اطبع هذه الصفحة


الفتنة الدانمركية.. رب ضارة نافعة!

أحمد دعدوش

 
لعلنا لم ننس بعد نتائج الإحصاء الشهير الذي جرى في مطلع القرن الميلادي الحالي، وأثبت أن أكثر من نصف مواطني الاتحاد الأوربي يعتقدون أن "إسرائيل" هي أكثر دول العالم رعاية للإرهاب.
قامت الدنيا يومها ولم تقعد، ولم يحسن العرب والمسلمون استثمار هذه الفرصة كالعادة، أما الصهاينة فما كانوا ليفوتوها مهما كان التخاذل، إذ سارعوا لإذكاء نار الإسلاموفوبيا من جديد في أوربا، وحركوا الأيادي الخفية للعبث في رؤوس العلمانية الفرنسية التي استصدرت ما سمي بقانون حظر الرموز الدينية في المدارس، حتى ثار المسلمون انتصاراً لدينهم وكرامتهم، وسرعان ما ضاعت الحقائق مع دماء الشهداء في فلسطين!
المشهد ذاته يتكرر اليوم، فما أن لاحت بوادر التعاطف النرويجي مع الحقوق الفلسطينية المهدورة حتى تحرك الصهاينة من جديد، غير أن النتائج قد تخطت التوقعات هذه المرة.

كيف بدأت القصة؟
تعود البداية- وفقا لموقع العربية نت- إلى الاجتماع الذي عقده رئيس الوزراء الدنماركي آنس فوغ راسمسون مع مجموعة من الأئمة وقيادات الجالية الإسلامية في 20 سبتمبر/أيلول الماضي لبحث ما سُمي بأسباب جنوح بعض الشباب المسلم إلى العنف والخروج عن القانون، وقد أجاب الأئمة بضرورة تدخل الحكومة لمنع وسائل الإعلام من الإساءة للإسلام، مع تذكيرهم بواجب الحكومة في منع مظاهر التمييز ضد المسلمين.
أما ردود الفعل الأولى لوسائل الإعلام فكانت على عكس مطالب المسلمين تماما، فبمجرد علم صحيفة "يولاند بوسطن" بهذ الأنباء طلبت على الفور من نقابة رسامي المجلات أن يقدموا لها رسوما كاريكاتيرية تتخطى كل الخطوط الحمراء، وتتعرض مباشرة لمقام النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجله أكثر من مليار مسلم على وجه الأرض، وحصلت بالتالي على مجموعة من اثني عشر رسماً قامت بنشرها على الفور، وبعد عشرة أيام فقط من الاجتماع المذكور.
الجالية المسلمة في الدانمرك كثفت جهودها للدفاع عن كرامة المسلمين في كل أنحاء الأرض، ودعت إلى مظاهرة في الرابع عشر من أكتوبر- أي بعد أسبوعين- في كوبنهاغن، ثم تلتها الجاليات الإسلامية في أوربا منددة بهذا الفعل الشنيع، كما أصدرت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "إيسيسكو" بيانا يطالب باعتذار الصحيفة.
سرعان ما نُسي الأمر بعد ذلك، تماما كما نُسيت حوادث إهانة المصاحف في غوانتانامو، وهدم المساجد في الهند، واستباحة كل شيء في فلسطين، ولكن التصريح النرويجي الذي طرأ على حين غرة هو الذي أعاد الحدث إلى الواجهة بعد أربعة شهور، مما دفع بالصهاينة لتشجيع إحدى الصحف هناك على إعادة نشر تلك الرسوم، ثم التربص في انتظار وقوع الكارثة.

الشرارة
في العاشر من يناير الماضي بدأت خيوط اللعبة بالتكشف عندما أعادت مجلة (مغازينا) النرويجية والمقربة من حزب التقدم اليميني المتطرف نشر تلك الرسوم بالرغم من سكوت المسلمين عن الأمر ودخوله عالم النسيان، وذلك إثر تصريح وزيرة المالية النرويجية وزعيمة الحزب الاشتراكي (كريستينا هالفرسون) بدعمها لسياسة مقاطعة البضائع الإسرائيلية، مما دفع وزيرة الخارجية الأمريكية لتوجيه إنذار شديد اللهجة للحكومة النرويجية، ليقوم وزير الخارجية النرويجي في المقابل بطمأنة الولايات المتحدة بأن هذه التصريحات لا تمثل إلا هالفرسون وحدها.
العجيب في الأمر هو أن الغالبية الساحقة من العرب والمسلمين لم يسمعوا شيئا عن تصريح هالفرسون، ذلك التصريح الذي تلقاه الصهاينة على جناح السرعة، واستنفروا له كل طاقاتهم لتطويقه والحؤول دون إخراجه إلى عالم الواقع، أما الأعجب فهو أن العلاج لم يتطلب أكثر من إعادة نشر تلك الرسوم التي نشرت قبل عدة أشهر، ثم الخروج من القضية كلها مثل الشعرة من العجين.
لم تتردد المجلة النرويجية في تنفيذ الأوامر، وقامت بإعادة النشر في استفزاز واضح، ولعل أحداً لم يتوقع آنذاك أن تتحول ردود الفعل من مجرد احتجاجات من قبل الجالية المسلمة في النرويج إلى ثورة عالمية خارجة عن السيطرة.
العرب ما زالوا يتساءلون حتى الآن: لماذا لم نسمع بالأمر من قبل بالرغم من مرور كل هذه الشهور عليه؟ ولعل الجواب يكمن في رغبة الجهة التي تقف خلف القصة بأكملها، إذ أصبحت الدوافع في تحريك العالم ضد المسلمين اليوم أقوى، خصوصا مع تزايد مخاوفهم من صعود حماس في الانتخابات التي كانت على وشك الانطلاق.
هذا الأسلوب لم يعد يخفى على كل متتبع، فما زالت هناك الكثير من الشكوك حول الصور التي جرى تسريبها من سجن أبو غريب، فمن غير المستبعد أن تكون تلك الصور قد أعدت خصيصاً لمسخ ما تبقى من كرامة المواطن العراقي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه قد جرب أبشع أنواع القمع والتنكيل على يد النظام الديكتاتوري السابق، وأنه قد اعتاد على الخوف والرضوخ تحت طائلة التهديد، مع الاحتفاظ بحق الاستنكار وإدانة بعض صغار الضباط لحفظ ماء الوجه أمام الرأي العام والتملص من المسئولية.

كسر القاعدة
الملفت في الأمر هو أن ردود الفعل العربية لم تأت كسابقاتها هذه المرة، إذ يبدو أن اللاعبين في الظل لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث مع ناشري الرسوم بما يحتمل أن يحدث، خصوصا وأن تبعات هذا التصرف الأخرق لن تقع عليهم مباشرة بل ستأخذ أبعادا سياسية ودبلوماسية، مع علمهم المسبق بأن رفع شعار حرية التعبير سيكون بمثابة الحصانة التي لا يمكن خرقها.
لم تنجح محاولات المسلمين الاحتجاجية في إقناع المسؤولين عن الرسوم بالاعتذار بادئ الأمر، بل لم يكتفوا بالتعنت، إذ حرضوا المزيد من الصحف على إعادة النشر في تحدٍ سافر، مما دفع المسلمين لإشهار سلاح المقاطعة الاقتصادية مرة أخرى بعد تجربته في أيام الانتفاضة.
ليس لدي ما يؤكد تحسبهم المسبق لاحتمال وقوع هذه المقاطعة، ولكني أرجح أنهم لم يعيروا الأمر الكثير من الاهتمام في البداية لإيمانهم بأن العرب أقل شأنا من إحداث خطر بهذا الحجم، خصوصا وأن المقاطعة السابقة لم تؤت ثمارها، بل لم تترك أي أثر في مسار الأحداث إبان الانتفاضة التي قضت على المئات من الفلسطينيين، ولعل ذلك قد أشاع فكرة العجز العربي التام حتى في مجال الدفاع فضلا عن الهجوم، ولكن النقطة الأهم هنا هي أن معظم الصادرات الدانمركية إلى الدول الإسلامية لا تخرج عن كونها منتجات غذائية قابلة للاستبدال، فضلا عن كون معظمها أقرب إلى الكمالية منها إلى الأساسية، بالإضافة إلى أن حصة السوق الإسلامية من هذه الصادرات أكبر بكثير من مثيلتها الأمريكية.
بناء على ذلك، فإن خسارة الشركات الدانمركية بدأت بالظهور على السطح منذ الأيام الأولى، مما عزز الشعور بالنصر لدى المسلمين الغاضبين الذين كثفوا جهودهم لتعميم هذه الظاهرة، ولعل انتصار حماس الساحق قد أعطى دفعا نفسيا قويا، إلى جانب خطابات الرئيس الإيراني التي أعادت للمسلمين الكثير من ذكريات العزة المفقودة، وهكذا توالت أخبار النصر التي تناقلها الشباب المتحمس بسرعة البرق، لتخرج المسيرات والمظاهرات على نحو غير مسبوق في شتى أنحاء الأرض، ويصل الأمر إلى تدمير السفارات في كل من دمشق وبيروت، بالإضافة إلى تهديدات وتحرشات في عواصم إسلامية أخرى.

المأزق
من الصعب حقا تدارك الأنباء للكتابة عنها في خضم هذا التطور المتسارع للأحداث، ولست أبالغ في القول بأنه كان من الصعب التنبؤ بوصول الأمر إلى هذه النقطة، حتى من قِبل أولئك المستفيدين من تدهور العلاقات بين العرب والنرويج إلى هذا الحد.
المأزق الكبير هو ذلك الذي وجدت حكومتا النرويج والدانمرك نفسيهما فيه، فالرأي العام هناك لم يوافق في البداية على الاعتذار الرسمي للمسلمين، اعتقادا بأن في ذلك امتهان للكرامة الوطنية، ومع أن الاستبيان لم تجر إعادته فيما بعد، إلا أن الكثير من الأصوات قد بدأت هناك بالمناداة لإخراج البلدين من هذه الأزمة.
بناء على ذلك، فقد وجد رئيس الوزراء الدانمركي نفسه بين فكي كماشة، فهو محاصر من قبل شعبه الرافض للاعتذار حتى الآن والداعي إلى حرية الصحافة بأي شكل كان، ومُطالَب في الوقت نفسه بإخراج بلاده من هذه الأزمة الاقتصادية والدبلوماسية على جناح السرعة.
أما صحيفة (يولاند بوسطن) فقد حاولت المناورة طويلا، إذ كان موقفها شديد التعنت طوال الأشهر الماضية، ولكنها سرعان ما بدأت بالتجاوب إثر استدعاء الحكومة السعودية السفير الدانمركي في الرياض، ثم استدعاء سفيرها الحجيلان في كوبنهاغن، حيث قررت الخروج عن صمتها واضطر رئيس تحريرها (كارستن يوسته) إلى توجيه خطاب بالعربية للمواطنين السعوديين على موقع الصحيفة الإلكتروني، ولكنها فوجئت بأن الأوان قد فات مع استدعاء كل من ليبيا وسورية لسفيريهما، ثم تصاعد حملات الاستنكار والمقاطعة الاقتصادية في كافة أرجاء العالم الإسلامي مما دفعها لتوجيه خطاب آخر إلى المسلمين عامة، ويذكر أن الخطابين لم ينصّا على الاعتذار الصريح، بل اكتفى رئيس التحرير فيهما بالإعراب عن أسفه مع التبرير، ولكن اجتماع وزراء الداخلية العرب في تونس دفعه لتوجيه اعتذار صريح في الثلاثين من يناير الماضي، وهو أمر لم يعد كافيا فيما يبدو مما دفع الوزراء المجتمعين إلى إصدار بيان رسمي في اليوم التالي يطالبون فيه الحكومة الدانمركية بتطبيق أشد العقوبات على المسؤولين عن هذا التصرف الشنيع.
الملفت في الأمر أن رئيس التحرير قد وصف الهدف من نشر تلك الرسوم بقوله: "لم يكن القصد منها النيل من شخص النبي (ص) بتاتاً أو الحط من قيمته، بل كانت مدخلاً للحوار حول حرية التعبير عن الرأي التي نعتز بها في بلادنا"، وهو أمر يصعب فهمه، إذ كيف يمكن النظر إلى اثني عشر رسماً تسخر جميعها من النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتصوره بأقبح الصور على أنها مدخل للحوار حول حرية التعبير؟ ولماذا لم تحمل أي من هذه الرسوم صورة مغايرة لتلك التي أرادت الصحيفة نشرها عمداً، هذا فضلا عن الدافع الموضح سابقاً لنشرها والذي لا يعدو أن يكون رداً فورياً على طلب أئمة الجالية الإسلامية من رئيس الوزراء حث وسائل الإعلام الدانمركية على التخفيف من لهجتها العدائية والتحريضية ضد المسلمين!

الحلول
تفاوتت ردود الفعل الإسلامية بين استنكارات ومظاهرات واحتجاجات دبلوماسية ومقاطعة اقتصادية وحتى إحراق للسفارات، ولعل الرد الأقوى جاء من طهران بعد إعلان الحكومة الإيرانية قطع علاقاتها التجارية مع الدانمرك، الأمر الذي استنكرته دول الاتحاد الأوربي كافة وواجهته بالتهديد، أما الرد الأكثر طرافة فهو إعلان إحدى الصحف الإيرانية عن إجراء مسابقة لأفضل الرسوم الكاريكاتورية التي تتناول أسطورة الهولوكوست مع الإشارة إلى أنها تهدف بذلك إلى قياس درجة حرية التعبير لدى الأوربيين! وهي الدعوى نفسها التي تذرع بها رئيس تحرير (يولاندس بوسطن) في الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أرى أنه رد عملي بالغ الدهاء، وسيؤتي ثماره إذا ما قامت صحف إسلامية أخرى بإعادة نشر تلك الرسوم بعد صدورها مع التذرع بالعذر نفسه! وهذا أفضل بالطبع من التعرض للرموز الغربية بالسخرية، وأكثر إحراجا لهم في اكتشاف مدى قدرتهم على تقبل حرية الرأي.
من جهة أخرى، فإنه من المهم أن نأخذ بعين الاعتبار الطريقة التي يتناول فيها الشعب الدانمركي أمثال هذه القضية، فمن المعروف أن الشعوب الغربية "تدين" بالعلمانية التي تنص على عزل الدين عن الحياة، وأن هذه النزعة تزيد عمقا لدى شعوب الدول الأوربية الشمالية ومنها الدانمرك والنرويج، حيث يُختزل الدين إلى بعض التعاليم المقتصرة على تنظيم الأخلاق إلى جانب كونه حافظا للتراث الثقافي الضارب في القدم، وعليه فلن نفاجأ بموقف الملكة الدانمركية المتحرر من الدين على الرغم من كونها رئيسة الكنيسة الإنجيلية في بلادها، إذ تقول في مذكراتها التي نشرتها العام الماضي: "هناك شيء مدهش بعض الشيء لدى أولئك الذين يشكل الدين كل حياتهم ويشبع حياتهم اليومية من الصباح حتى المساء ومن المهد الى القبر", في إشارة إلى المسلمين الذين خصتهم ببعض النقد الصريح في كتابها، علما بأنها لم تنس أن تشير إلى "وجود مسيحيين هم أيضا كذلك" !
بناء عليه، فإن الشعوب الغربية قد تحررت من "قيود" المقدس الغيبي إثر معاناتها مع الاضطهاد الكنسي الطويل، واستبدلت به تقديس العقل الذي امتد طوال عصور النهضة والأنوار، وهو الذي أفضى إلى تأليه الإنسان - الرجل الأبيض حصراً- بدلا من الإله، ليصل الأمر بها إلى الخروج من عالم الحكايات الكبرى كما يقول عرّابو ما بعد الحداثة بعد أن ذاقت ويلات الحروب، ويصبح الفرد أخيراً هو الوجود بعينه، مختزلا بذلك العالم كله في مصالحه الشخصية.
من هنا يمكن فهم عقيدة هذا الشعب في حرية الرأي التي تصبح أكثر قداسة لديه من الإله نفسه، وهو ما يتضح في تعجبهم من موقف المسلمين الغاضب من هذا التصرف الأحمق، وفي استنكارهم للمقاطعة الاقتصادية التي تعد اعتداء غير مفهوم على رفاهيتهم مقابل تناول ساخر لأحد الرموز الدينية، إذ تجد من المضحك تعجب أحدهم من استنكار المسلمين إزاء تلقيه لسخرية مماثلة لرموز دينية مسيحية بدم بارد، ما دام الأمر لا يخرج عن نطاق حرية الجهة الساخرة في التعبير عن الرأي أولا، ولا يمس شيئا مقدسا لديه ثانيا.
انطلاقا من هذا الفهم لثقافة الآخر يجب أن تبدأ مهمة المسلمين الراغبين في التفاوض، إذ يتطلب الأمر توضيحا مقبولا لمفهوم المقدس قبل كل شيء، وتصحيحا للفكرة المغلوطة حول عقيدة الإسلام التي باتت مرتبطة في أذهان عامة الناس هناك بالعنف وإراقة الدماء، بل ومناقشة عميقة للخلط الواضح بين الأسطورة والدين في الفكر الغربي العلماني، والذي يجعل من الإيمان بالله مجرد مرحلة لاهوتية أكل عليها الزمان وشرب. وعليه فإن ما يناله الإسلام من اعتداءات لا يمكن أن ينظر إليه من زاوية تصدي أهل الباطل لأهل الحقيقة كما كان في عهد النبوة، لأن الإسلام آنذاك كان قد تلبس عقول وقلوب الصحابة حتى ظهرت محاسنه في سلوكهم اليومي وأعطى للعالم مثالا حيا على أصله السماوي، بينما يتحمل مسلمو اليوم المسؤولية الكبرى جرّاء إقصائهم للمفهوم الصحيح للإسلام وقصره على الحامل الثانوي للتراث العربي تحت تأثير الغزو الثقافي الغربي!
من جهة أخرى، فإن سلاح المقاطعة الاقتصادي قد آتى ثماره على نحو غير متوقع، ولعل النقطة الأبرز هنا هي نشوة النصر التي حازها دعاة المقاطعة بعد فشل سابقتها أثناء الانتفاضة بالرغم من ضيق المدة، ولا أستبعد أن يؤدي ذلك إلى تبني هذا السلاح في معارك أخرى قادمة، وأن تكون له تداعيات أخرى إيجابية، إذ ينبغي أن يلفت هذا النجاح اهتمام الاقتصاديين لتحليل ما تم إنجازه على الصعيد الاستراتيجي من اكتفاء المستهلك العربي واستغنائه عن المورد الأجنبي، أو التفاته إلى أسواق أخرى قد تكون أقرب إليه.
هذا التحليل سيضعنا أمام تساؤل جوهري تم تغييبه طويلا حول حاجة السوق العربية أصلا للمنتج الغربي، ولعل في دعوات بعض وسائل الإعلام للإعلان المجاني عن المنتجات العربية البديلة إشارة واضحة لهذا التجاهل غير المبرر، إذ ما الذي يمنع من اكتفاء الدول العربية والإسلامية الذاتي؟ بل ما هي الدوافع المقنعة للتوجه غربا؟ ولنا في التجربة الماليزية أسوة حسنة عندما رفعت شعار التوجه شرقاً، أي نحو اليابان وكوريا وغيرهما من دول آسيا، مما يقلل من التبعية للغرب، ويساعد على تمتين أواصر العلاقات بين الدول المتقاربة ثقافيا.
بناء على ما سبق، فإن المواطن العربي الذي ترسخت في أعماقه هذه الثقافة الاستهلاكية، إلى جانب مفهومه المغلوط عن الإسلام وعدم تمثله عملا وسلوكا، يعد المسئول الأول عن حادثة الاعتداء السافر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما التصحيح المطلوب اليوم لهذا الخطأ، فلا يمكن أن يختزل في حلول سريعة عبر مقاطعة عابرة لبعض السلع، أو من خلال بث رسائل الاحتجاج والاستنكار، أو إحراق السفارات وترسيخ العنف، فمع أن هذه الوسائل قد آتت ثمارها الناجعة كحل عاجل، إلا أننا نخشى عودة كل شيء إلى ما كان عليه كما حدث إبان ثورة الملايين العربية لمساندة الانتفاضة، بل ومنح الغرب فرصة أخرى للتفكير في أسلوب عدائي جديد بعد أن تخمد جذوة هذه الفتنة.
الحل يبدأ من الجذور إذن، ويأخذ بعداً عقائدياً يسعى لتصحيح مفهوم المسلمين لدينهم ولثقافة الآخر، كما يمتد ليشمل ضرورة النهضة الاقتصادية التي أصبحت حاجة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى. ولعل في هذه التجربة درسا عميق الأثر للشعوب العربية التي استكانت طوال عقود للغزو الثقافي الغربي، ومثالا صارخا على مكانة القوة في الحضارة الغربية، حيث تُضفى القدسية على مصالح الغرب قبل أن ترفع رايات حقوق الإنسان والقيم الليبرالية العالمية!
أما سلاح المقاطعة فيجب أن يستمر، بل وأن يتسع ليشمل النرويج أيضا ولا يقتصر على الدانمرك، فبالرغم من أن وزير خارجية النرويج قد سارع للاتصال بسفراء الدول الإسلامية في أوسلو للتعبير عن عدم رضا حكومته بالأمر، إلا أن رئيس الحكومة "يانس ستولنبرغ" رفض في مقال له في صحيفة "داغس أفيسن" الاعتذار مشيدا بحرية التعبير، ومذكرا بأن ليس كل ما ينشر في الصحف يعبر عن موقف الحكومة.
قد يكون هذا الموقف مقبولا في دولة ليبرالية تؤمن بحرية التعبير، وأظن أن المسلمين كانوا سيعذرون رئيس الحكومة لو أنه اقتصر على تحييد موقف حكومته، ولكنهم لم ينسوا بعدُ حملته على رئيسة الحزب الاشتراكي "هالفرسون" وشريكته في الائتلاف الحاكم عندما دعت إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية، مما دفعها إلى تقديم الاعتذار فوراً! ولا ننسى التذكير بأن حزب العمال النرويجي الذي يتزعمه رئيس الحكومة ليس أقل دعماً لإسرائيل من أحزاب اليمين سواء في النرويج نفسها أو في الدانمرك، مما يعني توحيد الموقف السياسي في التعامل مع القضايا الإسلامية والعربية بين اليمين واليسار.
قد يعارض البعض وضع كل من النرويج والدانمرك في سلة واحدة، خصوصا وأن الدانمرك هي التي ابتدأت تلك الحملة وأن المجلة النرويجية التي أعادت نشر الرسوم لا تتمتع بنفس الانتشار الذي تحظى به الصحيفة الدانمركية، ولكني أرى أن هذه هي المرة الأولى التي يلتف فيها المسلمون من شعوب وحكومات لإجبار العالم بأسره على إعادة الاعتبار لهم واحترام وجودهم على هذا الكوكب، وإذا كانت المقاطعة الاقتصادية قد أخضعت أشد الحكومات الأوربية تطرفا (الدانمرك) على الرضوخ للكثير من طلباتهم إلى درجة تقديم الاعتذار الرسمي في صحف الجزائر المحلية، ثم اعتذار مجلة "مغازينا" اليمينية النرويجية، فإن الاستمرار في فرض حريتهم في المقاطعة سيؤدي لا محالة إلى تغيير موازين السياسة الخارجية لهذه الدول، ولا ضير في أن يمتد الأمر إلى المقاطعة الشعبية للسلع النيوزيلندية والألمانية والفرنسية والنمساوية والإيطالية حيث أعيد نشر الرسوم في كل من هذه الدول، وأن تستمر المقاطعة حتى صدور قرار دولي يحرّم التعرض للمقدسات وينص على معاقبة المسؤولين، وعندها فقط يمكن أن يعاد الاعتبار لأكثر من مليار مسلم، تماماً كما هو الحال مع قانون تحريم معاداة السامية الذي تحرص الأمم المتحدة على تطبيقه حرصاً على مشاعر العشرين مليون يهودي! ولعل في أخبار الامتعاض الشعبي الدانمركي خير دليل على تحقيق هذه الأهداف، حيث يتوقع الكثيرون سقوط الحكومة اليمينية قريباً، وذلك على عكس توقعات المتخوفين من ارتفاع أسهم المتطرفين، وكأن العالم قد بات اليوم محكوماً - مع الأسف- بالقوة وحدها!
إزاء ذلك، فإني لا آسف على تحقيق الهدف الذي سعى إليه الصهاينة من منع حدوث أي تقارب بين النرويج والعرب، فقد آن الأوان لنفهم أن النصر لن يأتي من الغرب مهما تعاطف مع قضايانا الإنسانية، وأن التعويل عليه لن يجر علينا إلا المزيد من الاستسلام المخزي، كما أرجو أن يكف أولئك الكتاب العلمانيون المحتكرين لمنابر الإعلام العربية عن هذا النواح، وأن يقنعوا أخيرا بأن حرية الشعوب لم تُحصّل يوماً بمثل هذا الاستجداء.

مراجعات
في ختام هذا المقال، أود أن أشير إلى أن ما يتردد لدى البعض في الشرق والغرب حول عدم منطقية التناول الإسلامي لهذه القضية ليس إلا نتيجة للنظر إليها بعين واحدة، فالثورة الإسلامية الغاضبة ليست لمجرد تناول بضعة رسامين دانمركيين مجهولي الهوية لمقام النبوة بالإهانة، فقد سبقهم إلى ذلك من هو أكثر جرأة ووضاعة، ولكن الغضب العارم الذي عم أرجاء العالم كان بمثابة ردة فعل على التعنت غير المفهوم من قبل الصحيفة نفسها وحكومتها، واستنكارًا لهذا الهجوم الذي لم يسبقه أي مبرر كما يقول الشيخ القرضاوي، بل ولرفض رئيس الوزراء مقابلة السفراء العرب قبل أن تندلع شرارة هذا الغضب العالمي، في إشارة واضحة إلى الاستهانة بأصحاب القضية والاغترار بالنفس، وهو ما يجب تحمل نتائجه بمقتضى العدالة. يقول تعالى: "قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ" (118آل عمران)، ولسنا بحاجة هنا إلى التذكير بموجة السعار التي أصابت الغرب مؤخرا إزاء تصريحات الرئيس الإيراني بعدم صحة أسطورة الهولوكوست، وهي التي حُمّل المسلمون تبعاتها رغماً عنهم بدلاً من الغرب نفسه!
أما المتذرعون بحرية التعبير فهم أقل قدرة على تبرير هذا الموقف، فما هي احتمالات الرد الممكن من قبل المحتجين على تلك الرسوم الساخرة؟ وهل يصح أن يواجه المسلمون أصحاب تلك الرسوم برسوم أخرى تكون بمثابة رد على حرية التعبير وممارسة للحرية نفسها؟
إن حرية التعبير ليست محدودة فقط بحرية الآخرين، وهو ما تنص عليه أولى مفاهيم الليبرالية الغربية، بل ينبغي أن تكون مضبوطة أيضا بضوابط الجدية التي يمكن تناولها من قبل الراغبين في الرد، وهذا ما يفر منه الغرب عادة عند تناولهم رموز الإسلام، إذ يلجؤون إلى الفن والأدب بدلا من المناظرات العلمية الرصينة، حتى إذا ثار المسلمون على أمثال سلمان رشدي وتسليمة نسرين وناشري تلك الرسوم رُفعت في وجوههم لافتات حرية التعبير، وكأنهم مطالبون بمناقشة هذا الهراء بهراء رخيص مثله!

بقي أن نذكر بأن مقام النبوة أعز من أن تناله إساءات الحاقدين، ولنا في السيرة الطاهرة أسوة حسنة: "انظروا كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، إنهم يشتمون مذمَّما ويلعنون مذمما، وأنا محمد!"، على أننا مطالبون هاهنا بأن نخلص نيتنا وننسى حظ نفوسنا من أي ردة فعل نقوم بها، وأن نتيقن أولا من أننا لم نغضب انتصاراً لكرامتنا، بل لمقام النبوة والرسالة، وألا يدفعنا هذا الغضب إلى التغاضي عن تقصيرنا في إيصال رسالة هذا الرسول العظيم إلى العالم أجمع، وأن نتذكر أيضا أن الحاقدين عليه في الغرب ليسوا بكثرة، وإن كانوا كذلك فالجهل يعذرهم، أما نحن فلا عذر لنا في التقصير بعدم تمثل سنته أولا، وفي حمل رسالته الحقة إلى مستحقيها ثانيا.
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز : "لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور" (186 آل عمران).

 

أعظم إنسان

  • اعرف نبيك
  • إلا رسول الله
  • الدفاع عن السنة
  • اقتدي تهتدي
  • حقوق النبي
  • أقوال المنصفين
  • الكتب السماوية
  • نجاوى محمدية
  • دروس من السيرة
  • مقالات منوعة
  • شبهات وردود
  • أصحابه رضي الله عنهم
  • أعظم إنسان