفطر ؛ لفعل النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولأنه مسافر فيصدق عليه أنه ممن رُخِّص له بالفطر
فيفطر . ولكن لا يفطر حتى يخرج من البلد .
[ ١٤ ] يجوز للحامل والمرضِع أن تفطرا ، سواء كان الفطر مراعاة لحالهما ،
أو مراعاة لحال الولد ( الحمل أو الطفل ) ، أو مراعاة لحالهما مع الولد ،
ويجب عليهما القضاء كالمريض والمسافر .
[ ١٥ ] الإفطار لمصلحة الغير له صور منها : الأولى : إنقاذ غريق ، مثل أن
يسقط رجل معصوم في الماء ، ولا يستطيع أن يُخرجه إلا بعد أن يشرب ، فنقول :
اشرب وأنقذه . الثانية : إطفاء الحريق ، كأن يقول : لا أستطيع أن أُطفئ
الحريق حتى أشرب ، فنقول : اشرب وأطفئ الحريق . الثالثة : التبرع بالدم ،
فلو أن شخصًا احتيج إلى دمه ، بحيث أصيب رجل آخر بحادث ونزف دمه ، وقالوا :
إن دم هذا الصائم يصلح له ، وإن لم يتدارك هذا المريض فإنه يموت ، فله أن
يأذن في استخراج دمه من أجل إنقاذ المريض . وللمُفطر في هذه الصور الثلاث
أن يأكل ويشرب بقية اليوم ؛ لأنه أُذن له في فطر هذا اليوم ، فصار هذا
اليوم في حقه من الأيام التي لا يجب إمساكها ، فيبقى مُفطرًا إلى آخر
النهار ، ويجب القضاء .
[ ١٦ ] أحكام المجنون ، والمغمى عليه ، والنائم ، أولًا : المجنون : إذا
جُنّ الإنسان جميع النهار في رمضان من قبل الفجر حتى غربت الشمس فلا يصح
صومه ؛ لأنه ليس أهلًا للعبادة ، ومن شرط الوجوب والصحة العقل ، وعلى هذا
فصومه غير صحيح ، ولا يلزمه القضاء ، لأنه ليس أهلًا للوجوب . ثانيًًا :
المغمى عليه : إذا أُغمي عليه بحادث أو مرض - بعد أن تسحر - جميع النهار ،
فلا يصح صومه ؛ لأنه ليس بعاقل ، ولا يلزمه القضاء ؛ لأنه مر عليه الوقت
وهو ليس أهلًا للوجوب . ثالثًا : النائم : إذا تسحّر ونام من قبل أذان
الفجر ، ولم يستيقظ إلا بعد غروب الشمس ، فصومه صحيح ؛ لأنه من أهل التكليف
ولم يوجد ما يُبطل صومه ، ولا قضاء عليه . والفرق بينه وبين المغمى عليه :
أن النائم إذا أُوقظ يستيقظ بخلاف المغمى عليه .
[ ١٧ ] النية واجبة ، ويجب تعيينها أيضًا ، فينوي الصيام عن رمضان ، أو عن
كفارة ، أو عن نذر ، أو ما أشبه ذلك .
[ ١٨ ] وينوي قبل طلوع الفجر لصيام الفرض ؛ لأن صوم اليوم كاملًا لا يتحقق
إلا بهذا ، فمن نوى بعد طلوع الفجر لا يُقال إنه صام يومًا ، فلذلك يجب
لصوم كل يوم واجب أن ينويه قبل طلوع الفجر . ولا يلزم أن تُبيِّت النية قبل
أن تنام ، بل الواجب ألا يطلع الفجر إلا وقد نويت ؛ لحديث عائشة مرفوعًا :
" من لم يُبيِّت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له " . (٧)
[ ١٩ ] ما يُشترط فيه التتابع ( كرمضان ) تكفي النية في أوله ، ما لم يقطعه
لعذر فيستأنف النية ، فإذا نوى إنسان أول يوم من رمضان أنه صائم هذا الشهر
كله ، فإنه يُجزئه عن الشهر كله ، ما لم يحصل عذر ينقطع به التتابع ، كما
لو سافر في أثناء رمضان ، فإنه إذا عاد للصوم يجب عليه أن يُجدد النية .
[ ٢٠ ] إذا قال : أنا صائم غدًا إن شاء الله . فننظر إن كان مراده
الإستعانة بالتعليق بالمشيئة لتحقيق مراده ، فصيامه صحيح لأن هذا ليس
تعليقًا . وإن كان مُترددًا فلا يدري هل يصوم أو لا يصوم ، فإنه لا يصح ؛
لأن النية لابد فيها من الجزم ، فلا يصح صومه إن كان فرضًا ، إلا أن يستيقظ
قبل الفجر وينوي .
[ ٢١ ] يصح صوم النفل بنية أثناء النهار ، ولكن بشرط أن لا يأتي مُفطِّرًا
من بعد طلوع الفجر ، فإن أتى بمُفطر فإنه لا يصح ؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم دخل ذات يوم على أهله فقال : " هل عندكم من شيء ؟ قالوا : لا ، قال :
فإني إذًا صائم " . (٨) ولكنه لا يُثاب إلا من وقت النية فقط ؛ لقول النبي
صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " .
(٩) وهذا الرجل لم ينوِ إلا أثناء النهار فيُحسب له الأجر من حين نيته .
وبناءً على ذلك لو علق فضل الصوم باليوم مثل : صيام الأثنين ، وصيام الخميس
، وصيام البيض ، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، ونوى من أثناء النهار فإنه
لا يحصل له ثواب ذلك اليوم ؛ لأنه لا يصدق عليه أنه صام اليوم كاملًا .
[ ٢٢ ] وإن نوى إن كان غدًا من رمضان فأنا صائم ، فصومه صحيح إذا تبيَّن
أنه من رمضان ، ولعل هذا يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : " فإن لك
على ربك ما استثنيت " . (١٠) فهذا الرجل علقه لأنه لا يعلم أن غدًا من
رمضان ، فتردده مبني على التردد في ثبوت الشهر ، لا على التردد في النية .
وكذلك لو قال في ليلة الثلاثين من رمضان إن كان غدًا من رمضان فأنا صائم
وإلا فأنا مُفطر .
[ ٢٣ ] ومن صام نفلًا ، ثم نوى الإفطار ، ثم نوى الصيام ، فيُكتب له أجر
الصيام من النية الثانية ؛ لأنه قطع النية الأولى وصار مُفطرًا .
[ ٢٤ ] ومن صام وعزم على أنه إن وجد ماء شربه ، فلا يفسد صومه ؛ لأن
المحظور في العبادة لا تفسد العبادة به إلا بفعله ، ولا تفسد بنية الفعل .
[ ٢٥ ] ومن نوى الإفطار فإنه يفطر ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " إنما
الأعمال بالنيات " ، فما دام ناويًا الصوم فهو صائم ، وإذا نوى الإفطار
أفطر . وله أن يستمر في الفطر بالأكل والشرب وغيرهما من المُفطرات إن كان
ممن يُباح له الفطر كالمريض والمسافر ، وإن كان لا يُباح له الفطر ، فيلزمه
الإمساك والقضاء مع الإثم .
[ باب ما يُفسد الصَّوم ، ويُوجِب الكفَّارة ] ..
[ ٢٦ ] أجمع العلماء على أن الأكل والشرب والجماع ، تُفسد الصوم ، وقد
ذكرها الله عز وجل في قوله : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا
كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ
أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } .
[ ٢٧ ] الأكل هو إدخال الشيء إلى المعدة عن طريق الفم ، وهو عام ، فكل ما
ابتلعه الإنسان من نافع أو ضار ، أو ما لا نفع فيه ولا ضرر فإنه مُفطر
لإطلاق الآية : { كُلُوا وَاشْرَبُوا } . وكذلك الشرب ، فيشمل ما ينفع وما
يضر ، وما لا نفع فيه ولا ضرر ، ويُلحق بالأكل والشرب ما كان في معناهما ،
كالإبر المغذية التي تُغني عن الأكل والشرب .
[ ٢٨ ] ومن تناول السعوط ، وهو ما يصل إلى الجوف عن طريق الأنف ، فإنه
مُفطر ؛ لأن الأنف منفذ يصل إلى المعدة ، ودليل ذلك قول النبي صلى الله
عليه وسلم للقيط بن صبرة : " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا " .
(١١) فالمبالغة في الاستنشاق تكون سببًا لوصول الماء إلى المعدة وهذا مُخل
بالصوم .
[ ٢٩ ] الاحتقان هو إدخال الأدوية عن طريق الدبر ، والحقنة لا تفطر مطلقًا
، ولو كان الجسم يتغذى بها عن طريق الأمعاء الدقيقة ؛ لأنه لا يُطلق عليها
اسم الأكل والشرب ، وليس هناك دليل في الكتاب والسنة أن مناط الحكم وصول
الشيء إلى الجوف ، لكن الكتاب والسنة دلّّا على شيء معين وهو الأكل والشرب
، والأصل عدم الفطر إلا بدليل واضح .
[ ٣٠ ] الاكتحال لا يُفطر ولو وصل طعم الكحل إلى الحلق ؛ لأنه لا يسمى
أكلًا وشربًا ، ولا بمعنى الأكل والشرب ، ولا يحصل به ما يحصل بالأكل
والشرب ، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح صريح يدل على أن
الكحل مُفطر ، والأصل عدم التفطير . وبناءً على هذا لو أنه قطر في عينه وهو
صائم فوجد الطعم في حلقه فإنه لا يفطر بذلك ، أما إذا وصل طعمها إلى الفم
وابتلعها فقد صار أكلًا وشربًا .
[ ٣١ ] لو أن إنسانًا كان له فتحة في بطنه ، وأدخل إلى بطنه شيئًا عن طريق
هذه الفتحة ، فإنه لا يفطر بذلك ، إلا أن تجعل هذه الفتحة بدلًا عن الفم
بحيث يدخل الطعام والشراب منها لانسداد المرئ أو تقرحه ونحو ذلك ، فيكون ما
أدخل منها مُفطرًا كما لو أدخل من الفم .
[ ٣٢ ] ومن استقاء عمدًا فإنه يفطر ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " من
استقاء عمدًا فليقض ، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه " . (١٢) ذرعه : أي
غلبه . أما ما خرج بالتعتعة من الحلق فإنه لا يفطر ، فلا يفطر إلا ما خرج
من المعدة ، سواء كان قليلًا أو كثيرًا . والحكمة تقتضي أن يكون مفطرًا ؛
لأن الإنسان إذا استقاء ضعف واحتاج إلى أكل وشرب ، فلا يحل لك في الصوم
الواجب أن تتقيء إلا للضرورة ، فإن اضطررت إلى القيء فتقيأ ثم أعد على بدنك
ما يحصل به القوة من الأكل والشرب .
[ ٣٣ ] ومن استمنى بأي وسيلة ، فسد صومه ؛ لما في الحديث الصحيح أن الله
سبحانه وتعالى قال في الصائم : " يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي " . (١٣)
والاستمناء شهوة ، وخروج المني شهوة . ولو استمنى بدون إنزال فإنه لا يفطر
.
[ ٣٤ ] ومن باشر زوجته فإنه يفطر إذا أنزل ، سواء باشرها باليد ، أو بالوجه
بتقبيل ، وإذا لم ينزل فلا يفطر .
[ ٣٥ ] وخروج المذي لا يفسد الصوم ؛ لأن المذي دون المني لا بالنسبة للشهوة
ولا بالنسبة لانحلال البدن ، ولا بالنسبة للأحكام الشرعية حيث يخالفه في
كثير منها بل في أكثرها أو كلها ، فلا يمكن أن يُلحق به . ولا حُجة على
إفساد الصوم به .
[ ٣٦ ] إن كرر الصائم النظر حتى أنزل فسد صومه ، وإن أنزل بنظرة واحدة لم
يفسد ، إلا أن يستمر حتى ينزل فيفسد صومه ؛ لأن الاستمرار كالتكرار ، بل قد
يكون أقوى منه في استجلاب الشهوة والإنزال . وأما التفكير بأن فكر حتى أنزل
فلا يفسد صومه ؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز عن
أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " . (١٤)
[ ٣٧ ] ومن احتجم أو حجم غيره فإنه يفطر ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
" أفطر الحاجم والمحجوم " (١٥) والحكمة من إفطار المحجوم هو أنه إذا خرج
منه هذا الدم أصاب بدنه الضعف ، الذي يحتاج معه إلى غذاء لترتد عليه قوته ،
لأنه لو بقي إلى آخر النهار على هذا الضعف فربما يؤثر على صحته في المستقبل
، فكان من الحكمة أن يكون مفطرًا ، وعلى هذا فالحجامة للصائم لا تجوز في
الصيام الواجب إلا عند الضرورة ، فإذا جازت للضرورة جاز له أن يفطر ، أما
إذا كان الصوم نفلًا فلا بأس به ؛ لأن الصائم نفلًا له أن يخرج من صومه
بدون عذر ، لكنه يكره لغير غرض صحيح . وأما الحكمة بالنسبة للحاجم فإن
الحاجم عادة يمص قارورة الحجامة ، وإذا مصها فإنه سوف يصعد الدم إلى فمه ،
وربما من شدة الشفط ينزل الدم إلى بطنه من حيث لا يشعر فيكون بذلك مفطرًا ،
ولو أنه حجم بآلات منفصلة لا تحتاج إلى مص ، فإنه لا يفطر بذلك . ويُلحق
بالحجامة الفصد : وهو قطع العرق عرضًا ، والشرط : وهو شق العرق طولًا،
فيفسدان الصوم ، وكذلك لو أرعف نفسه حتى خرج الدم من أنفه ، بأن تعمد ذلك
ليخف رأسه ، فإنه يفطر بذلك .
[ ٣٨ ] يشترط لفساد الصوم ثلاثة شروط : الأول : أن يكون عامدًا ، وضده غير
العامد ، وهو نوعان : ١/ أن يحصل المفطر بغير اختياره بلا إكراه ، مثل أن
يطير إلى فمه غبار أو دخان أو حشرة أو يتمضمض فيدخل الماء بطنه بغير قصد
فلا يفطر ؛ لقوله تعالى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا
أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } ، وهذا لم يتعمد
قلبه فعل المفسد فيكون صومه صحيحًا . ٢/ أن يفعل ما يُفطر مُكرهًا عليه فلا
يفسد صومه ؛ لقوله تعالى : { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن
شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، فإذا كان حكم الكفر يُعفى عنه مع الإكراه ، فما دون
الكفر من باب أولى ، وعلى هذا فلو أكره الرجل زوجته على الجماع وهي صائمة ،
وعجزت عن مدافعته ، فصيامها صحيح . الشرط الثاني : أن يكون ذاكرًا ، وضده
الناسي . فلو فعل شيئًا من المُفطرات ناسيًا ، فلا شيء عليه لقول النبي صلى
الله عليه وسلم : " من نسي وهو صائ فأكل أو شرب فليُتم صومه فإنما أطعمه
الله وسقاه " . (١٦) وهذا يشمل الفريضة والنافلة . وإن ذكر أنه صائم
واللقمة في فمه لزمه لفظها ؛ لأنه في الفم وهو في حكم الظاهر ، فلا يفسد
صومه لو تعمد إخراجها ، أما لو ابتلعها حتى وصلت ما بين حنجرته ومعدته لم
يلزمه إخراجها ، ولو حاول وأخرجها لفسد صومه لأنه تعمد القيء . الشرط
الثالث : العلم ، وضد العلم الجهل ، والجهل ينقسم إلى قسمين : ١/ جهل
بالحكم الشرعي ، أي : لا يدري أن هذا حرام . ٢/ جهل بالحال ، أي : لا يدري
أنه في حال يحرم عليه الأكل والشرب ، وكلاهما عذر . ودليل ذلك قوله تعالى :
{ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } .
[ ٣٩ ] من فكَّر في الجماع فأنزل ، فلا يفسد صومه ، سواء كان ذا زوجة ففكر
في جماع زوجته ، أو لم يكن ذا زوجه ففكر في الجماع مطلقًا ؛ ودليله قوله
صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم
تعمل أو تتكلم " ، وهذا لم يعمل ولم يتكلم وإنما حدّث نفسه وفكر فأنزل .
أما لو حصل منه عمل حتى أنزل ، أو قبّل زوجته حتى أنزل ، أو ما أشبه ذلك
فإنه يفطر .
[ ٤٠ ] ومن احتلم لا يفطر ، حتى لو نام على تفكير ، واحتلم في أثناء النوم
؛ لأن النائم غير قاصد ، وقد رُفع عنه القلم .
[ ٤١ ] ومن اغتسل أو تمضمض أو استنشق فوصل الماء إلى حلقه ، فإنه لا يفطر ؛
لعدم القصد . وكذا لو بالغ في المضمضة أو الاستنشاق ، ودخل الماء حلقه فإنه
لا يفطر بذلك ؛ لعدم القصد . ويُكره للصائم أن يُبالغ فيهما .
[ ٤٢ ] يجوز للصائم أن يستعمل الفرشاة والمعجون ، لكن الأولى ألا يستعملهما
؛ لما في المعجون من قوة النفوذ والنزول إلى الحلق ، وبدل من أن يفعل ذلك
في النهار يفعله في الليل .
[ ٤٣ ] من أتى مُفطرًا كالأكل والشرب قبل طلوع الفجر له خمس حالات : الأولى
: أن يتيقن أن الفجر لم يطلع ، فصومه صحيح . الثانية : أن يتيقن أن الفجر
طلع ، فهذا صومه فاسد . الثالثة : أن يأكل وهو شاك هل طلع الفجر أو لا ،
ويغلب على ظنه أنه لم يطلع ، فصومه صحيح . الرابعة : أن يأكل ويشرب ، ويغلب
على ظنه أن الفجر طالع ، فصومه صحيح أيضًا . الخامسة : أن يأكل ويشرب مع
التردد الذي ليس فيه رجحان ، فصومه صحيح . وكل هذا يؤخذ من قوله تعالى : {
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ
مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } ، وضد التبين الشك والظن ،
فما دمنا لم يتبين الفجر لنا فلنا أن نأكل ونشرب . ولو تبين له بعد ذلك أنه
أكل بعد طلوع الفجر ، فصومه صحيح ؛ لأنه معذور بالجهل في هذه الحال .
[ ٤٤ ] ومن أكل شاكًا في غروب الشمس ، فلا يصح صومه ؛ لأن الله تعالى يقول
: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } ، والفرق بين من أكل
شاكًا في طلوع الفجر ، ومن أكل شاكًا في غروب الشمس ، أن الأول بانٍ على
أصل وهو بقاء الليل ، والثاني أيضًا بانٍ على أصل وهو بقاء النهار ، فلا
يجوز أن يأكل مع الشك في غروب الشمس ، وعليه القضاء . وإن علمنا أن أكله
كان بعد الغروب ، فلا قضاء عليه . ويجوز أن يأكل إذا تيقن أو غلب على ظنه
أن الشمس قد غربت ، فله أن يفطر ولا قضاء عليه . حتى لو تبين له بعد ذلك
أنها لم تغرب . ودليل جواز الفطر بظن الغروب مع أن الأصل بقاء النهار حديث
أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : " أفطرنا في يوم غيم على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم " . (١٧) وإفطارهم كان على ظن قطعًا ؛ لقولها في
هذا الحديث : " ثم طلعت الشمس " .
[ ٤٥ ] من غابت عليه الشمس وهو في الأرض وأفطر وطارت به الطائرة ثم رأى
الشمس ، فلا يلزمه الإمساك ؛ لأن النهار في حقه انتهى ، والشمس لم تطلع
عليه بل هو طلع عليها ، لكن لو أنها لم تغب وبقي خمس دقائق ثم طارت الطائرة
ولما ارتفعت إذ الشمس باقٍ عليها ربع ساعة أو ثلث ، فإن صيامه يبقى ؛ لأنه
ما زال عليه صومه .
[ ٤٦ ] والجماع من مفطرات الصائم وأعظمها تحريمًا ، ودليله قوله تعالى : {
فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى
اللَّيْلِ } ، والإجماع منعقد على أنه مُفطر .
[ ٤٧ ] ومن جامع في نهار رمضان فعليه القضاء والكفارة ، ويُشترط لذلك ثلاثة
شروط : الأول : أن يكون ممن يلزمه الصوم ، فإن كان ممن لا يلزمه الصوم ،
كالصغير ، فإنه لا قضاء عليه ولا كفارة . الثاني : ألا يكون هناك مُسقط
للصوم ، كما لو كان في سفر وهو صائم فجامع زوجته ، فإنه لا إثم عليه ولا
كفارة ، وعليه القضاء فقط ؛ لقوله تعالى : { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ
عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } . الثالث : أن يكون في
قُبل أو دُبر ، والقُبل يشمل الحلال والحرام ، فلو زنى فهو كما لو جامع في
فرج حلال . والجماع في الدُبر غير جائز . فمن توفرت فيه الشروط السابقة
وحصل منه الجماع ، فعليه القضاء ؛ لأنه أفسد صومه الواجب فلزمه القضاء
كالصلاة ، وعليه الكفارة ؛ احترامًا للزمن ، ولحديث أبي هريرة الثابت في
الصحيحين قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل
فقال: يا رسول الله هلكت. قال: " ما لك؟ " قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل تجد رقبة تعتقها؟ " قال: لا، قال:
" فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين "، قال: لا، فقال: " فهل تجد إطعام
ستين مسكينا ". قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن
على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر - والعرق المكتل -
قال: " أين السائل؟ " فقال: أنا، قال: " خذها، فتصدق به " فقال الرجل: أعلى
أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي،
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: " أطعمه أهلك " .
(١٨) وبناءً على هذا لو كان هذا في قضاء رمضان ، فعليه القضاء لهذا اليوم
الذي جامع فيه وليس عليه كفارة ؛ لأنه خارج شهر رمضان . ولا فرق بين أن
يُنزل أو لا يُنزل ، فإذا أولج الحشفة في القُبل أو الدُبر ، فإنه يلزمه
القضاء والكفارة .
[ ٤٨ ] وإذا جامع دون الفرج فأنزل ، فعليه القضاء دون الكفارة ؛ لأنه أفسد
صومه بغير الجماع ، ومثاله أن يُجامع بين فخذي امرأته ويُنزل .
[ ٤٩ ] المرأة كالرجل في الحكم ، فإن كانت مطاوعة فعليها القضاء والكفارة ؛
لأن الأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام إلا بدليل . وأما إذا كانت
المرأة معذورة بجهل أو نسيان أو إكراه ، فلا شيء عليها ، وكذلك الرجل إذا
كان معذورًا بجهل أو نسيان أو إكراه .
[ ٥٠ ] ومن كان صائمًا في سفره ، فجامع زوجته في نهار رمضان ، فهذا يفطر
لأنه جامع ، والجماع من المفطرات ، وليس عليه كفارة ؛ لأنه لم ينتهك حرمة
الصوم حيث إن الصوم لا يجب عليه في السفر ، ويلزمه القضاء .
[ ٥١ ] وإن جامع في يومين من رمضان ، بأن جامع في اليوم الأول ، وفي اليوم
الثاني ، فإنه يلزمه كفارتان ، وإن جامع في ثلاثة أيام فثلاث كفارات ، وإن
جامع في كل يوم من الشهر فثلاثون كفارة أو تسع وعشرون حسب أيام الشهر ؛
وذلك لأن كل يوم عبادة مستقلة .
[ ٥٢ ] وإن جامع في يوم واحد مرتين ، فتلزمه كفارة واحدة عن الجماع الأول ،
ولا تلزمه كفارة عن الجماع الثاني ؛ لأن الجماع الثاني لم يرد على صوم صحيح
، ولأنه ليس صائمًا الآن ، ويلزمه الإمساك ؛ لأن كل من أفطر لغير عذر حرم
عليه أن يستمر في فطره . ولا فرق بين أن يكون الجماع واقعًا على امرأة
واحدة أو اثنتين ، فلو جامع الأولى في أول النهار والثانية في آخره ، ولم
يكفر عن الأول ، فعليه كفارة واحدة .
[ ٥٣ ] وكفارة الوطء في نهار رمضان عتق رقبة ، فإن لم يجد رقبة أو لم يجد
ثمنها فصيام شهرين متتابعين ، فلا يفطر بينهما يومًا واحدًا إلا لعذر شرعي
كالحيض والنفاس بالنسبة للمرأة ، وكالعيدين وأيام التشريق ، أو لعذر حسّي
كالمرض والسفر للرجل والمرأة ، بشرط ألا يُسافر لأجل أن يُفطر ، فإن سافر
لأجل أن يُفطر انقطع التتابع . فإن لم يستطع الصيام فإطعام ستين مسكينًا ،
وقد سبق دليل ذلك . والطعام في هذه المسألة لا يتقدر ، بل يُطعم بما يُعد
إطعامًا ، فلو أنه جمعهم وغداهم أو عشاهم أجزأ ذلك ، لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قال للرجل الذي جامع أهله في نهار رمضان : هل تستطيع أن تُطعم
ستين مسكينًا ؟ . فإن لم يجد سقطت الكفارة ، لقوله تعالى : { لَا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا } ، ولا واجب مع العجز ، فتبرأ ذمته
ولا شيء عليه حتى لو أغناه الله في المستقبل ؛ لأن الكفارة سقطت عنه .
[ باب ما يُكره ، ويُستحب ، وحُكم القضاء ] ..
[ ٥٤ ] لا يكره للصائم جمع ريقه وابتلاعه ، ولا يُقال إن الصوم نقص بذلك ،
وعلى ذلك فلا يجب التفل بعد المضمضة ، ولا بعد شرب الماء عند أذان الفجر ،
ولا عند جمع الريق بسبب القراءة ، فإنه لم يُعهد عن الصحابة رضي الله عنهم
أنه يتفل حتى يذهب طعم الماء ، بل هذا مما يسامح فيه ، لكن لو بقي طعم طعام
كحلاوة تمر ، أو ما أشبه ذلك فهذا لا بد أن يتفله ولا يبتلعه .
[ ٥٥ ] ويحرم بلع النخامة على الصائم وغير الصائم ؛ لأنها مستقذرة وربما
تحمل أمراض خرجت من البدن ، ولكنها لا تفطر إذا وصلت إلى الفم وابتلعها ؛
لأنها لم تخرج من الفم ، ولا يُعد بلعها أكلًا ولا شربًا .
[ ٥٦ ] والدم الذي يخرج من اللسان أو اللثة أو الأسنان ، لا يجوز بلعه لا
للصائم ولا لغيره ؛ لعموم قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ } ، وإذا وقع من الصائم فإنه يفطر .
[ ٥٧ ] ويُكره أن يذوق الصائم طعامًا كالتمر والخبز والمرق ؛ لأنه ربما
ينزل شيء من هذا الطعام إلى جوفه من غير أن يشعر به ، فيكون في ذوقه لهذا
الطعام تعريض لفساد الصوم ، إلا إذا كان لحاجة فلا بأس ، والحاجة مثل أن
يكون طباخًا يحتاج أن يذوق الطعام لينظر ملحه أو حلاوته ، أو يشتري شيئًا
من السوق يحتاج إلى ذوقه ، أو امرأة تمضغ لطفلها تمرة ، أو ما أشبه ذلك .
[ ٥٨ ] ويُكره للصائم أن يمضغ علكًا قويًا ، والقوي هو الشديد الذي لا
يتفتت ؛ لأنه ربما يتسرب إلى بطنه شيء من طعمه إن كان له طعم ، فإن لم يكن
له طعم فلا وجه للكراهة ، ولكن مع ذلك لا ينبغي أن يمضغه أمام الناس ؛ لأنه
يُساء به الظن فما الذي يُدريهم أنه علك قوي أو غير قوي ، أو أنه ليس فيه
طعم أو فيه طعم ، وربما يقتدي به بعض الناس فيمضغ العلك دون اعتبار الطعم .
وإن وجد طعم العلك القوي في حلقه أو الطعام الذي تذوقه لحاجة ، فإنه فلا
يفطر ؛ لأنه ليس هناك دليل يدل على أن مناط الحكم وصول الطعم إلى الحلق ،
فأحيانًا يصل الطعم إلى الحلق ولكن لا يبتلعه ولا ينزل إلى الجوف .
[ ٥٩ ] ويحرم العلك المتحلل إن بلع ريقه ، وهو الذي ليس بصلب بل إذا علكته
تحلل وصار مثل التراب ، فهذا حرام على الصائم ؛ لأنه إذا علكه لا بد أن
ينزل معه شيء لأنه متحلل يجري مع الريق ، ويفسد الصوم إذا بلع منه شيئًا .
فإن لم يبلع ريقه فإنه لا يحرم ، كما لو كان الإنسان يعلك العلك فلما تحلل
لَفَظَه ، أو كان يعلكه ويجمعه ثم يلفظه ولا يَنزل إلى الجوف .
[ ٦٠ ] القُبلة للصائم تنقسم إلى قسمين : الأول : جائز ، وله صورتان : ١/
ألا يصحبها شهوة إطلاقًا ، مثل تقبيل الإنسان أولاده الصغار ، أو تقبيل
القادم من السفر ، أو ما أشبه ذلك ، فهذه لا تؤثر ولا حُكم لها باعتبار
الصوم ؛ لأن الأصل الحل حتى يقوم دليل على المنع . ٢/ أن تُحرك الشهوة ،
ولكنه يأمن من إفساد الصوم بالإنزال ، فلا بأس بها ؛ لأن النبي صلى الله
عليه وسلم " كان يُقبل وهو صائم " . (١٩) الثاني : محرم ، وهو إذا كان لا
يأمن فساد صومه ، فيحرم إذا ظن الإنزال ، بأن يكون شابًا قوي الشهوة ، شديد
المحبة لأهله ، فهذا لا شك أنه على خطر إذا قبّل زوجته في هذه الحال ، فهذا
يحرم عليه أن يُقبل ؛ لأنه يُعرض صومه للفساد . ودواعي الوطء كالضم ونحوه
حكمها حكم القُبلة ولا فرق .
[ ٦١ ] ويُسن لمن شتمه أحد أو قاتله ، أن يقول : إني صائم ؛ لقول النبي صلى
الله عليه وسلم : " فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل : إني امرؤ صائم إني
صائم " . (٢٠)
[ ٦٢ ] ويُسن السُّحور ، ويُسن تأخيره ؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه
وسلم ، واحتسابًا للخيرية التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا
يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطور وأخّروا السحور " . (٢١) وفي تأخيره
رفقًا بالنفس ؛ لأنه إذا أخر السحور قلّت المدة التي يُمسك فيها ، ويُؤخره
ما لم يخشَ طلوع الفجر ، فإن خشي طلوع الفجر فليبادر . ويُسن تعجيل الفطر ،
والمبادرة به إذا غربت الشمس ؛ للحديث السابق .
[ ٦٣ ] ويُسن أن يكون الفطور على رطب ، فإن عُدم فتمر ، فإن عُدم فماء ؛
لقول أنس بن مالك رضي الله عنه : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُفطر
قبل أن يُصلي على رطبات فإن لم تكن فتميرات فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من
ماء " . (٢٢)
[ ٦٤ ] ويُسن أن يقول ما ورد عند الفطور ، ومنه قول : " اللهم لك صمت ،
وعلى رزقك أفطرت ، اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم " . (٢٣) ووردت
آثار أخرى في أسانيدها ما فيها ، لكن إذا قالها الإنسان فلا بأس . ومنها
إذا كان اليوم حارًا وشرب بعد الفطور ، فإنه يقول : " ذهب الظمأ وابتلت
العروق وثبت الأجر إن شاء الله " . (٢٤)
[ ٦٥ ] ويُسن التتابع في القضاء ، فلا يفطر بين أيام الصيام في القضاء ؛
وذلك لثلاثة أوجه : الأول : أن هذا أقرب إلى مشابهة الأداء ، لأن الأداء
متتابع . الثاني : أنه أسرع في إبراء الذمة . الثالث : أنه أحوط ؛ لأن
الإنسان لا يدري ما يحدث له . فلهذا كان الأفضل أن يكون القضاء متتابعًا .
[ ٦٦ ] ولا يجوز تأخير القضاء إلى رمضان آخر ، لحديث عائشة رضي الله عنها
قالت : " كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان
" . (٢٥) أي : لا أستطيع شرعًا تأخيره إلى ما بعد رمضان . ويجوز القضاء في
أي شهر متتابعًا أو متفرقًا ، بشرط ألا يكون الباقي من شعبان بقدر ما عليه
، فإذا بقي من شعبان بقدر ما عليه فحينئذٍ يلزمه أن يقضي متتابعًا . ولو
أخّره إلى رمضان آخر لعذر فإنه جائز ، مثل أن يكون مسافرًا فيستمر به السفر
أو مريضًا فيستمر به المرض أو تكون المرأة حاملًا ويستمر بها الحمل أو
مُرضعًا تحتاج إلى الإفطار كل السنة ؛ لأنه إذا جاز أن يُفطر بهذه الأعذار
في رمضان وهو أداء ، فجواز الإفطار في أيام القضاء من باب أولى .
[ ٦٧ ] ويجوز التنفل بالصوم قبل القضاء ما دام الوقت واسعًا ، وصومه صحيح
ولا يأثم ، ولكن الأولى أن يبدأ بالقضاء ، حتى لو مرّ عليه عشر ذي الحجة أو
يوم عرفة ، فنقول : صم القضاء في هذه الأيام وربما تُدرك أجر القضاء وأجر
الصيام في هذه الأيام ، وعلى فرض أنه لا يحصل أجر صيام هذه الأيام مع
القضاء ، فإن القضاء أفضل من تقديم النفل .
[ ٦٨ ] وأيام الست من شوال لا تُقدم على قضاء رمضان ، فلو قُدمت صارت نفلًا
مُطلقًا ، ولم يحصل على ثوابها الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم : "
من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر " . (٢٦) وذلك لأن لفظ
الحديث " من صام رمضان " ومن كان عليه قضاء لا يصدق عليه أنه صام رمضان .
[ ٦٩ ] لو أخّر القضاء إلى ما بعد رمضان الثاني بلا عذر كان آثمًا ، ويلزمه
القضاء فقط ، فلا يلزمه الإطعام ؛ لعدم الدليل .
[ ٧٠ ] ومن مات وعليه صيام من رمضان أو كفارة أو نذر استحب لوليّه قضاؤه ،
ولا يجب ، وإنما يُستحب أن يقضيه ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من
مات وعليه صيام صام عنه وليه " . (٢٧) فهذا أمر ، ويصرفه عن الوجوب قوله
تعالى : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } ، فيُستحب لوليه أن
يقضيه فإن لم يفعل ، أطعم عن كل يوم مسكينًا قياسًا على صوم الفريضة .
والذي إذا مات كان القضاء واجبًا عليه هو الذي تمكن من القضاء فلم يفعل ،
فإذا مات صام عنه وليه . والولي هو الوارث . ويُجزئ في هذه المسألة أن
يقتسم الورثة الصوم ، فيصوم كل واحد منهم عدد من الأيام حتى تكتمل الأيام
التي يجب قضاؤها .
[ ٧١ ] ومن مات وعليه حج نذر فإن وليه يحج عنه ؛ ودليله أن امرأة سألت
النبي صلى الله عليه وسلم : " أن أمها نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت . فقال
لها : أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ قالت : نعم . قال : اقضوا
الله فالله أحق بالوفاء " . (٢٨) وكذلك أيضًا حج الفريضة ؛ ودليل ذلك حديث
ابن عباس رضي الله عنهما : " أن امرأة قالت : يا رسول الله إن فريضة الله
على عباده بالحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟
قال : نعم . " . (٢٩) فإذا جازت النيابة عن الحي لعدم قدرته على الحج ، فعن
الميت من باب أولى .
[ ٧٢ ] ولا يصح استئجار من يصوم عنه ؛ لأن مسائل القُرب لا يصح الاستئجار
عليها .
[ باب صوم التطوُّع ] ..
[ ٧٣ ] يُسن صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، سواء كانت متتابعة أو متفرقة ،
والأفضل أن تكون أيام البيض ، وأيام البيض هي اليوم الثالث عشر من الشهر ،
والرابع عشر ، والخامس عشر ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيامها .
وهذه الثلاثة تُغني عن صيام ثلاثة أيام من كل شهر التي قال فيها النبي صلى
الله عليه وسلم : " صيام ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله " . (٣٠)
[ ٧٤ ] ويُسن صيام الأثنين والخميس ، وصوم الأثنين أوكد من الخميس ، فيُسن
للإنسان أن يصوم يومي الأثنين والخميس من كل أسبوع ، وقد علل النبي صلى
الله عليه وسلم ذلك : " بأنهما يومان تُعرض فيهما الأعمال على الله عز وجل
، قال : فأحب أن يُعرض عملي وأنا صائم " . (٣١)
[ ٧٥ ] ولا يُسن صوم يوم الجمعة ، ويُكره أن يُفرد صومه ؛ لقول النبي صلى
الله عليه وسلم : " لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يومًا قبله أو
يومًا بعده " . (٣٢)
[ ٧٦ ] ويُسن صوم ست من شوال ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من صام
رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر " . (٣٣) والأفضل أن تكون هذه
الست بعد يوم العيد مباشرة ؛ لما في ذلك من السبق إلى الخيرات . والأفضل أن
تكون متتابعة ؛ لأن ذلك أسهل غالبًا ، ولأن فيه سبقًا لفعل هذا الأمر
المشروع . والسُّنة أن يصومها بعد انتهاء قضاء رمضان لا قبله ، فلو كان
عليه قضاء ثم صام الستة قبل القضاء فإنه لا يحصل على ثوابها ، وقد تقدم
دليل ذلك . ولو لم يتمكن من صيام الأيام الستة في شوال لعذر كمرض أو قضاء
رمضان كاملًا حتى خرج شهر شوال ، فله أن يقضيها ويُكتب له أجرها .
[ ٧٧ ] ويُسن صوم شهر المحرم ، وهو الذي يلي شهر ذي الحجة ، وصومه أفضل
الصيام بعد رمضان ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصيام بعد
رمضان شهر الله المحرم " . (٣٤) . وآكد صوم شهر المحرم العاشر ثم التاسع ؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم : " سُئل عن صوم يوم عاشوراء ؟ فقال : أحتسب
على الله أن يُكفر السنة التي قبله " . (٣٥) ثم يليه التاسع ؛ لقوله صلى
الله عليه وسلم : " لئن بقيت ، إلى قابل لأصومن التاسع " . (٣٦) أي : مع
العاشر . ولا يُكره إفراد العاشر بالصوم ، ولكن يفوت بإفراده أجر مخالفة
اليهود .
[ ٧٨ ] ويُسن صوم تسع ذي الحجة ، وتبدأ من أول أيام ذي الحجة وتنتهي باليوم
التاسع وهو يوم عرفة ، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " ما من أيام
العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر " . (٣٧) والصوم من
العمل الصالح . وآكد تسع ذي الحجة صيام يوم عرفة لغير حاج بها ، ويوم عرفة
هو اليوم التاسع ، وإنما كان آكد أيام العشر ؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم سُئل عن صوم يوم عرفة فقال : " أحتسب على الله أن يُكفر السنة التي
قبله والسنة التي بعده ". (٣٨) وعلى هذا فصوم يوم عرفة أفضل من صوم عاشرواء
؛ لأن يوم عاشوراء يُكفر السنة التي قبله فقط . ويُكره للحاج أن يصوم يوم
عرفة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصمه وهو حاج ، ولأن هذا اليوم يوم
دعاء وعمل ، ولا سيما أن أفضل زمن الدعاء هو آخر هذا اليوم ، فإذا صام
الإنسان فسوف يأتيه آخر اليوم وهو في كسل وتعب ، فتزول الفائدة العظيمة
الحاصلة بهذا اليوم .
[ ٧٩ ] وأفضل صوم التطوع ، صوم يوم وفطر يوم ؛ لقول النبي صلى الله عليه
وسلم لعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : " صُم يومًا وأفطر يومًا
فذلك صيام داود عليه السلام وهو أفضل الصيام " . (٣٩)
[ ٨٠ ] ويُكره إفراد رجب بالصوم ؛ لأنه من شعائر الجاهلية ، ولم يرد في
السنة في تعظيمه شيء ، وكل ما يُروى في فضل صومه أو الصلاة فيه من الأحاديث
فهي كذب باتفاق علماء الحديث .
[ ٨١ ] ويُكره إفراد يوم السبت بالصوم ؛ لحديث : " لا تصوموا يوم السبت إلا
فيما افترض عليكم " . (٤٠) وإن صح هذا الحديث فيُحمل على النهي عن إفراده ،
وأما جمعه مع الجُمعة أو الأحد فلا بأس ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم
لجويرية وقد وجدها صائمة يوم الجمعة : " أصمت أمس ؟ قالت : لا ، قال :
أتصومين غداً ؟ قالت : لا ، قال فأفطري " . (٤١) فدل على أن صومه مع الجمعة
لا بأس به . وإن أفرده لسبب فلا كراهة ، مثل أن يُصادف يوم عرفة أو يوم
عاشوراء .
[ ٨٢ ] ويحرم صوم يوم الشك ، وهو يوم الثلاثين من شعبان ، إذا كان في
السماء ما يمنع رؤية الهلال ، وأما إذا كانت السماء صحوًا فلا شك . ودليل
حرمة صوم يوم الشك ، حديث عمار بن ياسر : " من صام اليوم الذي يُشك فيه فقد
عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم " . (٤٢)
[ ٨٣ ] ويحرم صوم العيدين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يومي
العيدين ، عيد الفطر وعيد الأضحى . (٤٣) ولو كان صوم فرض ، كقضاء من رمضان
أو نذر .
[ ٨٤ ] ويحرم صيام أيام التشريق ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " أيام
التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل " . (٤٤) وأيام التشريق ثلاثة بعد
يوم النحر ، وهي : الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر . ويجوز صيامها
للحاج المتمتع والقارن ممن عليه الهدي فلم يجد ، فيصوم ثلاثة أيام في الحج
وسبعة إذا رجع .
[ ٨٥ ] ولا يلزم الإتمام في صيام النفل ؛ ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه
وسلم دخل على أهله ذات يوم فقال : " هل عندكم شيء ؟ قالوا : نعم عندنا حيس
، قال : أرينيه - يقوله لعائشة - فلقد أصبحت صائمًا ، فأَرته إياه فأكل " .
(٤٥) فدل هذا على أن النفل أمره واسع وللإنسان أن يقطعه ، ولكن العلماء
يقولون : لا ينبغي أن يقطعه إلا لغرض صحيح .
[ ٨٦ ] ولو فسد النفل ، فإنه لا يلزمه القضاء ؛ لأنه لو وجب القضاء لوجب
الإتمام ، فإذا كان لا يجب الإتمام فلا يجب القضاء من باب أولى . إلا الحج
فإنه يلزمه إتمامه ولو كان نفلًا ، ويجب قضاء فاسده ، ولو كان نفلًا ؛
لقوله تعالى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } ، وهذه
الآية نزلت قبل فرض الحج ، ومع هذا أمر الله بإتمامهما مع أنهما نفل لم
يُفرضا بعد ، ودلت السُّنة على وجوب قضائه .
[ باب الاعتكاف ] ..
[ ٨٧ ] ثبتت الأحاديث أن ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ، وهي تتنقل
فتكون عامًا ليلة إحدى وعشرين ، وعامًا ليلة تسع وعشرين ، وعامًا ليلة خمس
وعشرين ، وعامًا ليلة أربع وعشرين ، وهكذا ؛ فبذلك يكون الجمع بين الأحاديث
، ولكن أرجى الليالي ليلة سبع وعشرين . فينبغي للمسلم أن يجتهد في كل العشر
.
[ ٨٨ ] ومما جاء في فضل قيام ليلة القدر ، قوله صلى الله عليه وسلم : " من
قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه " . (٤٦)
[ ٨٩ ] وأوتار العشر آكد ؛ ويدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : " تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر
الأواخر من رمضان " . (٤٧) وأوتاره هي : إحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين ، وخمس
وعشرين ، وسبع وعشرين ، وتسع وعشرين ، فهذه خمس ليال هي أرجاها ، وليس
معناه أنها لا تكون إلا في الأوتار ، بل تكون في الأوتار وغير الأوتار .
وليلة سبع وعشرين أبلغ الأوتار وأرجاها أن تكون ليلة القدر ، لكنها لا
تتعين في هذه الليلة .
[ ٩٠ ] وتخصيص ليلة القدر بالعمرة بدعة ؛ لأنه تخصيص لعبادة في زمن لم
يُخصصه الشارع بها ، والذي حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر
هو القيام ، ولم يُرغِّب في العمرة في تلك الليلة ، بل رغَّب فيها في الشهر
، فقال : " عمرة في رمضان تعدل حجة معي " . (٤٨) فتخصيص العمرة بليلة القدر
أو تخصيص ليلة القدر بعمرة من البدع .
[ ٩١ ] ومن علامات ليلة القدر : ١/ قوة الإضاء والنور في تلك الليلة . ٢/
طمأنينة القلب وانشراح الصدر من المؤمن في هذه الليلة أكثر من بقية الليالي
. ٣/ تكون الرياح فيها ساكنة ، أي : لا يأتي فيها عواصف ، بل يكون الجو
مناسبًا . ٤/ أن الله يُري الإنسان الليلة في المنام ، كما حصل ذلك لبعض
الصحابة . ٥/ أن الإنسان يجد في القيام لذة ونشاطًا أكثر مما يجده في غيرها
من الليالي . ٦/ أن الشمس تطلع في صبيحتها ليس لها شعاع صافية ، ليس
كعادتها في بقية الأيام .
[ ٩٢ ] ويُستحب للمسلم أن يدعو فيها بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم
ومنه : " اللهم إنك عفو تُحب العفو فاعف عني " . (٤٩) فهذا من الدعاء
المأثور ، وكذلك أدعية كثيرة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يمنع
الزيادة على ما ورد فالله تعالى يقول : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا
وَخُفْيَةً } وهذا مُطلق ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليسأل
أحدكم ربه حاجته حتى شراك نعله " . (٥٠) ولكن الأدعية الواردة خير وأكمل
وأفضل من الأدعية المسجوعة التي يسجعها بعض الناس وتجده يُطيل ! فالدعاء
الذي جاء في القرآن أو في السنة خير بكثير مما صُنع مسجوعًا .
[ ٩٣ ] الاعتكاف هو لزوم مسجد لطاعة الله عز وجل ، فخرج بذلك لزوم الدار ،
فلو اعتكف في بيته ، وقال : لا أخرج إلى الناس فأفتتن بالدنيا ، ولكن أبقى
في بيتي مُعتكفًا ، فهذا ليس اعتكافًا شرعيًا ، بل يُسمى هذا عزلة . وخرج
بذلك لزوم المصلى ، فلو أن قومًا في عمارة ولها مصلى وليس بمسجد ، فإن لزوم
هذا المصلى لا يُعتبر اعتكافًا ؛ والدليل على ذلك قوله تعالى : { وَلَا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } ، فجعل محل
الاعتكاف المسجد . ولزوم المسجد يكون لطاعة الله ، لا للانعزال عن الناس ،
ولا من أجل أن يأتيه أصحابه ورفقاؤه يتحدثون عنده ، بل للتفرغ لطاعة الله
عز وجل . وروح الاعتكاف أن تمكث في المسجد لطاعة الله عز وجل ، ويجوز
للإنسان أن يتحدث عنده بعض أهله لأجلٍ ليس بكثير ؛ كما كان الرسول صلى الله
عليه وسلم يفعل ذلك .
[ ٩٤ ] والاعتكاف يكون للطاعات الخاصة ، كالصلاة والذكر وقراءة القرآن وما
أشبه ذلك ، أما عن طلب العلم فلا شك أنه من طاعة الله ، فلا بأس ان يَحضر
المعتكف درسًا أو درسين في يوم أو ليلة ؛ لأن هذا لا يُؤثر على الاعتكاف ،
لكن مجالس العلم إن دامت ، وصار يُطالع دروسه ، ويحضر الجلسات الكثيرة التي
تُشغله عن العبادة الخاصة ، فهذا لا شك أن في اعتكافه نقصًا ، ولكن هذا لا
يُنافي الاعتكاف .
[ ٩٥ ] هل العزلة عن الناس أفضل أم لا ؟ من كان في اجتماعه بالناس خير ،
فترك العزلة أولى ، ومن خاف على نفسه باختلاطه بالناس لكونه سريع الافتتان
قليل الإفادة للناس ، فبقاؤه في بيته خير ، والمؤمن الذي يُخالط الناس
ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم .
[ ٩٦ ] والاعتكاف مسنون في كل مسجد ، فكل مساجد الدنيا مكان للاعتكاف ،
وليس خاصًا بالمساجد الثلاثة ، ولا شك أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة أفضل
كما أن الصلاة في المساجد الثلاثة أفضل . ودليل سُنِّيَّة الاعتكاف قوله
تعالى لإبراهيم عليه السلام : { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } ، فالاعتكاف مشروع حتى في الأمم
السابقة ، وقال تعالى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ } . والسُّنة واضحة مشهورة مستفيضة أن الرسول صلى الله عليه
وسلم اعتكف ، واعتكف أصحابه معه . وقد نُقل الإجماع على ذلك .
[ ٩٧ ] ولا يُسن الاعتكاف إلا في العشر الأواخر من رمضان فقط ؛ لأن الأحكام
الشرعية تتلقى من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يعتكف الرسول صلى
الله عليه وسلم في غير رمضان إلا قضاءً ، ولم يرد عنه لفظ عام أو مُطلق في
مشروعية الاعتكاف كل وقت ، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن في
الاعتكاف في غير رمضان ، بل وفي غير العشر الأواخر من رمضان سُّنة وأجرًا
لبيَّنه للأمة حتى تعمل به . ولكن من تطوّع وأراد أن يعتكف في غير ذلك ،
فإنه لا يُنهى عن ذلك ، ولا نقول إن فعله بدعة ؛ لما ورد أن عمر رضي الله
عنه استفتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إني نذرت في الجاهلية أن
أعتكف يومًا في المسجد الحرام ، فكيف ترى ؟ قال : اذهب فاعتكف يومًا " .
(٥١) ولو كان هذا النذر مكروهًا أو حرامًا ، لم يأذن له بوفاء نذره ، ولكن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع ذلك لأمته شرعًا عامًا ، فالأفضل أن
نقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم .
[ ٩٨ ] ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد تُقام في الجماعة ، ولا يُشترط أن
تُقام فيه الجُمعة ؛ لأن المسجد الذي لا تُقام فيه الجماعة لا يصدق عليه
كلمة مسجد ، ولو اعتكف في مسجد لا تُقام فيه الجماعة فإما أن يترك صلاة
الجماعة وهذا يؤدي إلى ترك الواجب لفعل مسنون ، وإما أن يخرج كثيرًا لصلاة
الجماعة ، والخروج الكثير يُنافي الاعتكاف .
[ ٩٩ ] ويصح اعتكاف المرأة ويُسن في كل مسجد ؛ ودليل مشروعية اعتكاف النساء
: اعتكاف زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد موته . (٥٢)
فالمرأة تعتكف ما لم يكن في اعتكافها فتنة ، فإن كان في اعتكافها فتنة
فإنها لا تُمكَّن من هذا ؛ لأن المستحب إذا ترتب عليه الممنوع وجب أن يُمنع
. ولو اعتكفت المرأة في مسجد لا تُقام فيه الجماعة ، فلا حرج عليها ؛ لأنه
لا يجب عليها أن تُصلي مع الجماعة . ومن لا تجب عليه الجماعة كالمعذور بمرض
أو بغيره مما يُبيح له ترك الجماعة ، لا بأس باعتكافه في مسجد لا تُقام فيه
الجماعة .
[ ١٠٠ ] ولا يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها ، وهو المكان الذي اتخذته
مُصلى ؛ لأنه ليس بمسجد حقيقة ولا حُكمًا .
[ ١٠١ ] ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد مُعين ، لم يلزمه الاعتكاف أو
الصلاة في المسجد الذي عيَّنه ، إلا إن كان للمسجد مزية شرعية ، فإنه لا
يتنازل عنه إلا ما دونه في هذه المزية ، كما لو عيَّن المسجد الجامع ، وكان
اعتكافه يتخلله جُمعة ، فلا يجوز في مسجد غير جامع ؛ لان المسجد الجامع له
مزية ، وهو أنه تُقام فيه الجُمعة ، ولا يحتاج المعتكف إلى أن يخرج يخرج
إلى مسجد آخر . وإلا إذا عيَّن أحد المساجد الثلاثة ، المسجد الحرام أو
المسجد النبوي أو المسجد الأقصى ، فإنه يلزمه الاعتكاف أو الصلاة فيه ؛ لأن
النذر يجب الوفاء به ، ولا يجوز العدول إلى ما دونه .
[ ١٠٢ ] ومن نذر زمنًا مُعيَّنًا ، دخل مُعتكفه قبل ليلته الأولى وخرج بعد
آخره ، كما لو نذر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، فإنه يدخل عند غروب
الشمس من يوم عشرين من رمضان ، ويخرج إذا غربت الشمس من آخر يوم من الزمن
الذي عيَّنه .
[ ١٠٣ ] ويصح الاعتكاف بلا صوم ؛ لأنهما عبادتان منفصلتان ، فلا يُشترط
للواحدة وجود الأخرى .
[ ١٠٤ ] والصوم والاعتكاف يلزمان بالنذر ، فمن نذر أن يصوم يومًا لزمه ،
ومن نذر أن يعتكف يومًا لزمه ، ومن نذر أن يصوم مُعتكفًا لزمه ، ومن نذر أن
يعتكف صائمًا لزمه .
[ ١٠٥ ] والاعتكاف الذي على سبيل النفل ، يجوز قطعه ؛ لأن استمراره فيه
سُنَّة ، ولكن المواصلة أفضل .
[ ١٠٦ ] وخروج المعتكف من المسجد الذي يعتكف فيه ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : أن يخرج لما لا بد له منه حسًا أو شرعًا ، فهذا جائز سواء اشترطه
أم لا . ومثال الحس : الأكل والشرب ، والحصول على زيادة الملابس إذا اشتد
البرد ، وقضاء الحاجة من بول أو غائط ، فهذا مما لا بد له منه حسًا . ومثال
الشرع : أن يخرج ليغتسل من جنابة ، أو يخرج ليتوضأ ، فهذا لا بد له منه
شرعًا . القسم الثاني : أن يخرج لمقصود شرعي له منه بُد ، كعيادة المريض
وشهود الجنازة ؛ لأن عيادة المريض له منها بُد لكونها سُنة يُمكن للإنسان
أن يدعها ولا يأثم ، وكذلك شهود الجنازة ، لكن لو تعيَّن عليه أن يشهد
جنازة بحيث لم نجد من يغسله أو من يحمله إلى المقبرة ، صار هذا من الذي لا
بد منه . القسم الثاني : أن يخرج لما له منه بُد وليس فيه مقصود شرعي ،
فهذا يبطل به الاعتكاف سواء اشترطه أم لا ، كأن يخرج للبيع والشراء والنزهة
ومعاشرة أهله ونحو ذلك .
[ ١٠٧ ] ويجوز أن يشترط عيادة المريض أو شهود الجنازة في ابتداء الاعتكاف ،
فإذا نوى الدخول في الاعتكاف ، قال : أستثني يا رب عيادة المريض أو شهود
الجنازة . وليس هناك دليل واضح في المسألة إلا قياسًا على حديث ضباعة بنت
الزبير رضي الله عنها حيث جاءت تقول للرسول صلى الله عليه وسلم : إنها تريد
الحج وهي شاكية ، فقال لها : " حُجِّي واشترطي أن محلي حيث حبستني ، فإن لك
على ربك ما استثنيت " . (٥٣) فيُؤخذ من هذا أن الإنسان إذا دخل في عبادة
واشترط شيئًا لا يُنافي العبادة ، فلا بأس . ولكن هذا لا ينبغي ، والمحافظة
على الاعتكاف أولى ، إلا إذا كان المريض أو من يتوقع موته له حق عليه ،
فهنا الاشتراط أولى ، بأن كان المريض من أقاربه الذين يُعتبر عدم عيادتهم
قطيعة رحم ، فهنا يستثني ، وكذلك شهود الجنازة .
[ ١٠٨ ] ولا تجوز مباشرة النساء حال الاعتكاف ، فلو جامع زوجته في فرج أو
في غير فرج فأنزل بطل اعتكافه ؛ لقوله تعالى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ
وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } ، ولأنه فعل ما نُهي عنه بخصوصه ،
وكل ما نُهي عنه بخصوصه في العبادة يبطلها .
[ ١٠٩ ] لو اشترط عند دخوله في المعتكف أن يُجامع أهله في اعتكافه ، لم يصح
شرطه ؛ لأنه مُحلِّل لما حرَّم الله ، وكل شرط أحل ما حرم الله فهو باطل ؛
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن
كان مائة شرط " . (٥٤)
[ ١١٠ ] ويُستحب للمعتكف أن يشتغل بالقرب ، وهي العبادات الخاصة ، كقراءة
القرآن والذكر والصلاة في غير وقت نهي ، وما أشبه ذلك ، وهو أفضل من أن
يذهب إلى حلقات العلم ، اللهم إلا أن تكون هذه الحلقات نادرة ، لا تحصل له
في غير هذا الوقت ، فقد يكون طلب العلم في هذه الحال أفضل من الاشتغال
بالعبادات الخاصة ؛ لأن هذا لا يُشغل عن مقصود الاعتكاف .
[ ١١١ ] ويجوز أن يزور المعتكفَ أحد من أقاربه ويتحدث إليه ساعة من الزمان
؛ لأن صفية بنت حيي زارت النبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه ، وتحدثت إليه
ساعة . (٥٥) ولأنه إذا تحدث إلى أهله أدخل عليهم السرور ، وحصل بينهم
الألفة ، وهذا أمر مقصود للشرع .
هذا ما تيسَّر ذكره من مسائل
الصيام وما يتعلق بها ، فما كان فيه من صواب فهو من الله وفضله ، وما كان
فيه من خطأ فهو من نفسي والشيطان ، وأستغفر الله العظيم .
وصلَّى اللهُ وسلَّم على نبيِّنا مُحمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين
تم بحمد الله في يوم الجُمعة
الموافق :١٤٣٤/٨/٥هـ
معاذ بن سامي آل عبدالقادر
-----------------------
( ١ ) : أخرجه البخاري (١٩٠٧) .
( ٢ ) : أخرجه أبو داود (٢٣٤٢) وصححه ابن حبان (٣٤٤٧) والحاكم (٤٢٣/١) .
( ٣ ) : أخرجه أحمد (٣٢١/٤) والنسائي (١٣٣/٤) والدارقطني (١٦٧/٢) .
( ٤ ) : أخرجه مسلم (١١١٤) .
( ٥ ) : أخرجه البخاري (٣٠٤) .
( ٦ ) : أخرجه ابن أبي شيبة (٥٤/٣) .
( ٧ ) : أخرجه الدارقطني (١٧٢/٢) والبيهقي (٢٠٣/٤) ووثق رواته الدارقطني
وأقره البيهقي .
( ٨ ) : أخرجه مسلم (١١٥٤) .
( ٩ ) : أخرجه البخاري (١٩٠٧) .
( ١٠ ) : أخرجه البخاري (٥٠٨٩) وأخرجه مسلم (١٢٠٨) وأخرجه النسائي (١٦٨/٥)
.
( ١١ ) : أخرجه أبو داود (١٤٢) والنسائي (٦٦/١) والترمذي (٧٨٨) وصححه ابن
خزيمه (١٥٠) وابن حبان (١٠٨٧) .
( ١٢ ) : أخرجه أحمد (٤٩٨/٢) وأبو داود (٢٣٨٠) والترمذي (٧٢٠) وابن ماجه
(١٦٧٦) والنسائي (٣١١٧) وصححه ابن خزيمة (١٩٦٠) وابن حبان (٣٥١٨) والحاكم
(٤٢٧/١) .
( ١٣ ) : أخرجه البخاري (١٨٩٤) ومسلم (١١٥١) .
( ١٤ ) : أخرجه البخاري (٢٥٢٨) ومسلم (١٢٧) .
( ١٥ ) : أخرجه أحمد (١٢٣/٤) وأبو داود (٢٣٦٨) والنسائي (٣١٢٦) وابن ماجه
(١٦٨١) وصححه ابن حبان (٣٥٣٣) والحاكم (٤٢٨/١) .
( ١٦ ) : أخرجه البخاري (١٩٣٣) ومسلم (١١٥٥) .
( ١٧ ) : أخرجه البخاري (١٩٥٩) .
( ١٨ ) : أخرجه البخاري (١٩٣٦) ومسلم (١١١١) .
( ١٩ ) : أخرجه البخاري (١٩٢٧) ومسلم (١١٠٦) .
( ٢٠ ) : أخرجه البخاري (١٨٩٤) ومسلم (١١٥١) .
( ٢١ ) : أخرجه البخاري (١٩٥٧) ومسلم (١٠٩٨) .
( ٢٢ ) : أخرجه أحمد (١٦٤/٣) وأبو داود (٢٣٥٦) والترمذي (٦٩٩ والدارقطني
(١٨٥/٢) والحاكم (٤٣٢/١) وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي .
( ٢٣ ) : أخرجه الدارقطني (١٨٥/٢) وضعفه ابن القيم في الزاد (٥١/٢)
والهيثمي في المجمع (١٥٦/٣) .
( ٢٤ ) : أخرجه أبو داود (٢٣٥٧) والدارقطني (١٨٥/٢) والحاكم (٤٢٢/١) وحسنه
الدارقطني وصححه الحاكم ووافقه الذهبي .
( ٢٥ ) : أخرجه البخاري (١٩٥٠) ومسلم (١١٤٦) .
( ٢٦ ) : أخرجه مسلم (١١٦٤) .
( ٢٧ ) : أخرجه البخاري (١٩٥٢) ومسلم (١١٤٧) .
( ٢٨ ) : أخرجه البخاري (١٨٥٢) .
( ٢٩ ) : أخرجه البخاري (١٥١٣) ومسلم (١٣٣٤) .
( ٣٠ ) : أخرجه البخاري (١٩٧٩) ومسلم (١١٥٩) .
( ٣١ ) : أخرجه أحمد (٢٠٨،٢٠٤،٢٠٠/٥) وأبو داود (٢٤٣٦) والترمذي (٧٤٧)
والنسائي (٢٠١/٤) وحسنه الترمذي والمنذري وصححه في الإرواء (١٠٣/٤) .
( ٣٢ ) : أخرجه البخاري (١٩٨٥) ومسلم (١١٤٤) .
( ٣٣ ) : أخرجه مسلم (١١٦٤) .
( ٣٤ ) : أخرجه مسلم (١١٦٣) .
( ٣٥ ) : أخرجه مسلم (١١٦٢) .
( ٣٦ ) : أخرجه مسلم (١١٣٤) .
( ٣٧ ) : أخرجه البخاري (٩٦٩) .
( ٣٨ ) : أخرجه مسلم (١١٦٢) .
( ٣٩ ) : أخرجه البخاري (١٩٧٦) .
( ٤٠ ) : أخرجه أحمد (٣٦٨/٦) وأبو داود (٢٤٢١) والترمذي (٧٤٤) والنسائي
(٢٧٧٣) وابن ماجه (١٧٢٦) .
( ٤١ ) : أخرجه البخاري (١٩٨٦) .
( ٤٢ ) : رواه البخاري في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم ، ووصله أبو داود
(٢٣٣٤) والترمذي (٦٨٦) والنسائي (١٥٣/٤) وابن ماجه (١٦٤٥) وصححه ابن خزيمه
(١٩١٤) وابن حبان (٣٥٨٥) وأخرجه وصححه الدارقطني (١٥٧/٢) وصححه الترمذي .
( ٤٣ ) : أخرجه البخاري (١٩٩٣) ومسلم (١١٣٨) .
( ٤٤ ) : أخرجه مسلم (١١٤١) .
( ٤٥ ) : أخرجه مسلم (١١٥٤) .
( ٤٦ ) : أخرجه البخاري (٣٢٠٨) ومسلم (٢٦٤٣) .
( ٤٧ ) : أخرجه البخاري (٢٠١٧) ومسلم (١١٦٩) .
( ٤٨ ) : أخرجه البخاري (١٧٨٢) ومسلم (١٢٥٦) .
( ٤٩ ) : أخرجه أحمد (٢٥٤٩٧) والترمذي (٣٥١٣) وابن ماجه (٣٨٥٠) والحاكم
(٥٣٠/١) .
( ٥٠ ) : أخرجه الترمذي (٣٦٠٤) وابن حبان (٨٩٤،٨٩٥) .
( ٥١ ) : أخرجه البخاري (٢٠٣٢) ومسلم (١٦٥٦) .
( ٥٢ ) : أخرجه البخاري (٢٠٢٦) ومسلم (١١٧٢) .
( ٥٣ ) : أخرجه البخاري (١٢٠٧) ومسلم (١٢٠٨) .
( ٥٤ ) : أخرجه البخاري (٢١٦٨) ومسلم (١٥٠٤) .
( ٥٥ ) : أخرجه البخاري (٢٠٣٥) ومسلم (٢١٧٥) .