اطبع هذه الصفحة


دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب

أ.د. عبد الفتاح الفاوي


في بلدة من بلاد نجد تسمى (العيينة) ولد محمد بن عبد الوهاب وشب وترعرع وتعلم دروسه الأولى على علماء بلده من الحنابلة، وسافر إلى المدينة ليتم تعليمه، ثم طوف بعد ذلك في كثير من بلاد العالم الإسلامي؛ فأقام نحو أربع سنوات في البصرة وخمسًا في بغداد وسنة في كردستان وسنتين في همذان ثم رحل إلى أصفهان ودرس هناك فلسفة الإشراق والتصوف، ثم رحل إلى "قُمّ"، وأخيرًا عاد إلى بلده وانقطع عن الناس نحوًا من ثمانية أشهر، ثم خرج عليهم بدعوته الجديدة.

ودعوته الجديدة كانت هي (التوحيد) ذلك أنه رأى أثناء إقامته بالحجاز ورحلاته الكثيرة إلى بلاد العالم الإسلامي أن التوحيد قد دخله كثير من الفساد عن طريق قبور الأولياء التي يحج إليها الناس، وتقدم لها النذور، ويعتقد فيها أنها قادرة على النفع والضر، وهي أضرحة لا عد لها ولا حصر، منتشرة في جميع ربوع البلاد الإسلامية، يشد الناس إليها رحالهم، ويتمسحون بها ويتذللون لها، ويطلبون منها جلب الخير لهم ودفع الشر عنهم. ففي كل بلد ولي أو أولياء وفي كل بلدة ضريح أو أضرحة، تشرك مع الله في تصريف الأمور ودفع الأذى وجلب الخير، كأن الله سلطان من سلاطين الدنيا يتقرب إليه بذوي الجاه عنده وأهل الزلفى لديه، وإذا سألتهم عن ذلك أجابوا بما أجاب به المشركون من قبل: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) {الزمر:3} وهؤلاء يقولون ما نتوسل إليهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى أو يقولون: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) {يونس:18}.
وليت الأمر اقتصر عند هؤلاء على الأولياء والأضرحة والقبور، بل تعدى ذلك إلى النبات والجماد يتقربون بها إلى الله، فأهل بلدة بالحجاز والكلام للشيخ محمد بن عبد الوهاب تسمى (منفوحة) يعتقدون في نخلة هناك أن لها قدرة عجيبة: من قصدتها من العوانس تزوجت لعامها. وفي (الدرعية) غار يحج إليه الناس للتبرك، وفي مصر شجرة الحنفي وشجرة مريم وبوابة المتولي يتبرك الناس بها، بل ونعل يسمى نعل الكلشني يعتقدون أن من شرب فيه برئ.
وهكذا في كل قطر حجر أو شجرة يحج إليها ويتبرك بها، وتصد الناس عن الله مما جعل الشيخ يحاربها ويتصدى لها بكل قوة.

وأساس آخر يتصل بهذا التوحيد كان يفكر فيه الشيخ وهو التشريع. ذلك أنه رأى الناس والحكومات يهجرون شرع الله ويحتكمون إلى شرائع وقوانين مدنية ما أنزل الله بها من سلطان، فدعا الإمام إلى الاحتكام إلى شرع الله، وإلى فتح باب الاجتهاد الذي كان قد أغلق وكان إغلاقه كما يقول نكبة على المسلمين إذ أضاع شخصيتهم وقدرتهم على الفهم والحكم وجعلهم جامدين مقلدين.
وهكذا شغل ذهن الشيخ بفكرة التوحيد في العقيدة مجردة من كل شرك، وفكرة التوحيد في التشريع فلا مصدر لها إلا الكتاب والسنة.
على هذا الأساس بنيت دعوة محمد بن عبد الوهاب وعلى هذا الأساس بنيت جزئيات دعوته وفرعياتها.
وقد كان الشيخ متأثرًا في دعوته "بابن تيمية" الذي دعا من قبل إلى عدم زيارة القبور والأضرحة، ودعا إلى هدمها، وألف في ذلك الرسائل الكثيرة. وقد عرف الشيخ ابن تيمية عن طريق قراءته لكتبه، فأعجب به مما دعاه أن يعكف على كتبه ورسائله يكتبها ويدرسها، حتى إنه لتوجد في المتحف البريطاني بعض رسائل لابن تيميه مكتوبة بخط محمد بن عبد الوهاب، فكأن ابن تيمية كان إمامه ومرشده وباعث تفكيره والموحي إليه بالاجتهاد والدعوة إلى الإصلاح.
فقد دعا مثله إلى رفض البدع والتوجه بالعبادة والدعاء إلى الله وحده لا إلى المشايخ والأولياء والأضرحة ولا بواسطة توسل ولا شفاعة، وإن كان لابد من زيارة القبور فللعظة والاعتبار، لا للتوسل والاستشفاع، فالذبح للقبور أو لمن فيها والنذر لها والاستغاثة بها والسجود عندها شرك لا يرضاه الله، وهدم للتوحيد الذي جاء به الإسلام من أساسه.
وهكذا كانت دعوته حربًا على كل ما ابتدع بعد الإسلام الأول من عادات وتقاليد. فلا اجتماع لقراءة مولد، ولا احتفاء بزيارة قبر، ولا خروج للنساء وراء الجنازة ولا إقامة أذكار يغنى فيها ويرقص، ولا محمل يتبرك به ويتمسح. فكل هذا مخالف للإسلام الصحيح ويجب أن يزول ويجب أن نعود إلى الإسلام في بساطته الأولى وطهارته ونقائه ووحدانيته واتصال العبد بربه من غير واسطة ولا شريك.
ولا يصلح الإسلام اليوم إلا بما صلح به أوله فلابد من الحياة الإسلامية الأولى حيث التوحيد الصحيح والعزة الحقة.
ولم ينظر محمد بن عبد الوهاب إلى المدنية الحديثة وموقف المسلمين منها، ولم يتجه في إصلاحه إلى الحياة المادية كما فعل معاصره محمد على باشا وإنما اتجه إلى العقيدة وحدها والروح وحدها. فعنده أن العقيدة والروح هي الأساس وهي القلب إن صلحا صلح كل شيء، وإن فسدا فسد كل شيء.
وحمل الناس على التوحيد الخالص تطلب جهدًا كبيرًا في الإسلام منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ يروي المؤرخون وكتاب السيرة أنه كان لأهل الطائف بناية على "اللات" فلما أسلموا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمها فطلبوا منه أن يترك هدمها شهرًا لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم حتى يدخلوهم الدين فأبى ذلك عليهم وأرسل معهم المغيرة ابن شعبة وأبا سفيان بن حرب وأمرهما بهدمها.
وجاء في الحديث أن العرب كانت لهم في الجاهلية شجرة تسمى "ذات أنواط" كانوا يعلقون بها سلاحهم ويعكفون حولها ويعظمونها فسأل بعض المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط فنهاهم عن ذلك.
وفي عهد عمر وكأنما استشعر أن بعض الناس أخذوا يحنون إلى بعض العادات الجاهلية عندما رآهم يأتون الشجرة التي تمت تحتها بيعة الرضوان فيصلون عندها ويتبركون بها فما كان منه إلا أن أمر بها فقطعت.
كما أنه لما رأى كعب الأحبار يخلع نعله ويلمس برجله الصخرة عند فتح بيت المقدس قال له: ضاهيت والله اليهود يا كعب.
وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك".
ولكن سرعان ما اتخذ المسلمون قبور الصالحين وغير الصالحين مساجد، وكلما مضى الزمن كثرت أصناف التعظيم للقبور والأضرحة.
وظهر الدعاة والمصلحون على توالي العصور يحاولون أن يردوا الناس عن هذا ويرجعونهم إلى التوحيد الخالص. فعل ذلك ابن تيميه وفعل ذلك محمد بن عبد الوهاب.
مصير دعوة ابن عبد الوهاب
هذا هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب وهذه دعوته التي دعا بها. فماذا كان مصيرها؟
لمعرفة مصير دعوة الشيخ ومدى تأثيرها لابد أن نتعرف على حال شبه الجزيرة العربية آنذاك، فلقد كانت شبه الجزيرة العربية عندما بدأ محمد بن عبد الوهاب دعوته أشبه شيء بحالتها في الجاهلية؛ كل قبيلة تسكن موضعًا يرأسها أمير منها. فهذا أمير في الأحساء وهذا أمير في عسير وهؤلاء أمراء في نجد.. إلخ ولا علاقة بين هؤلاء الأمراء إلا علاقة الخصومة غالبًا. كما أن الخصومة بين البدو والحضر قائمة، فمن قدر من البدو على خطف شيء من الحضر فعل ومن قدر من الحضر على التنكيل ببدوي فعل. والطرق غير مأمونة والسلب والنهب على أشدهما، وسلطة الخلافة في الآستانة تكاد تكون سلطة اسمية تكتفي بتعيين الأشراف في مكة وإمدادهم ببعض الجنود.
وقد بدأ محمد بن عبدالوهاب دعوته بدعوة قومه برفق ولين ثم أخذ يدعو أمراء الحجاز وعلماء الأقطار الأخرى حاثا لهم على استنهاض الهمم في مكافحة البدع والرجوع إلى صحيح الإسلام.
وكان أسلوبه الهادئ في دعوته من أهم أسباب نجاحها، كما أن من أسباب نجاحها أيضًا وقوف "آل سعود" معه. ذلك أنه عندما اضطهد في بلده "العيينة" اضطر أن يخرج منها إلى الدرعية مقر آل سعود، وهناك عرض دعوته على أميرها محمد ابن سعود فقبلها وتعاهدا على الدين الصحيح ومحاربة البدع ونشر الدعوة في جميع جزيرة العرب.
ولما مات الأمير ومات الشيخ تعاهد أبناؤهما على أن يسيروا سيرة آبائهم في نصرة الدعوة وظلوا يعملون حتى تغلبوا على مكة والمدينة.
وشعرت الدولة العثمانية بالخطر يهددها بخروج الحجاز من يدها، وهو موطن الحرمين الشريفين اللذين يجعلان لها مركزًا إسلاميًا ممتازًا، تفقد الكثير منه إذا فقدتهما.
فأرسل السلطان محمود إلى محمد علي باشا في مصر أن يسير جيوشه لمقاتلة الوهابيين، وكما أرسلت الجيوش لمقاتلتهم أرسلت الدعاية في جميع الأقطار الإسلامية للنيل منهم ومن دعوتهم وتكفير مبتدعيها، حمل علماء الإسلام عليها حملات منكرة وألفت الكتب الكثيرة في التخويف منها والتشنيع عليها.
اهتم الوهابيون بالناحية الدينية وتقوية العقيدة وبالناحية الخلقية ولذلك حيث اسدوا قلت السرقة والفجور وشرب الخمور وأمن الطريق وما إلى ذلك ولكنهم لم يمسوا الحياة العقلية ولم يعملوا على ترقيتها إلا في دائرة التعليم الديني ولم ينظروا إلى مشكلات المدنية الحاضرة ومطالبها.
فلما تولت حكومة ابن سعود الحاضرة كان لابد أن تواجه هذه الظروف وتقف أمام منطق الحوادث، فاختطت لنفسها طريقًا وسطًا شاقًا وبدأت نشر التعليم المدني إلى جانب التعليم الديني ونظمت الإدارة الحكومية على شيء من النمط الحديث وسمحت للسيارات والطائرات واللاسلكي بدخول البلاد واستعمالها وما إلى ذلك وما أشده عملا. التوفيق بين علماء نجد ومقتضيات الزمن وبين طبائع البلاد ومطالب الحضارة.
ولم تقتصر الدعوة الوهابية على الحجاز والجزيرة العربية بل تعدتها إلى غيرها من الأقطار الإسلامية وكان موسم الحج ميدانًا صالحًا وفرصة سانحة لعرض الدعوة على أكابر الحجاج واستمالتهم إلى قبولها، فإذا عادوا إلى بلادهم دعوا إليها. فترى في "زنجبار" مثلا طائفة كبيرة من المسلمين يعتنقون هذا المذهب ويدعون إلى ترك البدع وعدم التقرب للأولياء.
وقام في الهند زعيم اسمه السيد أحمد حجر سنة 1882 آمن بالدعوة الجديدة ودعا إليها في بلاده فنشر هذه الدعوة في "بنجاب" وأنشأ بها شبه دولة وأخذ سلطانه يمتد حتى حدة شمال الهند وأقام حربًا عوانا على البدع والخرافات.
وكذلك حضر الإمام السنوسي مكة حاجا وشجع الدعوة واعتنقها وعاد إلى الجزائر يبشر بها ويؤسس طريقته الخاصة في بلاد المغرب.
وفي اليمن ظهر أعلم علمائه وإمام أئمته. الإمام الشوكاني المولود سنة 1172 فسار على نفس النهج وإن لم يتلقه عن ابن عبد الوهاب وألف كتابه القيم "نيل الأوطار" وحارب التقليد ودعا إلى الاجتهاد فثارت من أجل ذلك حرب كلامية شعواء بينه وبين علماء زمانه كان أشدها في صنعاء وألف في ذلك رسالة سماها: القول المفيد في حكم التقليد ودعا في قوة إلى عدم زيارة القبور والتوسل بها.

هذا وبالله التوفيق

المصدر: مجلة التوحيد - عدد 22
 

دعاوى المناوئين

  • ترجمة الشيخ
  • حقيقة دعوته
  • ما قيل في الشيخ
  • أثر دعوته
  • كتب ورسائل
  • مؤلفات في دعوته
  • مقالات ورسائل
  • شبهات حول دعوته
  • صوتيات
  • english
  • الرئيسية