اطبع هذه الصفحة


وقفات وتدبرات
في أيات الصيام

أ/يوسف رشيد أحمد
ماجستير جامعة الإمام


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ آل عمران:102، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ النساء:1.
أما بَعْدُ: فإنَّ الله تعالى أنزل هذا القرآنَ وجعله مَصْدَرَ هدايةٍ، وسبيل توفيق في الدنيا والآخرة، لمن آمن به وقرأه وتدبره ثم عمل به: ﴿ إِنَّ هَذَا القُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء:9] ما قال يهدي للطريق القويم؛ وإنما قال تعالى: ﴿ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء:9] أي: في كل شيء يدل على ما هو أفضل وأخير، وفي ذلك إيماءٌ إلى ضمان سلامة أمة القرآن من الحيدة عن الطريق الأقوم؛ لأن القرآن جاء بأسلوب من الإرشاد قويم، ذي أفنان لا يحول دونه ودون الولوج إلى العقول حائل، ولا يغادر مسلكًا إلى ناحية من نواحي الأخلاق والطبائع إلا سلكه إليها تحريضًا أو تحذيرًا، بحيث لا يعدم المتدبر في معانيه اجتناء ثمار أفنانه ([1]) .
فالتدبر في اللغة :-من التفعل- فهو: النظر إلى دُبُرِ الشيء، أي التأمل في دَوَابِرِ الأمور المتوقعة، بمعنى النظر إلى عاقبتها، وما يمكن أن تؤول إليه، والاتعاظ بالمعنى والاعتبار به .
وفي الاصطلاح:(الوقوف عند الآيات، والتأمل فيها؛ للانتفاع بها إيماناً وعلماً وعملاً )([2])
وأما التفسير بيان وشرح للمعنى، وهو من الفَسْرِ، وهو: الكشف والبيان. ولذلك سمي بيان كتاب الله تفسيراً؛ لأنه يكشف اللثام عن معانيه اللغوية والسياقية والشرعية، باستعمال قواعد التفسير المعروفة عند أهله.
قال شيخ الإسلام في لزوم التدبر: "والإنسان يقرأ السورة مرات حتى سورة الفاتحة ويظهر له في أثناء الحال من معانيها ما لم يكن خطر له قبل ذلك حتى كأنا تلك الساعة نزلت  فيؤمن بتلك المعانى ويزداد علمه وعمله، وهذا بخلاف من قرأه مع الغفلة عنه" ([3])
قال ابن القيم – رحمه الله-:"إذا أردتَ الانتفاعَ بالقرآنِ فاجمعْ قلبكَ عند تلاوتهِ وسماعهِ، وألقِ سمعَكَ، واحضُر حضورَ من يخاطِبُه به من تكلَّمَ به سبحانه منه إليه؛ فإنه خطابٌ منه لك على لسانِ رسولِهِ، قال الله تعالى}: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ{ ق:37 ([4])

ففي هذه الوريقات نطرح مجموعة من التأملات والتدبرات المتعلقة بأيات الصيام، فافتح قلبك، وألق سمعك، وتدبر كلام الله، فالله هو الفتاح العليم .


﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقونَ﴾
البقرة: ١٨٣.
من التدبرات الموجودة في هذي الآية:
١- تشريف الله لأهل الإيمان بندائه لهم بالإيمان وما أعظم النداء .
٢- نداء الناس بالاسم المحبوب لديهم أو الصفة وغيرها أقرب للاستجابة والطاعة .
٣- جملة (كُتِبَ عليكم) وردت في القرآن في خمس مواضع:
في الصيام والقصاص والوصية وفي القتال وردت مرتين، وهذه المسالة تؤكد أن الصيام في بداية الأمر  لم تكن ركناً من أركان الإسلام الخمس بل كانت فيمابعد (بالتدرج).
٤- جملة ( كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِن قَبلِكُم) ظاهرة لتخفيف التكليف، وأن الناس قبلكم قد صاموا ، فليست هي من العبادات التي لاتطاق.
٥- إن التقوى مأمور بها قبل فرضية الصيام، ولكن بها يزيد المؤمن – وهو صائم- مخافة من الله وقرباً منه وبعداً من العصيان .
٦- أن الله يريد من عباده من التشريعات كلها الذل والخضوع له، والخشية والخوف منه، والتوكل والاستعانة به وغيرها.
 
﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
[البقرة: ١٨٤]
من التدبرات الموجودة في هذي الآية:
1.   فضل هذه الآيات المعدودات ( التنوين للتعظيم).
2.   فهذه الأيام تعد وتحصى فليست كثيرة ، فسارع في اغتنام الفرص والأجور.
3.   مسألة التدرج في تنزيل الأحكام مرعاة للناس وأقرب للقبول، فكذلك أنت ياعبدالله لما تدعو شخصاً أو تكلف شخصاً ما، عليك بالتدرج في إعطاء التكاليف ...الخ .
4.   أن الله يكلف الناس بمايطيق ، وينزل الأحكام مراعاة لظروف الناس وهذا دليل على تكاملية الشرع وصالحيته لكل زمن ومكان .

﴿شَهرُ رَمَضانَ الَّذي أُنزِلَ فيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى وَالفُرقانِ ﴾
[البقرة: ١٨٥]
وقفات وتدبرات في المقطع السابق:-
1.   إضافة كلمة (شهر)إلى رمضان ،إضافة تشريف وتكريم .
2.   فضل هذا الشهر المبارك بإنزال القرآن فيه .
3.   أغلب ماجاء في القرآن عن كلمة ( القرآن ) مرتبطة بالهداية إما مباشراً أو ضمنياً.
4.   القرآن هداية لمصالحهم الدينية أوالدنيوية، ومما تحصل الهداية به: تلاوته وتدبره ، وسماعه وإنصاته، والعمل به.
5.   (للناس) دليل أن من قرأه أوعَمِلَ به سواءاً كان مسلماً أو لا،  إذ يجد الطمأنينة والسعادة والأمن والآمان .
6.   أن القرآن ميزان لمعرفة الطيب من الخبيث، والحق من الباطل، وأهل السعادة من الشقاوة، والحلال من الحرام وغيرها .

﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَليَصُمهُ وَمَن كانَ مَريضًا أَو عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أَيّامٍ أُخَرَ يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرونَ﴾
[البقرة: ١٨٥]
وقفات وتدبرات في المقطع السابق:
1.   تحري دخول شهر رمضان بمن شهد دخول الشهر .
2.   تفسيركلمة (شهد) لاتقتصر على معنى الحضور بل فيه معنى إضافي هو المشاهدة .
3.    (فعدة من أيام أخر) تكررت مرتين، تنبيه على أنه لاينبغي التقصير والتأخير في قضاء الصيام .
4.   إن سر التكبير هو الاستمرارية في العمل الصالح (ولعلكم تشكرون) على الدوام .
5.   من هداية لله لنا التوفيق للصيام والقيام وقراءة القرآن، وكم من شخص حُرم من هذه الهداية ، والحمدلله والله أكبر . 

﴿وَإِذا سَأَلَكَ عِبادي عَنّي فَإِنّي قَريبٌ أُجيبُ دَعوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَليَستَجيبوا لي وَليُؤمِنوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدونَ﴾
[البقرة: ١٨٦]
وقفات وتدبرات:-
1.   هذه الآية تزيد المؤمن إيماناً وثقة بالله جل وعلا، وحسن الظن به أيضاً، فعندما تأتيه الهموم والمصائب من كل جهة ويعتقد أن الله القريب منه تهون كل المصائب وتزيل الهموم .
2.   كلما يقرأ العبد هذه الآية يعتقد أن الله يقول ياعبادي اطلبوا ماتريدون من دينكم ودنياكم وآخرتكم وأنا معطيكم، ولكننا غافلون ولو كنا راشدين لأنتهزنا هذه الفرصة .
3.   الرشيد يكون بعد رمضان مثل ماكان فيه، ولما كانت الغفلة حاصلة من بعضهم ناداهم لعبادته وأنه قريب منهم مثل ماكان في رمضان .
4.   إن من شروط إجابة الدعاء: الخضوع والانقياد الكامل بالجنان(القلب) وباللسان والجوارح والأركان .                        
5.   الراشد والرشيد عند اهل اللغة: المستقيم على طريق الحق مع تصلب فيه. ومنه يتضح لنا أن المنقاد لأوامر الله ونواهيه انقياداً كاملاً لايزحزح عن دينه، وإيمانه عميقٌ لا سطحيٌ .
6.   بالدعاء والانقياد والإيمان بالله يكون العبد رشيداً في أمور الدنيا والآخرة .
7.   بعض العلماء فسروا الرشد بالهداية، ولعل كلمة الرشد تعطي معنى إضافياً :الاستقامة وفهم وإدراك عواقب الأمور . 

 ﴿أُحِلَّ لَكُم لَيلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُم هُنَّ لِباسٌ لَكُم وَأَنتُم لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُم كُنتُم تَختانونَ أَنفُسَكُم فَتابَ عَلَيكُم وَعَفا عَنكُم فَالآنَ باشِروهُنَّ وَابتَغوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُم وَكُلوا وَاشرَبوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيطُ الأَبيَضُ مِنَ الخَيطِ الأَسوَدِ مِنَ الفَجرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيلِ وَلا تُباشِروهُنَّ وَأَنتُم عاكِفونَ فِي المَساجِدِ تِلكَ حُدودُ اللَّهِ فَلا تَقرَبوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُم يَتَّقونَ﴾
[البقرة: ١٨٧]
وقفات وتدبرات :-
1.   لما كان الحديث عن المعاشرة الزوجية استعمل الباري-  جل جلاله وتقدست أسمائه- الكناية والتشبيه والاستعارة، ليوضح لنا ويعلمنا صون اللسان وحفظه من التلفظ بالألفاظ القبيحة  .
2.   تعظيم المحرمات عند الصحابة لا تصغيرها، اعترافاً منهم على التقصير .
3.   عندما يكون الزوج لباساً لزوجها وكذلك الزوجة لباساً له، ينبعث منه معاني الود والمحبة والوفاء والعناية .
4.   العناية والاهتمام بالأولويات، فالاعتناء بليالي رمضان بكثرة العبادات والقربات وبالأخص ليلة القدرمن أهم الأولويات، فلاينبغي الانشغال بالملذات المدركة ، وليلة القدر ان فاتت لم تدرك.
5.   إن مدارك الناس ليست على حد سواء بل يتفاوتون، فهم بحاجة إلى أكثر إيضاح وأبين أسلوب
6.   المعتكف إذا انشغل بالدنيا عن الآخرة أذهب روح الاعتكاف والانقطاع والتبتل المطلوب، فمن ذلك: الانشغال بالهواتف الذكية وسردالأحاديث الجانبية ..الخ
7.   الشرع لايقيس الناس بالمسميات والظواهر بل الروح والبواطن كصائم يرتكب المحرمات فليس بصائم، ومعتكف منشغل بالملهيات فليس بمعتكف، وقائم مؤدي الحركات فليس بقائم.
8.   افتتحت آيات الصيام بالتقوى وختمت بالتقوى للدلالة على لزوم مخافة الله والبعد عن المعاصي من بداية الشهر ونهايته وكذلك على الدوام حتى الممات .
9.   ذكرالله في آيات الصيام مجموعة من القربات والطاعات: الصيام، قراءة القرآن وسماعه وتدبره والعمل به، التكبير، الشكر، الدعاء بالانقيادالكامل، الاعتكاف .
10.  ومن الأعمال القلبية : التقوى، والهداية، والشكرالاعتقادي، والانقياد ، والإيمان بالله، وتعظيم المحرمات، والتوبة، والتبتل والانقطاع إليه .

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

-------------------------------------------
([1] ) انظر: التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (15/ 40) .
([2] ) مفهوم التدبرص 178 .
([3] ) مجموع الفتاوى (2/16)
([4] )  الفوائد لابن القيم ص3 .

 

شهر رمضان

  • استقبال رمضان
  • يوم في رمضان
  • رمضان شهر التغيير
  • أفكار دعوية
  • أحكام فقهية
  • رسائل رمضانية
  • المرأة في رمضان
  • سلوكيات خاطئة
  • فتاوى رمضانية
  • دروس علمية
  • رمضان والصحة
  • الهتافات المنبرية
  • العشر الأواخر
  • بطاقات رمضانية
  • المكتبة الرمضانية
  • وداعاً رمضان
  • الصفحة الرئيسية