اطبع هذه الصفحة


أحكام وسنن وعبر في الشتاء والربيع

عنيزة عبدالمحسن القاضي

 

الخطبة الأولى
أما بعد:فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه، أيها الإخوة المؤمنون الدهور والأعوام الليالي والأيام، سنن الله تتعاقب في هذه الدنيا ولن تجد لسنة اله تبديلا، وبتعاقبها وسيرها تتعاقب الفصول على الناس، فهذا فصل للصيف وذا للشتاء وذاك للخريف وذا للربيع، ومن نعمه أن خص كل موسم بما يناسبه من الزروع والثمار ونوع الأعمال، ودفع السآمة عن الإنسان ؛ والمؤمن الحق من وقف مع هذه النعمة وتدبرها حق التدبر وشكر الله لأجلها، قولا وعملا، ولأننا في فصل الشتاء فإننا نقف بكم اليوم إخوة الإيمان على شيء مما ورد فيه، وكذلك غيض مما يحتاجه المسلم من الأحكام، وما شرع له من السنن فيه، أخرج الإمام أحمد في حديثه الحسن عن أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال: ((الشتاء ربيع المؤمن)) أخرجه البيهقي، وزاد فيه: ((طال ليله فقامه وقصر نهاره فصامه)) وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، ونزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه، ويصلح بين المؤمن في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة من الطاعات ،فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة، ولا كلفة تحل له من جوع ولا عطش، فلا يحس بمشقة الصيام، وفي المسند والترمذي عن النبي: ((الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة))، وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: " ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؛ قالوا: بلى؛ فيقول: الصيام في الشتاء وقيام ليل الشتاء "- نسأل الله أن يوفقنا لأدائه-، يكون يسيرا لطول الليل فيه يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة وروي عن ابن مسعود قال: " مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام "، وعن الحسن قال: "ونعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه ونهاره قصير يصومه " قال ابن رجب رحمه الله : " قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف ولهذا بكى معاذ عند موته، وقال: إنما أبكي على ظمأ الهاجر وقيام ليل الشتاء ومزاحمة العلماء بالركاب عند حلق الذكر " انتهي كلامه رحمه الله، ومن فضائل الشتاء أنه يُذكِّر بزمهرير جهنم، ويوجب الاستعاذة منها ذكر ابن رجب في حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي قال: ((إذا كان يوم شديد البرد فإذا قال العبد لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم، اللهم أجرني من زمهرير جهنم، قال الله تعالى لجهنم إن عبدا من عبادي استجار بي من زمهريرك وإني أشهدك أني قد أجرته، قالوا وما زمهرير جهنم. قال: بيت يلقى فيه الكفار فيتميز من شدة برده))، وفي الحديث عند الشيخين وغيرهما عن النبي أنه قال: ((إن لجهنم نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف، فأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها، وأشد ما تجدون من الحر من سمومها))، وروي عن ابن عباس قال : " يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون برحي باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر ويستغيثوا بحر جهنم ".كم يكون الشتاء ثم المصيف وربيع يمضي ويأتي الخريف وارتحال من الحرور إلى البرد وسيف الردى عليك منيف عجبا لامرئ يذل لذي الدنيا ويكفيه كل يوم رغيف .

أيها الإخوة المؤمنون: ومما يحتاجه المؤمن كثيرا في الشتاء وغيره كذلك، المسح على الخفين، وإن من تيسير الله علينا في هذا الدين العظيم، أن أجاز الله لعباده عددا من الرخص يترخصون بها، وفيها المسح على الخفين بدلا من غسل الرجلين، ويلزم الإنسان عند لبس الخفين من شراب ونحوه أن يكون طاهرا متوضئا، ويمسح عليهما عند الوضوء، إن كان مقيما يوما وليلة، وإن كان مسافرا ثلاثة أيام بلياليهن، وتبدأ مدة المسح على الخفين من أول مسحة عليهما فإن لبس الإنسان خفيه عند صلاة الفجر ومسح عليهما في صلاة الظهر فابتداء المدة من الوقت الذي مسح فيه عند صلاة الظهر، فيمسح المقيم إلى مثل ذلك الوقت من الغد، وإذا تمت المدة، وهو على طهارته، فطهارته باقية حتى ينقض، وإذا انتقضت بعد تمام المدة وجب عليه غسل رجليه إذا توضأ، ثم يلبس من جديد، ومن تمت مدته فنسي ومسح بعد تمام المدة فعليه أن يعيد الصلاة التي صلاها بذلك المسح، ومن لبس الكنادر فله أن يمسح عليها وإن شاء مسح شراب إذا مُسِح أحدهما أول مرة تعلق الحكم به، فإذا قدر أن يمسح الكنادر فليستمر على مسحها ولا يخلعهما حتى تتم المدة، فإن خلعهما قبل تمام المدة لنوم أو لغيره فإنه لا يعيدها إذا توضأ حتى يغسل رجليه لأن الممسوح إذا خلع لا يعود المسح عليه إلا بعد غسل الرجلين أما إذا تعلق المسح بالشراب فلا يضر خلع الكنادر، وكيفية المسح أن يبل يديه بالماء ثم يمرهما على ظهر الخفين من أطرافه مما يلي الأصابع إلى الساق مرة واحدة، ومن رحمة الله بالعباد أن من احتاج إلى ربط شيء على كسر أو جرح أو جبيرة فإنه يمسح عليها كلها بدلا من غسلها في الوضوء والغسل حتى تبرأ ويقوم مسحها مقام غسلها تيسيرا من الله تسهيلا على عباده ولله الحمد والمنة، انتهى كلام الشيخ حفظه الله.إخوة الإيمان: وكذلك مما يرد على الإنسان في الشتاء كثرة الأمطار، وهي نعمة الله عز وجل، وخير للبلاد والعباد، تستحق منا الشكر، ووقت نزول المطر هو من أوقات الاستجابة للدعاء، وكذلك مما ورد من الأذكار والأدعية عند نزول المطر أن يقول المسلم: "مطرنا بفضل الله ورحمته "، وكذلك أن يقول: " اللهم اجعله صيبا نافعا "، وغير ذلك من الأدعية والسنن، وإن في تصريف الأمطار في بعض الأمصار وحبسها عن بعض الديار لعبرة لأولي الأبصار وعظة للعصاة الفجار، قال تعالى: وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا [الفرقان:48-50]. وفي نهاية الشتاء تخضر الأرض، وتخرج بركاتها بفضل الله ومنته، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض، قيل : مابركات الأرض؟ قال: زهرة الدنيا، فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله حتى ظننت أنه سينزل عليه، ثم جعل يمسح على جبينه، قال أين السائل ؟ قال: أنا، قال: لا يأتي الخير إلا بالخير، إن هذا المال خضرة حلوة، وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا أو يلم أي يشبع إلا آكله الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت الشمس فاجترت وثلطت وبالت ثم عادت فأكلت وإن هذا المال خضرة حلوة من أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو، وإن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع))، عباد الله كل ما في الدنيا فهو مذكر بالآخرة، ودليل عليه، فنبات الأرض واخضرارها في الربيع بعد يبسها، يدل على بعث الموتى من الأرض، وذكر الله ذلك في مواضع كثيرة من كتابه فهو يقول: وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى و أنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [الحج:5-6]. ويقول جل وعلا: ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [ق:9-11]. قال أبو رزين للنبي : كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ قال: ((هل مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز اخضرارا قال: نعم، قال: كذلك يخرج الله الموتى وذلك آيته في خلقه)) خرجه الإمام أحمد.تفكر في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين ناظرات بأحداق هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك إخوة الإيمان : فصول السنة تذكر بالآخرة فشدة حر الصيف يذكر بحر جهنم، وهو من سمومها، وشدة برد الشتاء يذكر بزمهرير جهنم، وهو من نفسها، والخريف يكمل فيه اجتناء الثمرات التي تبقى وتدخر في البيوت، فهو منبه على اجتناء ثمرات الأعمال في الآخرة، وأما الربيع فهو أطيب فصول السنة وهو يذكر بنعيم الجنة، وطيب عيشها فهذه التنقلات توجب للعاقل الدهش والتعجب من صنع صانعه وقدرة خالقه جل وعلا.فوا عجبا كيف يعصي الإله أم كيف يجحد الجاحد ولله في كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهد وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون [سورة الأنعام:99].بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم . . .

الخطبة الثانية
الحمد لله حق حمده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.أما بعد:فيا عباد الله :اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أسامة بن زيد قال: ((كان رسول الله يصوم الأيام يسرد حتى نقول لا يفطر ويفطر الأيام حتى لا يكاد يصوم ولم يكن يصوم من الشهور ما يصوم من شعبان ؛ فقلت : يا رسول الله إنك تصوم لا تكاد تفطر وتفطر لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما ؟ قال :أي يومين؟ قال: يوم الاثنين والخميس؛ قال: ذاك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم؛ قلت: ولم أرك تصوم من الشهور ما تصوم شعبان؟ قال: ذاك شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين عز وجل فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم))، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان)) وفي رواية للنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان أحب الشهور إلى رسول الله أن يصوم شعبان كان يصله برمضان)).إخوة الإيمان ها أنتم في شهر شعبان الذي أدرككم، فاستغلوه بالصيام، وفعل الخيرات، كما ورد ذلك عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وهو من مواسم الخير التي ينبغي للإنسان استغلالها، ويجب على من فاته شيء من رمضان الماضي فأفطره لعذر، أن يتدارك نفسه ويصومه قبل مجيء شهر الخير والإحسان، شهر رمضان، قال ابن رجب رحمه الله : " ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحل التأهل لتلقي رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن فيا من فرط في الأوقات الشريفة وضيعها وأودعها الأعمال السيئة وبئس ما استودعها ".مضى رجب وما أحسنت فيه وهذا شهر شعبان المبارك فيا من ضيع الأوقات جهلا بحرمتها أفق واحذر بوادرك فسوف تفارق اللذات قهرا يخلي الموت كرها منك دارك تدارك ما استطعت من الخطايا بتوبة مخلص واجعل مدارك على كسب السلامة من جحيم فخير ذوي الجرائم من تدارك وعلموا يا عباد الله: أن تخصيص صيام يوم النصف من شعبان، وقيام ليلته، بدعة لم يرد فيه شيء عن النبي ، أما من مر عليه النصف في صيامه فلا بأس، فتنبهوا لذلك ونبهوا غيركم وخصوصا من العمالة الوافدة، والتي تنتشر هذه البدعة في بلادهم وقد تكلم أهل العلم عنها فلهم من الله الأجر والمثوبة.واتقوا الله يا عباد الله: وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم وما كان عليه السلف الصالح وصلوا وسلموا يا عباد الله.

أحكام الشتاء
  • رسائل ومقالات
  • الرياح أحكام وآداب
  • خطب
  • المسح على الخفين
  • الرئيسية