اطبع هذه الصفحة


ترجمة الإمام محمد بن عبد الوهاب

احصل على نسخة من الموضوع على ملف وورد

العلامة الشيخ أحمد بن حجر بن محمد آل أبو طامي

 
ولادته ، ونشأته ورحلته لطلب العلم :
ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن على بن محمد بن أحمد بن راشد التميمي سنة1115هجرية الموافق سنة1703م في بلدة العيينة،الواقعة شمال الرياض.ونشأ الشيخ في حجر أبيه عبد الوهاب في تلك البلدة في زمن إمارة عبدا لله بن محمد بن حمد بن مُعمَّر وكان سباقاً في عقله وفي جسمه ، حادّ المزاج ، فقد استظهر القرآن قبل بلوغه العشر ، وبلغ الاحتلام قبل إتمام الإثنتي عشرة سنة .
قال أبوه : رأيته أهلاً للصلاة بالجماعة ، وزوجته في ذاك العام .

طلبه للعلم :
درس على والده الفقه الحنبلي والتفسير والحديث .
وكان في صغره ، مكباً على كتب التفسير والحديث والعقائد .
وكان يعتني بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم رحمهما الله ، ويكثر من مطالعة كتبهما .

رحلاته العلمية :
ثم غادر البلاد قاصداً حج بيت الله الحرام .
وبعد أدائه الفريضة أم المدينة المنورة ، وقصد المسجد النبوي ، وزار إمام المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وصحابته الأبرار المخلصين .

شيوخه بالمدينة المنورة :
وكان فيما إذ ذاك من العلماء العاملين ، والشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف من آل سيف النجدي ، كان رأساً في بلد المجمعة .
فأخذ عنه الشيخ محمد بن عبد الوهاب كثيراً من العلم ، وأحبه الشيخ عبد الله ، وكان به حفياً ، وبذل جهداً كبيراً في تثقيفه وتعليمه. وكان من عوامل توثيق الروابط بينهما وتمكين المحبة توافق أفكاره ومبدئه مع تلميذه في عقيدة التوحيد ، والتألم مما عليه أهل نجد وغيرهم من عقائد باطلة ، وأعمال زائفة .
واستفاد الشيخ من مصاحبته فوائد عظيمة،وأجازه الشيخ عبد الله بالحديث المشهور والمسلسل بالأولية((الراحمون يرحمهم الرحمن)) من طريقين :.
أحدهما : من طريق ابن مفلح عن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وينتهي إلى الإمام أحمد .
والثاني : من طريق عبد الرحمن بن رجب عن العلامة ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ، وينتهي أيضاً إلى الإمام أحمد .
كما أجازه الشيخ بكل ما في ثبت الشيخ عبد الباقي الحنبلي شيخ مشايخ وقته،قراءة وعلماً وتعليماً ،صحيح البخاري بسنده إلى مؤلفه ،وصحيح مسلم وشرح الصحيحين ، وسنن الترمذي والنسائي،وأبي داود،وابن ماجة ومؤلفات الدارمي،وبسنده المتصل إلى المؤلف .
ومسند الإمام الشافعي ، وموطأ الإمام مالك ، ومسند الإمام أحمد ، إلى غير ذلك مما ثبت في ثبت الشيخ عبد الباقي .
ثم وصل الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف حبل الشيخ محمد ، بحبل المحدث الشيخ محمد حياة السندي ، وعرَّفه به وبما هو عليه من عقيدة صافية ، وبما تجيش به نفسه من مقت الأعمال الشائعة في كل مكان من البدع ، والشرك الأكبر والأصغر ، وأنه إنما خرج من نجد للرحلة في طلب العلم ، وسعياً إلى الاستزادة من السلاح الديني القوي ، الذي يعينه على ما هو مصمم عليه من القيام بالدعوة والجهاد في سبيل الله .
وممن أخذ عنهم الشيخ وانتفع بمصاحبته الشيخ على أفندي الداغستاني ، والشيخ إسماعيل العجلوني ، والشيخ عبد اللطيف العفالقي الاحسائي ، الشيخ محمد العفالقي الاحسائي .
وقد أجازه الشيخان الداغستاني والاحسائي بمثل ما أجازه الشيخ عبد الله إبراهيم بما في ثبت أبي المواهب
ثم توجه إلى نجد ، ثم البصرة ، قاصداً الشام ، ليستزيد من العلوم النافعة .

شيوخه بالبصرة :
فأقام مدة بالبصرة ، ودرس العلم فيها على جماعة من العلماء .
فمنهم الشيخ محمد المجموعي ، وقرأ الكثير من النحو اللغة والحديث ، كما كتب كثيراً في تلك الإقامة من المباحث النافعة والكتب القيمة ، ونشر علمه النافع وآراءه القيمة حول موضوع البدع والخرافات ، وإنزال التضرع والحاجات بسكان القبور من عظام نخرة ، وأوصال ممزقة ، وعزز كلامه بالآيات الساطعات ، والبراهين الواضحات .
فقابلوه بالتكذيب والأذى وأخرج من البلاد وقت الهجرة (1) وأنزلوا بعض الأذى بشيخه المجموعي .
فقصد الزبير في وقت الصيف وشدة الرمضاء ، وكان ماشياً على رجليه ، وكاد يهلك من شدة الظمإ .
فساق الله إليه رجلاً من بلد الزبير يسمى أبا حميدان ، فرآه من أهل العلم والصلاح ، فحلمه على حماره ، حتى أوصله إلى بلد الزبير .
وتوجه إلى الشام راجلاً لينهل من مناهل العلماء ، ويتغذى من الثقافات الدينية ، مستزيداً .

عودته إلى نجد :
غير أنه قلت نفقته،فقفل راجعاً،فأتى الإحساء ،فنزل بها عند الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الشافعي ، وقرأ عنده ما شاء الله أن يقرأ .
ثم توجه إلى حريملا ، قرية من نجد ، وذلك لأن والده الشيخ عبد الوهاب قد انتقل إليها .
ولما آب الشيخ من رحلته الطويلة وراء العلم والتحصيل ، لازم أباه ، واشتغل عليه في علم التفسير والحديث وغيرهما .
وعكف على كتب الشيخين : شيخ ابن تيمية ، والعلامة ابن القيم رحمهما الله ، فزادته تلك الكتب القيمة ، علماً ونوراً وبصيرة، ونفخت فيه روح العزيمة .
ورأى الشيخ بثاقب نظره ما نجد وما بالأقطار التي رحل إليها من العقائد الضالة ، والعادات الفاسدة ، فصمم على القيام بالدعوة .

حالة نجد قبل الدعوة من حيث الديانة والسياسة
سبق أن ذكرنا لك أيها القارئ الكريم ، أن الشيخ رحمه الله زار الحجاز والإحساء والبصرة والزبير، وقيل حتى فارس حسبها نقل عن لمع الشهاب ، ليروي ظمأه من مناهل العلوم الدينية ويتفهم أصول الدين وشرائعه القويمة ، ويقف على أحوال أولئك الأقوام وعقائدهم وعلومهم ، بعدما شاهد في نجد – وطنه – ما شاهد من المنكرات الأثيمة والشركيات القبيحة الذميمة القاتلة لمعني الإنسانية .
وكان أيام تحصيله يقرر لسامعيه ومخالطيه ما فهمه من الدين والتوحيد ، ويبين قبائح ما تأتيه العامة وأشباه العامة من أدعياء العلم .
عندما كان في المدينة المنورة يسمع الاستغاثات برسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاءه من دون الله ، فكان مرجل غيظه ينفجر .
فقال للشيخ محمد حياة السندي : ما تقول يا شيخ في هؤلاء ؟
فأجابه على الفور : { إن هؤلاء متبرٌ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون } .
درس أحوال نجد وأهل البلدان التي زارها ، ورأى ما هم فيه من بُعدٍ عن الدين ، ولاسيما نجد .
ماذا رأى ؟
رأى نجداً كما يحدثنا المؤرخون السالفون لنجد ، كابن بشر ، وابن غنام ، والآلوسي والمعاصرون كـ((حافظ وهبة )) وغيره ، مرتعاً للخرافات والعقائد الفاسدة التي تتنافي مع أصول الدين الصحيحة .
فقد كان فيها كثير من القبور تنسب إلى بعض الصحابة .
يحج الناس إليها ويطلبون منها حاجاتهم ، ويستغيثون بها لدافع كروبهم .
فقد كانوا في الجُبيلة ، يؤمون قبر زيد بن الخطاب ، ويتضرعون لديه ، ويسألونه حاجاتهم .
وكذلك في الدرعية ، كان قبر لبعض الصحابة كما يزعمون .
وأغرب من ذلك ، توسلهم في بلد المنفوحة بفحل النخل ، اعتقادهم أن من تؤمّه من العوانس تتزوج .
فكانت من تقصد تقول: (( يا فحل الفحول ، أُريد زوجاً قبل الحول )). وفي الدرعية ، كان غار يقصدونه ، بزعم أنه كان ملجأً لإحدى بنات الأمير التي فرت هاربة من تعذيب بعض الطغاة .
وفي شعب غبيرا ، قبر ضرار بن الأزور ، كانوا يأتون لديه من الشرك والمنكر ما لعل مثله ، لا يتصور .
ورأى في الحجاز ، من تقديس قبور الصحابة وأهل البيت والرسول صلى الله عليه وسلم ، مالا يسوغ إلا مع رب الأرباب .
كما رأى في البصرة والزبير ، وسمع عن العراق والشام ومصر واليمن من الوثنية الجاهلية ما لا يستسيغه العقل ، ولا يقره الشرع .
كما سمع عن العيدروس في (( عدن )) والزيلعي في اليمن الشيء الكثير .
رأى ما رأى ، وسمع ما سمع ، وتحقق .
ووازن تلك الأفعال المنكرة بميزان الوحيين كتاب الله المبين وسيرة الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم وأصحابه المتقين ، فرآهم في بُعدٍ عن منهج الدين وروحه .
رآهم لم يعرفوا لماذا بعث الله الرسل ؟ ولماذا بعث الله محمداً للناس كافة ؟ ورأى أنهم لم يعرفوا حالة الجاهلية ،وما كان فيها من الوثنية الممقوتة ، رآهم غيروا وبدلوا أصول الدين وفروعه ، إلا القليل .
هذه حالتهم في دينهم وعبادتهم .

حالة نجد السياسية :
أما حالتهم السياسية ، فكلما جاء في كتاب (( جزيرة الرب في القرن العشرين )) . رأى أنه ليس هناك قانون ولا شريعة إلا ما قضت به أهواء الأمراء وعمالهم . وكانت نجد متقسمة إلى ولايات عديدة ، يحكم كل واحدة منها أمير ، لا تربطه وجاره أية رابطة .
ومن أهم هؤلاء الأمراء بنو خالد في الإحساء ، وآل معمر في العيينة ، والأشراف في الحجاز .
وعدا هؤلاء ، أمراء لا يعبأ بذكرهم .
وقد كان أولئك الأقوام في حروب دائمة ، لاسيما مع البادية .
وكان الأمير على قدم الاستعداد ، عندما تسنح الفرص ، ليعتدي على جيرانه إذا بدا من هؤلاء الجيران ضعف أو عدم استعداد. انتهى.
هكذا كانت حالة بلاد العرب عند إياب الشيخ من رحلته العلمية .

بدء نهضة الشيخ في الإصلاح الديني :
وبعد أن ثبت لديه وتحقق حالتهم السيئة في دينهم ودنياهم ورأى إقرار العلماء في الحجاز وفي نجد وسائر الأقطار ، على تلك المنكرات والمبتدعات إلا القليل منهم ممن كان لا يتجاسر أن يبوح بمقت ما فعلوا ،وأيقن أنهم قد أدخلوا في أصول الإسلام العليا ما يأباه القرآن، وما تأباه السنة المحكمة . وكان يقوي عقيدته بخطئهم وركونهم إلى البدع ما يقرؤه من الروايات القائلة بأن المسلمين لابد أن يغيروا ، وأن يسلكوا مسالك الذين من قبلهم كالحديث الصحيح (( لتتبعُن سنن من كان قبلكم )) .
وكحديث (( لا تقوم الساعة حتى يعبد فئام من أمتي الأوثان )) .
وحديث (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ )) .
حينئذ صمم الشيخ أن يعالن قومه بأنهم قد ضلوا الطريق السويّ ، وزاغوا عن منهج الصواب .
يقول بعض الكاتبين : حقاً إن المواقف دقيق حرج ، يحتاج إلى شجاعة ماضية ، وإلى إيمان لا يبالي بالإذى في سبيل إرضاء الله وإرضاء الحق الذي اقتنع به ، وسبيل إنقاذ البشرية المعذبة ، كما يحتاج إلى عدة كافية من قوة اللسان ، وإصابة البرهان ، ليواجه ما يجابهه من شبهات واعتراضات ، لابد منها ، ثم إلى مؤازر قوي يحمي ظهره ، ويدافع عن دعوته .

دعوته لقومه :
ابتدأ الشيخ رحمه الله ، دعوته لقومه في بلدة ( حريملا ) وبين لهم أن لا يدعى إلا الله ، ولا يذبح ولا ينذر إلا له ، وأن عقيدتهم في تلك القبور والأحجار والأشجار ، من الاستغاثة بها ، وصرف النذور إليها ، واعتقاد النفع والضر منها ، ضلال وزور ، وبأنهم في حالة لا ترضي ، فلابد من نبذ ذلك .
وعزز كلامه بآي من كتاب الله المجيد وأقوال الرسول وأفعاله ، وسيرة أصحابه .
فوقع بينه وبين الناس نزاع وجدال ، حتى مع والده العالم الجليل ، لأنه كان مغتراً بأقاويل المقلدين السالكين تلك الأفعال المنكرة في قوالب حب الصالحين .
فاستمر الشيخ يجاهد بلسانه وقلمه وإرشاده .
وتبعه أُناس من أهل تلك البلدة ، حتى انتقل أبوه عبد الوهاب إلى جوار رب الأرباب سنة 1153هـ .
والظاهر أن والده اقتنع بأقوال ابنه ومبادئه،كما اقتنع أخوه سليمان بعدما وقع بينه وبينه نزاع وردود (2) .
وبعد وفاة والده ، جاهر قومه بالدعوة والإنكار على عقائدهم الضالة . ودعا إلى متابعة الرسول في الأقوال والأفعال .
وكان في تلك البلدة قبيلتان ، وكل يدعي الزعامة ، وليس هناك من يحكم الجميع ، ويأخذ حق الضعيف ، ويردع السفيه .
وكان لإحدى القبيلتين ، عبيد يأتون بكل منكر وفساد ، ولا يحجمون عن التعدِّي على العباد .
فصمم الشيخ على منعهم وردعهم .
ولما أحسَّ أولئك الأرقاء بما صمم عليه الشيخ ،عزموا أن يفتكوا به خفية فتسوروا عليه من وراء الجدار .
فشعر بهم بعض الناس ، فصاحوا بهم وهربوا .
عندها غادر الشيخ (حريملا ) إلى ( العيينة ) مسقط رأسه ، وموطن آبائه ، وحكامها إذ ذاك عثمان بن حمد بن معمر . فتلقاه بكل إجلال وإكرام ، وبين الشيخ له دعوته الإصلاحية المباركة ، القائمة على دعائم الكتاب والسنة المطهرة وشرح له معني التوحيد ، وأن أعمال الناس اليوم وعقائدهم منافية للتوحيد . وتلا عليه الآيات والأحاديث النبوية ، ورجاله من الله – إن قام بنصر [ لا إله إلا الله ] – أن ينصره الله ويعلي كلمته ، وتكون له السيادة والزعامة على نجد وغيرها ، وله السعادة الأبدية إن شاء الله .
فقبل عثمان ، ورجب بما قال الشيخ ، فعالن الشيخ بالدعوة إلى الله ، ولإفراد العبادة لله ، والتمسك بسنة رسول الله ، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وقطع الشيخ الأشجار المعظمة هناك ، وهدم قبة زيد بن الخطاب ، بمساعدة عثمان الأمير / وأقام الحد على إمرأة اعترفت بالزنا مراراً ، بعد ما تأكد من صحة عقلها وكمال حواسها .
فاشتهر أمر الشيخ ، وذاع صيته في البلدان .
فبلغ خبره ( سليمان بن محمد بن عريعر ) حاكم الإحساء وبني خالد .
فبعث هذا الجاهل الظالم إلى عثمان بن معمر كتاباً جاء فيه : إن المطوع الذي عندك ، قد فعل ما فعل ، وقال ما قال ، فإذا وصلك كتابي فاقتله ، فإن لم تقتله ، قطعنا خراجك الذي عندنا في ((الإحساء )) .
فعظم على عثمان الأمر ، وكبر عليه مخالفة ابن عريعر ، وغاب عن ذهنه عظمة رب العالمين .
وكانت النتيجة من جراء ذلك الكتاب وضعف إيمان ابن معمر أن أمر بإخراج الشيخ من بلده .
ولم يفد فيه وعظ الشيخ ونصحه ، وأنه لابد للداعي والمصلح من أن يناله الأذى ، ولابد أن تكون العاقبة للمتقين .
فخرج الشيخ رحمه الله ،يمشي على رجليه موكلاً به فارس يمشي من خلفه،وليس مع الشيخ إلا المروحة في أشد وقت الحر من الصيف.
فهم الفارس بقتل الشيخ ، وكان بإيعاز من ابن معمر ، فارتعدت يده وكفى الله شره .
وكان الشيخ في مشيه لا يفتر عن ذكر الله ، ويردد قوله تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب}.
ونزل الشيخ بالدرعية وقت العصر سنة 1158 هـ ضيفاً على عبد الرحمن بن سويلم ، وابن عمه أحمد بن سويلم .
وخاف ابن سويلم على نفسه من الأمير محمد بن سعود ، لأنه كان يعلم حالة الناس ، وأنهم لا يقبلون ما أتى به هذا العالم الجليل ، ويقابلون ذلك بالأذى ، ولاسيما من بيده الأمر .
ولكن الشيخ الممتليء إيماناً وثقة بالله ، سكن جأشه ، وأفرغ عليه من العظات وملأه رجاءاً وعدةً بأنه لابد من أن يفرج الله وينصره نصراً مؤزراً .
فعلم به الخواص من أهل الدرعية ، فزاروه خفية ، فشرح لهم معاني التوحيد وما يدعو إليه .
وكان للأمير أخوان مشاري وثنيان وزوجة كانت لبيبة عاقلة .
فبين الأخوان – بعدما نهلا من مناهل الشيخ – لأخيهما الأمير ، أن الشيخ محمداً نازل ضيفاً على ابن سويلم ، وأن هذا الرجل غنيمة ساقه الله إليك ، فاغتنم ما خصك الله به ، ورغبوه في زيارة الشيخ ، فامتثل وزار الشيخ .
فدعاه الشيخ إلى التوحيد ، وأن التوحيد هو ما بعثت من أجله الرسل ، وتلا عليه آيات من الذكر الحكيم ، فيها البيان ببطلان عبادة غير الله ولفت نظره إلى ما عليه أهل نجد من الشرك والجهل والفرقة ، والاختلاف وسفك الدماء ، ونهب العباد .
وبالجملة بين له ضعف دينهم ودنياهم ، وجهلهم بشرائع الإسلام ، ورجاه أن يكون إماماً يجتمع عليه المسلمون ، ويكون له الملك والسيادة ، ومن بعده في ذريته .
عند ذلك شرح الله صدر محمد بن سعود وأحبه ، واقتنع بما دعاه إليه الشيخ ، وبشر الأمير السيخ بالنصرة وبالوقوف معه على من خالفه .
وشرط الأمير على الشيخ شرطين :
الأول : أن لا يرجع الشيخ عنه إن نصرهم الله ومكنهم .
والثاني : أن لا يمنع الأمير من الخراج الذي ضربه على أهل الدرعية وقت الثمار .
فقال الشيخ: أما الأول : الدم بالدم ، والهدم بالهدم .
وأما الثاني : فلعل الله يفتح عليك الفتوحات ، وتنال من الغنائم ما يغنيك عن الخراج .
فبايع الأمير الشيخ على الدعوة إلى الله ، والجهاد في سبيل الله ، والتمسك بسنة رسول الله ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الشعائر الدينية .
وبعد استقراره في الدرعية ، أتى إليه من كان ينتسب إليه ، ومعتنقاً مبادئ دعوته ، من رؤساء المعامرة وغيرهم ، وأخذت الوفود تأتي من كل حدب لما علموا أن الشيخ في دار منعة .
عند ذلك ، سمع عثمان بن معمر الذي أخرج الشيخ من بلده أن محمد بن سعود رحمه الله قد بايع الشيخ ، وأنه ناصره وأهل الدرعية له مؤيدون ، ومعه قائمون ومجاهدون . فندم عثمان على ما سلف منه في حق الشيخ ، فأتي إليه ومعه ثلة من الرجال من رؤساء البلاد وأعيانها ، واعتذر ، وطلب منه الرجوع .
فعلق الشيخ الأمر على رضاء الأمير محمد بن سعود ، فرفض الأمير السماح ورجع عثمان خائباً .
وشدت إلى الشيخ الرحال ، وكثر الوافدون ، ليرتووا من مناهله العذبة الصافية النقية من الخرافات والوثنية .
وكانت الحالة الاقتصادية للأمير والبلاد ، لا تقوي على القيام بمؤن أولئك الوافدين الطالبين .
فكان بعضهم – من شغفه وحبه للعلم – يحترف بالليل بالاجرة ، وفي النهار يحضر الدروس إلى أن وسع الله عليهم وأتي بالفرج واليسر ، بعد الشدة والعسر .
وثابر الشيخ باذلاً جهده ووسعه في إرشاد الناس وتعليمهم ، وبيان معني(لا إله إلا الله)وأنها نفي وإثبات.
فـ(( لا إله )) تنفي جميع المعبودات ، و(( إلا الله )) تثبت العبادة لله . وشرح لهم معني الألوهية بأن الإله : هو الذي تأله القلوب محبة وخوفاً وإجلالاً ورجاءاً .
وعلمهم الأصول الثلاثة .
وبفضل تعاليمه الرشيدة ، تنورت أذهانهم ، وصفت قلوبهم ، وصحت عقائدهم ، وزادت محبة الشيخ في قلوب الوافدين إليه .
ثم أخذ يراسل رؤساء البلدان النجدية وقضاتهم ، ويطلب منهم الطاعة والانقياد ، ونبذ الشرك والعناد .
فمنهم من أطاعه ، ومنهم من عصاه ، واتخذه سخرياً ، واستهزأ به ، ونسبه إلى الجهل وعدم المعرفة .
ومنهم : من نسبه إلى السحر .
ومنهم : من رماه بأمور منكرة ، هو منها بريء ، قاتل الله الجهل والتقليد الأعمى .
ولو كان لأولئك عقل ، لعقلوا أن الجاهل لا يستطيع إقامة الأدلة الصحيحة على مطالبه .
الجاهل لا يستطيع أن يبارز العلماء الأجلاء ببراهين عقلية وحجج سمعية . تقسر السامع على الخضوع .
الساحر لا يأمر بخير ، لا يأمر بمعروف ، ولا ينهي عن منكر .
ولكن لا عجب ، فقد قيل سابقاً للمرسلين ولجميع المصلحين ، مثل هذا الكلام .
واصل الشيخ ليله ونهاره ، في نشر الدعوة والوعظ،وكتابة الرسائل العلمية مكتفياً بهذه الوسيلة السلمية .
والأمير (( محمد بن سعود )) يؤازره حسب مقدرته .
ولكن خصوم الدعوة كانوا يعملون على تأليف القلوب لمحاربة الدعوة بكل الوسائل ، والاعتداء على الداخلين في الدعوة .
فلم ير الشيخ محمد والأمير بداُ من الاستعانة بالسيف بجانب الدعوة الدينية واستمرت الحروب الدينية سنين عديدة .
وكان النصر حليف ابن سعود في أغلب المواقف .
وكانت القرى تسقط واحدة تلو الأخرى بيده .
ودخل البعض في الطاعة بالاختيار والرغبة ، لما عرف حقيقة الأمر .
وإن أردت معرفة عناد القوم وبغيهم وجورهم واعتدائهم ، ونقض بعضهم للعهد مرة بعد مرة ، فاقرأ (( عنوان المجد )) وإن زعماء الدعوة ما كانت خطتهم إلا الدفاع ورفع العقبات عن سبيل الدعوة الخالصة .
وبعد فتح الرياض (3) واتساع ملكهم وانقياد كل صعب لهم ، فوض الشيخ أموال الناس وأموال الغنائم إلى عبد العزيز بن محمد بن سعود الأمير ، وتفرغ الشيخ للعلم وللعبادة وإلقاء الدروس .
وكان محمد وابنه عبد العزيز لا يتصرفان في شيء إلا بعد أن يعلماه ، ليعلمهما الحكم الشرعي ، ولا ينفذان حكماً إلا عن أمره ورأيه.

وما زال الشيخ على هذه الحالة الحسنة والسيرة الطيبة الطاهرة حتى انتقل إلى جوار ربه في ذي القعدة سنة 1206 رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان .

علم الشيخ وصفاته :
كان الشيخ رحمه الله تعالى علماً من الأعلام ، ناصراً للسنة وقامعاً للبدعة ، خبيراً مطلعاً ، إماماً في لتفسير والحديث والفقه وأصوله ، وعلوم الآلة كالنحو والصرف والبيان ، عارفاً بأصول عقائد الإسلام وفروعها ، كشافاً للمشكلات ، حلالاً للمعضلات ، فصيح اللسان ، قوي الحجة ، مقتدراً على إبراز الأدلة وواضح البراهين بأبلغ عبارة وأبينها – تلوح على محياه علامات الصلاح وحسن السير ، وصفاء السريرة ، يحب العباد ويغدق عليهم من كرمه ويصلهم ببره وإحسانه ، ويخلص لله في النصح والإرشاد ، كثير الاشتغال بالذكر والعبادة ، قلما يفتر لسانه من ذكر الله .
وكان يعطي عطاء الواثق بربه ، ويتحمل الدَّين الكثير لضيوفه ومن يسأله . وكان عليه أبهة العظمة ، تنظره الناس بعين الإجلال والتعظيم مع كونه متصفاً بالتواضع واللين ، مع الغني والفقير ، والشريف والوضيع .
وكان يخص طلبة العلم بالمحبة الشديدة ، وينفق عليهم من ماله ، ويرشدهم على حسب استعدادهم .
وكان يجلس كل يوم، عدة مجالس ليلقي دروسه في مختلف العلوم، من توحيد ، وتفسير،وحديث ،وفقه ،وأُصول وسائر العلوم العربية.
وكان عالماً بدقائق التفسير والحديث،وله الخبرة التامة في علله ورجاله، غير ملول ولا كسول من التقرير والتحرير،والتأليف والتدريس.
وكان صبوراً عاقلاً ،حليماً ، لا يستفزه الغضب إلا أن تنتهك حرمة الدين أو تهان شعائر المسلمين ، فحينئذ يناضل بسيفه ولسانه ، معظماً للعلماء ، منوهاً بما لهم من الفضائل ، آمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر ، غير صبور على البدع ، ينكر على فاعليها بلين ورفق، متجنباً الشدة والغضب والعنف ، إلا أن تدعو إليه الحاجة .
ولا غرو إذا اتصف الشيخ بتلك السجايا الحميدة ، والأخلاق الكريمة ، فقد ورث تلك عن آبائه وأسلافه الأبرار ،لأنهم كانوا معروفين بالعلم والفضل والزهد .
فقد كان جده سليمان بن علي عالم نجد في زمانه له اليد الطولي في كثير من الفنون ، فشدت إليه الرحال من أصقاع نجد لتحصيل العلوم .
قال ابن بشر : صنف مصنفات عديدة ، ودرّس وأفتي وأفاد طلاب العلوم من علمه الواسع .
وأبوه الشيخ عبد الوهاب قد كان عالماً كاملاً ، ورعاً ، وزاهداً ،له معرفة تامة في علوم الشريعة وآلاتها .
تولى القضاء في عدة أماكن من نجد ، منها العيينة ، وحريملا ، وله مؤلفات ورسائل مستحسنة ، فرحم الله الجميع رحمة واسعة .

مؤلفات الشيخ :
ألف عدة كتب : منها كتاب التوحيد ، وهو غني بالشهرة عن التعريف به ، كشف الشبهات ، ثلاثة الأصول ، مختصر السيرة النبوية.
مختصر الإنصاف والشرح الكبير في الفقه .
نصيحة المسلمين بأحاديث خاتم المرسلين .
كتاب الكبائر ، آداب المشي إلى الصلاة .
أصول الإيمان .
مختصر زاد المعاد .
مختصر صحيح البخاري .
مسائل الجاهلية .
إستنباط من القرآن ( يقع في جزأين ) .
أحاديث الفتن .
وله رسائل عديدة ، وأكثرها في التوحيد .

أبناء الشيخ وتلامذته :
ذكر في (( عنوان المجد )) أن الشيخ رحمه الله قد أخذ عنه العلم عدة من العلماء الأجلاء ، منهم أبناؤه الأربعة العلماء ، والقضاة الفضلاء ، الذين درسوا العلوم الشرعية والفنون الأدبية كما درسوا الفروع والأصول ، وصارت لهم ملكة في المعقول والمنقول .
حسين ، عبد الله ، علي ، إبراهيم (4) .
وقد كان لكل واحد منهم – قرب بيته – مدرسة ، وعنده من طلاب العلوم من أهل الدرعية والغرباء العدد الكثير ، بحيث قد يعده السامع أنه قد بولغ في العدد . ولا زال العلم في ذرية الشيخ وسيكون – إن شاء الله – باقياً إلى أن تقوم الساعة .
وآل الشيخ في هذا اليوم ، هم القائمون في المملكة العربية السعودية بالوظائف الدينية ، من الإفتاء ، والتدريس ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ورئاسة المعاهد والكليات ، وحل المشاكل ، والدفاع عن حوزة الدين ، ونصر شريعة سيد المرسلين فجزاهم الله أحسن الجزاء ، ووفقنا وإياهم لما يحبه ويرضاه .
وأما التلامذة والطلاب الذين نهلوا من منهل الشيخ ، وتخرجوا على يده ، وصاروا قضاة ومفتين ، فلا تحصيهم الأقلام . ولا بأس أن نذكر عدداً قليلاً فمنهم الشيخ العالم الجليل حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر والد مؤلف منحة القريب (5) .
والشيخ الزاهد الورع عبد العزيز بن عبد الله الحصين الناصري ، تولى القضاء إذ ذاك في ناحية الوشم .
والشيخ الفاضل العالم العامل سعيد بن حجي ، قاضي حوطة بني تميم .
والعالم الجليل الشيخ عبد الرحمن بن نامي ، تولى القضاء ببلد (( العيينة )) والاحساء .
والشيخ المفضال أحمد بن راشد العريني ، القاضي في ناحية (( سدير )) .
والشيخ عبد العزيز أبو حسين .
والشيخ حسن بن عيدان ، وكان قاضياً في بلد حريملاء .
والشيخ عبد العزيز بن سويلم ، وكان قاضياً في بلد (( القصيم )) .
ومن ذرية الشيخ حسن وأشهر الموجودين من نسله في عصرنا الحاضر ، الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن وهو الآن مفتي المملكة العربية السعودية وإليه مرجع الهيئات الدينية .
وأخوه الشيخ عبد اللطيف رئيس المعاهد الدينية والكليات ، والشيخ عبد الملك رئيس هيئات الأمر بالمعروف بمكة المكرمة ، كما أن من أشهر الموجودين من نسل الشيخ حسين بن محمد ، الشيخ عمر بن حسن،رئيس هيئة الأمر بالمعروف بـ(( نجد))والمنطقة الشرقية.

-----------------
[1] - الهجيره
[2] - راجع (( صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان )) ص: 461: الطبعة الثالثة رسالة الشيخ سليمان بن عبد الوهاب إلى أحمد بن محمد التويجري ، وأحمد ومحمد ابني عثمان بن شبانة ، كيف نصحهم بأن يقوموا مع الحق ، أكثر من قيامهم مع الباطل وصرح فيها بأن الشرك أعظم ما نهى الله عنه : وانظر جواب أولئك الثلاثة للشيخ سليمان بن عبد الوهاب ص461برجوعهم عما كانوا عليه .
[3] - تم فتح الرياض سنة 1187 : على يد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود بعد أن خرج دهام بن دواس هارباً من الرياض . وكان هروبه بعد أن اعتدى المرات العديدة على أئمة الدعوة ونقض العهد أكثر من مرة : وكانت العاقبة للمتقين وجند الله الموحدين . وفي سنة 1179توفي الإمام محمد بن سعود وبويع على الإمامة ابنه عبد العزيز وفي سنة 1215 غزا سعود بن عبد العزيز بأمر والده العراق وأوقع خسائر هائلة بأهل كربلا ، وهدم قبة قبر الحسين وفي سنة 1218في شهر رجب قتل الإمام عبد العزيز رجل شيعي جاء من العراق ، متنكراً كدرويش وأظهر التنسك والطاعة وتعلم شيئاً من القرآن ، فأكرمه عبد العزيز وأعطاه وأخذ يتعلم أمور الدين ولكنه كان رافضياً خبيثاً فوثب على الإمام من الصف الثالث والناس في السجود فطعنه بخنجر معه انتقاماً منه وقضى الإمام نحبه من جراء ذلك وبويع سعود بن عبد العزيز على الإمامة .  
[4] - وأما ابنه الخامس وهو حسن فالظاهر أنه لم يكن من طلبة العلم الأجلاء وقد أخبرني بعض آل الشيخ أن حسن والد الشيخ عبد الرحمن بن حسن مات شاباً ولم يكن ممن اشتغل كثيراً بالعلم ، بل بالتجارة والأعمال الدنيوية .
[5] - منحة القريب ، في الرد على عباد الصليب ألفه الشيخ العلامة عبد العزيز ابن الشيخ أحمد المذكور وهو اذاك .
 

المصدر كتاب : الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه
 

دعاوى المناوئين

  • ترجمة الشيخ
  • حقيقة دعوته
  • ما قيل في الشيخ
  • أثر دعوته
  • كتب ورسائل
  • مؤلفات في دعوته
  • مقالات ورسائل
  • شبهات حول دعوته
  • صوتيات
  • english
  • الرئيسية