اطبع هذه الصفحة


مشروعية التهنئة بشهر رمضان

وليد بن عبده الوصابي


بسم الله الرحمن الرحيم

لا شك أن المسلم يفرح بمواسم الطاعات، ومواطن النفحات؛ ليتقرب بذلك إلى مولاه سبحانه وتعالى، بل يجد البهجة والسرور، والأنس والحبور لما أولاه الله من النعمة أن أبقاه حتى يشهد محافل الخير والبركة.
وإن من أعظم مواسم الطاعات، هو شهر رمضان المبارك.
ففيه تأنس النفوس، وتفرح القلوب، وتنشرح الصدور، ويزداد فيه من أعمال البر والخير، ويقصر عن أعمال الشر والضير.
"قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون"
فافرحوا أيها المؤمنون بشهركم، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من خلقه، فاسألوا الله أن تكونوا منهم. (١)
وإن من الأمور التي تكتمل بها الفرحة، وتتم بها النعمة: هو التهنئة بهذا الشهر الفضيل، الذي فيه من الفضائل والمزايا الشيء الكثير، والغمر الوفير.
وإن الناظر إلى أصل التهنئة لا يخفى عليه حكمها، ولا يشتط في الحكم بالبدعة على من هنأ بها.
والتَّهنئة كما قرَّر غيرُ واحد من أهل العلم، أنَّها (من العادات، وليست مِن العبادات) وينظر فيها إلى المعاني والمقاصد.
ولها أصلٌ في الشريعة؛ فقد هنَّأ بعضُ الصَّحب كعبَ بن مالك بحضرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وشرع سجود الشُّكر عند تجدُّد نعمة، أو دفع نقمة.
قال ابن القيم، في سياقه لفوائد قصة كعب بن مالك:
"وفيه دليل على استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية، والقيام إليه إذا أقبل، ومصافحته، فهذه سنة مستحبة، وهو جائز لمن تجددت له نعمة دنيوية، وأن الأَوْلى أن يقال: يهنك بما أعطاك الله، وما منّ الله به عليك، ونحو هذا الكلام، فإن فيه تولية النعمة ربّها، والدعاء لمن نالها بالتهني بها"
(زاد المعاد: ٣/ ٥٨٥).
وقال الحافظ ابن حجر:
(ويحتج لعموم التهنئة؛ لما يحدث من نعمة، أو يندفع من نقمة: بمشروعية سجود الشكر والتعزية).
وفي رسالة السيوطي: (وصول الأماني)، نقَل فيها عن القمولي في (الجواهر) أنه قال: "لم أرَ لأصحابنا كلامًا في التهنئة بالعيدين والأعوام والأشهُر كما يفعله الناس، ورأيتُ -فيما نقل من فوائد الشيخ زكي الدين عبد العظيم المنذري- أنَّ الحافظ أبا الحسن المقدسيَّ: سُئل عن التهنئة في أوائل الشهور والسنين: أهو بدعة أم لا؟
فأجاب: بأن الناس لم يزالوا مُختلفين في ذلك، قال: والذي أراه أنه مباح؛ ليس بسُنة، ولا بدعة".
فعلى هذا؛ يُشرع التهنئة بشهر رمضان المبارك؛ لما فيه من تجدد النعم والطاعات، والقرب من رب البريّات، بل ورد ما يشير إلى التهنئة برمضان من كلام رسول الله عليه الصلاة والسلام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم).
أخرجه النسائي وأحمد، وصححه الشيخ شعيب الأرناؤوط.
قال ابن رجب: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبشّر أصحابه بقدوم رمضان،... ثم ساق هذا الحديث، ثم قال: "قال العلماء: هذا الحديث أصلٌ في تهنئة الناس بعضهم بعضاً في شهر رمضان".
(لطائف المعارف: ٢٧٩).
وهنا نقل مفيد للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، قال -رحمه الله-:
"هذه المسائل وما أشبهها مبنية على أصل عظيم نافع، وهو أن الأصل في جميع العادات القولية والفعلية الإباحة والجواز، فلا يحرّم منها ولا يكره إلا ما نهى عنه الشارع، أو تضمن مفسدة شرعية، وهذا الأصل الكبير قد دل عليه الكتاب والسنة في مواضع، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
فهذه الصور المسؤول عنها وما أشبهها من هذا القبيل، فإن الناس لم يقصدوا التعبد بها، وإنما هي عوائد وخطابات وجوابات جرت بينهم في مناسبات لا محذور فيها، بل فيها مصلحة دعاء المؤمنين بعضهم لبعض بدعاء مناسب، وتآلف القلوب كما هو مشاهد.
أما الإجابة في هذه الأمور لمن ابتدأ بشيء من ذلك، فالذي نرى أنه يجب عليه أن يجيبه بالجواب المناسب مثل الأجوبة بينهم؛ لأنها من العدل، ولأن ترك الإجابة يوغر الصدور، ويشوش الخواطر.
ثم اعلم أن هاهنا قاعدة حسنة، وهي: أن العادات والمباحات قد يقترن بها من المصالح والمنافع ما يُلحقها بالأمور المحبوبة لله، بحسب ما ينتج عنها وما تثمره، كما أنه قد يقترن ببعض العادات من المفاسد والمضارّ ما يُلحقها بالأمور الممنوعة، وأمثلة هذه القاعدة كثيرة جداً".
انتهى كلامه -رحمه الله-، من (المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي- الفتاوى: (٣٤٨).
وقد طبّق الشيخ -رحمه الله- هذا عملياً حينما أرسل تلميذه الشيخ عبدالله ابن عقيل خطاباً له في أوائل شهر رمضان من عام ١٣٧٠ه‍، وضمّنه التهنئة بالشهر الكريم؟
فردّ الشيخ عبدالرحمن -رحمه الله- بهذا الجواب في أول رده على رسالة تلميذه: "في أسرّ الساعات وصلني كتابك رقم ٩ / ١٩ فتلوته مسروراً، بما فيه من التهنئة بهذا الشهر، نرجو الله أن يجعل لنا ولكم من خيره أوفر الحظ والنصيب، وأن يعيده عليكم أعواماً عديدة مصحوبة بكل خير من الله وصلاح".
انتهى كما في (الأجوبة: ٢٨٠) وفي (٢٨٤) ضمّن الشيخ رسالته لتلميذه التهنئة بالعشر الأواخر.
وعلى جواز التهنئة بشهر رمضان: الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ الأمين الشنقيطي، والشيخ الفوزان، وأعضاء اللجنة الدائمة.
وعلى ما سبق من الاستنباطات والنقولات؛ فمن هنَّأ في مثل هذه المواطن؛ فلا حرج، ومن لم يهنّئ فلا عوج.
بل إن من قصد إدخال السرور على المسلمين والتنبيه إلى التزوُّد من العمل الصالح، والتحذيرَ من طول الأمل؛ فهذه مقاصدُ حسنة جليلة، يرجى له الأجر والثواب، من الله الكريم الوهاب. (٢)
هذا ما أردت قوله ونقله، وأسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يوفقنا لاغتنام الفرص في مواسم الطاعات، ويعيننا على البعد عن المعاصي والسئات.
وسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.


كتبه: وليد بن عبده الوصابي.
١٤٣٩/٨/٣٠

-----------------------------------
(١) (قد كتبت مقالاً: الفرحة الرمضانية: واجبة شرعية)
(٢) وقد كتبت مقالاً عن التهنئة بالعام الهجري، بعنوان: قبس من الذكر في جواز التهنئة بالعام الهجري.

 

شهر رمضان

  • استقبال رمضان
  • يوم في رمضان
  • رمضان شهر التغيير
  • أفكار دعوية
  • أحكام فقهية
  • رسائل رمضانية
  • المرأة في رمضان
  • سلوكيات خاطئة
  • فتاوى رمضانية
  • دروس علمية
  • رمضان والصحة
  • الهتافات المنبرية
  • العشر الأواخر
  • بطاقات رمضانية
  • المكتبة الرمضانية
  • وداعاً رمضان
  • الصفحة الرئيسية