اطبع هذه الصفحة


أيها العاملون ! لا تبرحوا أماكنكم

مصعب بن خالد المرزوقي


بسم الله الرحمن الرحيم


من نعمة الله على عباده أن تفضل عليهم بمواسم الطاعات، يجد فيها المؤمن من نفسه إقبالاً على ربه، ويستشعر آثار رحمته.
وفي ذات الحال، لا يمكن أن ينفصل عن واقعه ومجتمعه، بل هو مطالب بعبادات لازمة وأخرپ متعدية.
وستُظلنا ليال العشر الأواخر، ومعلوم فضلها، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فيها.

ولعل من المناسب أن نتذاكر أمراً في أبواب مصلحة الأمة:

في العشر الأواخر تظهر سنة الاعتكاف، وقد اعتكف النبي صلى عليه وسلم مرات.
إلا أن تتابع اعتكافه العشر في كل عام انخرم مرة، فقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مرة صبح عشرين من رمضان -وقد أمر بنصب بناء له ليكون معتكفه-، فبصر بأبنية، فسأل، فذكروا أنها لزوجاته عائشة وحفصة وزينب -رضي الله عنهن-، أردن الاعتكاف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "آلبر أردن بهذا؟! ، ما أنا بمعتكف!"، واعتكف في شوال.

يستوقفني هذا الحديث كثيراً، بقصد فهم مراد النبي صلى الله عليه وسلم، ولماذا عدل عن الاعتكاف، فإن فِعل زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ومحاولة التقرب منه متفهم وجبليّ، فنساء الرجل يتزاحمن عليه.
كان بإمكانه عليه الصلاة والسلام أن يبطل اعتكافهن فيأمرهن بالعودة، أو يبقي على واحدة أو بعضهن ممن سبق أن أذن لهن، لكنه لم يتمّ اعتكافه وأبطل عزمه عليه!
ولنتصور كيف قضى تلك العشر خلاف العادة!

عجيب بحق هذا الفعل!

وبالعودة إلى كلام أهل العلم الذين بحثوا السبب، وجدت إشارات مختصرة، فيها محاولة لفهم مراد فعله عليه الصلاة والسلام.

ومما يناسب المقام:

وهو احتمال عجيب ذكره القاضي عياض رحمه الله (شرح النووي على صحيح مسلم ٨/ ٦٩)، حيث قال : (هذا إنكار لفعلهن، وسبب إنكاره أنه خاف أن يكنّ غير مخلصات في الاعتكاف، بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه ..) .

وقال الإمام ابن الملقن رحمه الله (التوضيح ١٣/ ٦٧٠): (وفيه أنه قد يستر على الضرائر تفضيل بعضهن على بعض ولو بترك طاعة لله تستدرك بعد حين!).

وأورد الحافظ رحمه الله في الفتح بعضاً من ذلك (٤/ ٢٧٦)، وقال: (وفي الحديث: ترك الأفضل إذا كان فيه مصلحة) .

والأفضل، المقصود به الاعتكاف .
لكن ما المصلحة التي لأجلها ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأفضل ؟
تقدم كلام القاضي وابن الملقن رحمهما الله، وهذا يدعو للتأمل: إن فضل الاعتكاف معلوم، خاصة وأن مقصوده الانقطاع لله، وهو مشروع في موسم عظيم: فالعشر الأواخر عدها بعض أهل العلم أفضل ليالي العام، وبها ليلة القدر، وعبادة القيام، وفي نهارها صيام رمضان الذي هو ركن من أركان الإسلام.
كل هذه الفضائل والأحوال العظيمة التي ترجح التمسك بالاعتكاف، لكنه عليه الصلاة والسلام تركه لمصلحة مراعاة أحوال زوجاته وإخلاصهن في هذه الليالي المباركة!

إن الموازنة بين الأمور تحتاج إلى تأمل:


هل يمكن أن يترك الرجل والديه أو من هم بحاجته ليعتكف وينقطع عنهم؟!
هل يمكن أن نمسي ليلة ٢١ من العشر وليس في طرقاتنا رجال أمن بحجة انشغالهم بالاعتكاف خلال العشر؟!
هل يمكن أن يتوقف الأطباء عن عملهم خلال العشر بحجة الاعتكاف؟!
هل يتصور أن من يحمي المسلمين من المعتدين في فلسطين واليمن والشام والعراق يترك مكانه ليذهب ويعتكف؟!
هذا غير متصور، وننطق بالمصلحة وفقهها لنعظ من يريد فعل ذلك.

فما بالنا نقررها في هذه الأبواب، ولا نذكرها في أبواب حماية أفكار الناس ومعتقداتهم من الغزو الفكري والأخلاقي والتربوي؟!
أم أن ما تقدم من أمثلة هي محسوسة وملموسة وسريعة الأثر، وبالتالي تتبين العاقبة، أما في غيرها من أمور وأحوال معنوية ينقصها هذا الميزان؟!

أليس من العجيب أن يهتم النبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص زوجاته فيترك الاعتكاف ويعود معهن؟!
هذا يدعونا لتأمل الأمور المعنوية فيما نأتي ونذر.

إن أوقات الفراغ التي تنتج عن غياب المصلحين لهي وسيلة لاستغلال أهل الباطل في الترويج لباطلهم.

لما كانت غزوة أحد، اختار النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة رضي الله عنهم وجعلهم على جبل الرماة، وأمرهم ألا يبرحوا أماكنهم ولو تخطفت الطيرُ أصحابهم!

لو افترضنا بقاء الصحابة -رضوان الله عليهم- في مواقعهم، وانتهاء المعركة: هل يُسلبون وصف الجهاد لأنهم لم يقاتلوا ولم يرموا ولم يبارزوا؟! ، لا يقول بهذا أحد .

فهل لنا في ذلك قدوة، وأن نضع أيدينا على بعض الأبواب، ونقول لأصحابها: "لا تبرحوا أماكنكم في كل حال": لو رأيتم الخير يقاد لفئة ما أو مكان ما، أو رأيتم الناس تخطفهم الطير من حولكم، فلا تبرحوا؛ فإنكم ذخر الأمة، وأنتم ترجون ثواب الله، والذي تريدونه قد يكون في مكانكم، وليس في استراوحكم لمكان آخر!
إنكم تطلبون مكاناً أو فضلاً ما، ولكم من أيام عملكم ما يتمنى معه غيركم اللحاق بكم.

إذا قررنا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أراد الحفاظ على إخلاص زوجاته، وقررنا أنه لا يمكن لبعض الموظفين من أطباء أو رجال أمن أو غيرهم تركُ أعمالهم؛
فلماذا لا نقول: إن الأمة بحاجة لبعض أبنائها في كل ساعة وفي كل لحظة؟
وحق الأمة أعظم من حق الفرد، وقد قرر بعض العلماء أن النفع المتعدي يقدم على اللازم إذا لم يكن في ذلك ضرر على أصل ديانة الفرد المشتغل بالمتعدي وإن كان ذلك مؤثراً على قلة عبادته ونوافله اللازمة، خاصة في زمن الفتن.
إن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أدركه السفر في أحوال شتى، كلها لمصلحة الأمة، ولو تأملنا مثالاً واحداً :
معركة بدر، والتي كانت في رمضان، وقد وعد اللهُ نبيّه صلى الله عليه وسلم بالنصر، لكن الله الذي وعد بذلك لم يجعله والصحابة يتحصلون عليه دون قتال ودعاء:
فالتقوا المشركين وقاتلوهم، وقبل المعركة كان النبي صلى الله عليه وسلم يلح في الدعاء، وهنا يستنبط شيخ الإسلام رحمه الله استنباطاً بديعاً (الإيمان ص358)، قال رحمه الله: (فتبقى خواطر الخوف تعارض الرجاء، فيقول الإنسان "إن شاء الله" لتحقيق رجائه، مع علمه بأن سيكون، كما يسأل الله ويدعوه في الأمر الذي قد علم أنه يكون، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر قد أخبرهم بمصارع المشركين، ثم هو بعد هذا يدخل إلى العريش يستغيث ربه ويقول "اللهم أنجز لي ما وعدتني"؛ لأن العلم بما يقدره لا ينافي أن يكون قدره بأسباب، والدعاء من أعظم أسبابه، كذلك رجاء رحمة الله وخوف عذابه من أعظم الأسباب في النجاة من عذابه وحصول رحمته) .

الشاهد: أن الأمة بحاجة إلى العابد والذي في مصلاه، ولا يقلّ هذا عن حاجتها الشديدة للعمل والبذل في ذات الوقت، كما كان عليه الصلاة والسلام في معركة بدر يدعو ويجهز الجيش ويقاتل.

الأمة بحاجة إلى المحراب، إلى الإمام، والعابد، والعالم، والداعي، والناصح، والآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، والمربي، والمعلم، والبار، والمصلح، والساعي بالخير، والقائم على حاجات الناس، والطبيب، والبار بوالديه، والواصل لرحمه، والساعي لكفاف نفسه، والمنفق، .. ، رجالاً ونساءً، كل هؤلاء وغيرهم لا بد من عملهم وديمومته.

ولا أجلّ ممن أخذ من وقته وراحته وعبادته النافلة ليتعدى ببذله لغيرهم ويصلح شأنهم.

قد يكون في الاعتكاف ما يناسب من فتوى أو استشارة، ونحو ذلك، لكن بعض الأمور الكبار التي تحتاج لذهاب ومجيء وخروج عن الانقطاع والخلوة، قد يتعذر معها تحصل بعض شروط الاعتكاف.

إذا كان الاعتكاف سيقطع المرء عن أمته وهي بحاجته، فليراجع مصلحة اعتكافه، فالبعض قد أصبح رجل عامة، ولا بد له من معرفة حقيقة مكانه من الأمة وحاجتها إليه، ولعل الذي يطلبه في اعتكافه يجد خيراً منه في باب غيره.

ولا يخفى أن تقدير ذلك لا يعود للمرء ورغبته وهواه، كما أنه لا محل للتقليل من شأن النفس وهضمها، وإنما يقيّم ذلك الواقع وهو الشاهد، وكذا نصيحة العقلاء العاملين الصادقين، وضرورة الأمر وضرر تأخره لو غاب المرء أو تخلف بيانه عن وقته؛ فإن بعض ما يقع يمكن تأخير النظر فيه، وآخر لا يحتمل التخلف والتأخر.

ونحن نقدم أعمالنا ابتغاء رضا الله سبحانه، وهو العالم بحقيقة الأمر وما يصلح لنا ولأمتنا.

إن الانقطاع للعبادة عبادة، والبذل والعمل لأجل الأمة عبادة لا تقل عنها.
إن الموفق من أرشده مولاه لمحلّه من الأمة وجعله يأخذ الأمر بحقه.

الأمة بحاجة إلى دعاء المعتكف وعبادته، لكن الله لا يريد منا الصلاح فقط، بل يريد الإصلاح وبذل السبب.

لو اعتكف أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وقت ازدحام الناس في ليالي العشر في الأسواق، لوقعت كثير من المنكرات لغياب الاحتساب عليها، وربما استحق عذاب الله وغضبه.
لو اعتكف الرجل وزوجته، فمن لأبنائهما؟!
لو اعتكف المربي، فمن لطلابه يحميهم من الفراغ والفتن؟!
لو اعتكف ولي الأمر، فمن لمصالح الناس؟!
لو اعتكف المفتي والفقيه، فمن لدين الناس؟!
لو اعتكف إمام مسجد جامع (ليس في جامعه) في المسجد الحرام أو النبوي، فمن لجماعة مسجده؟!
لو اعتكف المجاهد في فلسطين واليمن والعراق والشام؛ فمن لأعراض ودماء وأموال المسلمين؟!
لو اعتكف القائم على النازحين من المسلمين والمشردين؛ فمن لهم؟!
لو اعتكف القائم على الأيتام والأرامل؛ فمن يقوم عليهم؟!
لو اعتكف الإعلامي المحافظ الحامل لهم أمته والقادر على نصحها والتأثير فيها؛ فمن للأمة إذا تلاطمت أمواج الإعلام؟!

وهكذا، في كثير من أحوال يعيشها المسلمون.

والأصلح في هذه الأبواب أن يُنتدب البعض لسد الأمر والقيام به.
هذا فيما يتعلق بالزمان؛ ولذا ذُكر الاعتكاف لمناسبته، ويقال مثله في المكان والوسيلة ونحوها: فربما تكدس العطاء والعمل في مكان أو وسيلة دون غيرها.

هي دعوة لقدر حق الأمة علينا قدره وخاصة في زمن الشدائد، ومعرفة مكان كل فرد من أمته وتأثيره، وما يسعه من عمل وبذل.

وإن من إخواننا من لا يصلح له أن يتجاوز موضع صلاته وعبادته؛ فليلزم.
ومن إخواننا من لا يعرف الوقوف أبداً، يسعى في حاجات المسلمين وكفايتهم؛ فليلزم.
ومن إخواننا من لا يصلح إلا أن يكون كاتباً مبيناً للحق؛ فليلزم.
ومن إخواننا من لا يحسن إلا القيام على حاجات أهل العلم والكبار ليتفرغوا لما هم بصدده؛ فليلزم.
ومن إخواننا لا يصلح إلا في ميدان ترتيب العمل وتنظيمه وإدارته؛ فليلزم.
ومن إخواننا ..،
ومن إخواننا .. ،
وعليه؛ فلا يمكن أن نكون كلنا في التعليم، وفي المحراب، وفي الإنفاق، وفي التوجيه، وفي التنظيم والإدارة .. ، هذا لا يمكن، ولا يصلح تغليب باب على باب حال الشدة، إلا بوجود من يسد الثلمة.

وددت أن يتشارط المصلحون (العاملون في ميادين متقاربة) فيما بينهم على تصويب ذلك، يتكاشفون، ويعلم كل واحد موضعه وقدره اختصاصاً وزماناً ومكاناً ووسيلة، ويعملون، ويتناوبون؛ فلا ينقطع زاد الفرد من العبادات اللازمة والفردية، ولا ينقطع عن الأمة العملُ والعاملون والباذلون!

وعندها؛
نكون قد حققنا الخيرية التي ذكرها الله في كتابه فبدأ بذكر بذل أفراد الأمة الإصلاح قبل ذكر الإيمان، فقال: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله".

والله المستعان، ولا حول ولا قوة لنا إلا به ..
 

مصعب بن خالد المرزوقي
١٨ رمضان ١٤٣٨

 

شهر رمضان

  • استقبال رمضان
  • يوم في رمضان
  • رمضان شهر التغيير
  • أفكار دعوية
  • أحكام فقهية
  • رسائل رمضانية
  • المرأة في رمضان
  • سلوكيات خاطئة
  • فتاوى رمضانية
  • دروس علمية
  • رمضان والصحة
  • الهتافات المنبرية
  • العشر الأواخر
  • بطاقات رمضانية
  • المكتبة الرمضانية
  • وداعاً رمضان
  • الصفحة الرئيسية