اطبع هذه الصفحة


دعوى مخالفته للصحابة في جواز البناء على القبور

د. عبد الله بن صالح بن عبد العزيز الغصن

 
المبحث الرابع
دعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور ومناقشتها

 

المطلب الأول
دعوى مخالفة ابن تيمية الصحابة في قولهم بجواز بناء المساجد على القبور

يرى المناوئون لابن تيمية رحمه الله أن البناء على القبور، وتشييدها، وجعل الستور عليها، وبناء المساجد عليها كله من الدين، وأن بناء المساجد على القبور سنة رائجة في صدر الإسلام(229) ؛ وأن عبارات العلماء قد تضافرت على بيان جواز البناء على القبور فكأنه إجماع عملي منهم (230).
ويرون - بعد ذلك - أن ابن تيمية رحمه الله هو مؤسس القول بحرمة بناء المساجد على القبور(231) ، زاعمين أن من شبهة ابن تيمية رحمه الله كما يذكر السبكي (ت - 756هـ) ، أن اتخاذ القبور مساجد - مطلقاً - من أصول الشرك، وقد رد السبكي (ت - 756هـ) على ابن تيمية رحمه الله هذا الإطلاق، مبيناً أن الشرك هو العكوف على القبور وتصوير الصور فيها(232) ، إذ يرى المناوئون أن تكريم أصحاب القور من صميم التوحيد (233).
وذكروا أن الذي أشكل على ابن تيمية رحمه الله هو حديث أبي الهيّاج الأسدي(234) ، وهو قوله: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)(235)، فيقولون: إن هذا لا يدل على وجوب هدم البناء على القبور،وأن استدلال ابن تيمية به على تحريم البناء على القبور ليس بصحيح(236) .
وحديث أبي الهياج رضي الله عنه قد أجابوا عنه بضعف في السند(237).
وبحثوا عن علة النهي عن البناء على القبور، ثم أتوا بعلل واهية، وأجابوا عنها بأجوبة - رأوا أنهم - ردوا فيها على ابن تيمية رحمه الله:
فذكروا أن العلة قد تكون للنهي عن البناء بما مسته النار كالجبس، والطوب الآجر وغيره، فأجابوا بأن هذا خاص ببناء القبر نفسه، لا بما يبنى عليه أو حوله.
وذكروا أن العلة قد تكون لخوف تداعي القبر، وأجابوا بأن الإجراءات إذا اتخذت لتقوية القبر، فإن العلة تزول.
وذكروا أن العلة قد تكون من خوف المباهاة والتفاخر، وأجابوا بأن المباهاة انفعال شخصي يحاسب المرء عليه، ولا علاقة له بتحقق المصلحة العامة.
وذكروا أن العلة قد تكون من أجل التشبه بغير المسلمين، وأجابوا بأن إيجاد أي فارق بالبناء، فإن العلة تنتفي(238) .
وذكروا أن النهي في الحديث إنما هو للتنزيه، وليس للتحريم، أو أن معنى التسوية: هو التعديل إن كان القبر مسنماً، أو هدم الشرف إن كان مشرفاً فقط(239) .


المطلب الثاني
مــنــاقــشــة الــدعــوى

يقرر ابن تيمية رحمه الله أن تعظيم القبور من أعظم أسباب الشرك، وهو ذريعة وطريق موصلة إلى تعظيم المقبورين من دون الله فيمن كان قبلنا، فقد قال الله عزّ وجل عن قوم نوح: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً} [نوح: 23 - 24] .
قال ابن عباس(240) رضي الله عنهما: (كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح لما ماتوا عكفوا على قبورهم، فطال عليهم الأمد، فصوروا تماثيلهم ثم عبدوهم) (241).
قال ابن تيمية رحمه الله: (وقد كان أصل عبادة الأوثان من تعظيم القبور)(242) ، ولذلك كان هذا التعظيم للقبور من دين المشركين، ومن عمل أهل الكتاب، وقد أمرنا بمخالفة أهل الكتاب والمشركين أصحاب الجحيم(243) .
إن المأمور به في شريعة الإسلام هو عمارة المساجد لا بناء المشاهد على القبور، لكن الذين يعظمون القبور: يعمرون المشاهد، ويعطلون المساجد مضاهاة للمشركين، ومخالفة للمؤمنين، وقد قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف: 29] .
ولم يقل عند كل مشهد.
وقال تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [التوبة: 17 - 18] .
ولم يقل: إنما يعمر مشاهد القبور، بل عمار المشاهد يخشون بها غير الله، ويرجون غير الله.
وقال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: 18] ، ولم يقل: وأن المشاهد لله.
وقال - سبحانه -: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ } [النور: 36 - 37] .
قال ابن تيمية رحمه الله: (علم بالنقل المتواتر، بل علم بالاضطرار من دين الإسلام أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شرع لأمته عمارة المساجد بالصلوات، والاجتماع للصلوات الخمس، ولصلاة الجمعة والعيدين، وغير ذلك، وأنه لم يشرع لأمته أن يبنوا على قبر نبي ولا رجل صالح لا من أهل البيت ولا من غيرهم لا مسجداً ولا مشهداً، ولم يكن على عهده صلّى الله عليه وسلّم مشهد مبني على قبر...)(244) .
وأما جعل بناء المساجد على القبور من الدين فهذا ليس بصحيح، وهي دعوى تحتاج إلى دليل بل هي مناقضة للدليل، وكل الأدلة القرآنية والأدلة من أقوال المصطفى صلّى الله عليه وسلّم تخالف القول بجواز البناء على القبور، والصلاة إليها، بل الأدلة تحذر من هذا الفعل أشد التحذير، وحكم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على الأدلة التي تنهى عن اتخاذ القبور مساجد بالتواتر، فحين ذكر المحدثات من الأمور في تعظيم القبور قال: (منها: الصلاة عند القبور مطلقاً، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، فقد تواترت النصوص عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه)(245) .
ومما ورد في النهي عن ذلك: ما رواه جندب بن عبد الله(246) رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لا تخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد. إني أنهاكم عن ذلك»(247) .
وعن عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنه قالت: (لما نُزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(248) .
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(249) ، وفي رواية لمسلم (ت - 261هـ) : «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(250) .
وعن عبد الله بن مسعود(251) رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن من أشرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد»(252) .
ولما ذكرت أم سلمة(253) الكنيسة بأرض الحبشة، وذكرت ما فيها من التصاوير قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة»(254) .
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(255) .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها»(256) .
ومن هذه الأحاديث يرد ابن تيمية رحمه الله على من جعل من الدين اتخاذ القبور مساجد، فهل من الدين أن يذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم عمل الأمم السابقة، ويحذر منه، وينهى عنه.
وهل من الدين أن يذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم لعن الله لمن اتخذ القبور مساجد، أو الدعاء بمقاتلة الله لمن فعل ذلك، أو الحكم عليهم بأنهم من شرار الناس، وشرار الخلق عند الله، ثم النهي عن اتخاذ القبور مساجد، والنهي عن الصلاة إليها.
قال رحمه الله: (وأما القبور فقد ورد نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن اتخاذها مساجد، ولعن من يفعل ذلك)(257) .
وأما دعوى مخالفة ابن تيمية رحمه الله إجماع الصحابة، فهذا باطل من أوجه عدة:
الأول: أن الصحابة - رضوان الله عليهم - لا يقول واحد منهم، فضلاً عن حكاية إجماعهم بمخالفة الدين، ولا تقديم قولهم على قول الله ورسوله، أو أن يكون لهم الخيرة في أمرٍ قضاه الله ورسوله، وقد تقدم بيان تواتر الأحاديث التي تنهى عن اتخاذ القبور مساجد، ومن عظيم النهي عن هذا الأمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل التحذير منه وصية مودع تأكيداً لتحذيره لهم في حال حياته، ولذا كثرت الأحاديث التي حذر النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها عن اتخاذ القبور مساجد في مرض موته.
الثاني: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يشرع بناء المساجد على القبور، ولا وضع المشاهد، ولم يكن ذلك في عهد الصحابة - رضوان الله عليهم -.
قال رحمه الله: (المشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين من العامة، ومن أهل البيت كلها من البدع المحدثة المحرمة في دين الإسلام)(258) .
وقال رحمه الله: (لم يكن على عهده صلّى الله عليه وسلّم في الإسلام مشهد مبني على قبر، وكذلك على عهد خلفائه الراشدين، وأصحابه الثلاثة، وعلي بن أبي طالب ومعاوية، لم يكن على عهدهم مشهد مبني لا على قبر نبي ولا غيره)(259) .
الثالث: أن الأنبياء والصالحين لا يقرون أحداً على الشرك مع قدرتهم على نهيه، فهم في حياتهم ينكرون ما هو أقل من الشرك من المنكرات، وإنكارهم للشرك في حياتهم بهم أو بغيرهم من باب أولى، وقد بينوا لأممهم أنهم يصلى خلفهم في حياتهم، ولا يجوز أن يصلى خلفهم بعد مماتهم.
قال ابن تيمية رحمه الله: (الصلاة خلف أحدهم من أفضل العبادات في حال حياتهم، وبعد مماتهم: لا يجوز أن يصلى خلف قبورهم، ولا أن تتخذ قبورهم مساجد، ولا تستقبل في الصلاة) (260).
الرابع : حرص الصحابة على حماية التوحيد، وسد جميع ذرائع الشرك، والبعد عنها اتباعاً للرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن الدين أصله متابعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وموافقته بفعل ما أمرنا به، وشرعه لنا، وسنه لنا، ونقتدي به في أفعاله التي شرع لنا الاقتداء به فيها.
أما الفعل الذي لم يشرعه لنا، ولا أمرنا به، ولا فعله فعلاً سن لنا أن نتأسى به فيه، فهذا ليس من العبادات والقرب، فاتخاذ هذا قربة مخالفة له صلّى الله عليه وسلّم، فالدين مبني على أصلين: أن لا نعبد إلا الله، وأن نعبده بما شرع لنا في كتابه، وبما شرعه رسوله صلّى الله عليه وسلّم في سنته لا بالبدع.
وما وجد في زمن الصحابة في البلاد المفتوحة من المشاهد فإنهم يزيلونها ويسوونها في الحال من غير تأخير(261) .
الخامس : عدم وجود مشاهد، وبناء على القبور في عهد الصحابة - رضوان الله عليهم - ولا في زمن التابعين، ولا في عهد بني أمية، وبني العباس، وإنما ظهر ذلك وكثر بعد ذلك، لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب، وكان بها زنادقة كفار مقصودهم تبديل دين الإسلام، فبنوا المشاهد المكذوبة، وصنف أهل الفرية الأحاديث في زيارة المشاهد، والصلاة عندها، والدعاء عندها، فصار الزنادقة والمبتدعة المتبعون لهم يعظمون المشاهد، ويهينون المساجد(262) .
قال ابن تيمية رحمه الله :(ولهذا قال علماؤنا: لا يجوز بناء المسجد على القبور)(263) .
السادس : أن الإجماع المزعوم من الصحابة على اتخاذ القبور مساجد مردود على قائله، بإجماعهم رضي الله عنهم على عدم جواز بناء المساجد على القبور، وهو متفق مع نصوص الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة مربوط بموافقته النصوص، لا بمخالفته كل نصوص الكتاب والسنة.
وحين رد ابن تيمية رحمه الله قول القائل بتحديد مكان قبر نوح - عليه الصلاة والسلام - قال بعد ذلك: (ولو كان قبر نبي، أو رجل صالح لم يشرع أن يبنى عليه مسجد بإجماع المسلمين، وبسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المستفيضة عنه)(264) .
السابع : أن القائل بإجماع الصحابة على جواز بناء المساجد على القبور مطالب بتصديق دعواه، وذلك بأن يذكر أقوال الصحابة، أو أغلبهم، لإثبات هذا الإجماع المخالف لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأنى له أن يجد قولاً واحداً.
الثامن : أن رواية أحاديث المصطفى صلّى الله عليه وسلّم التي تنهى عن البناء على القبور، وجعل القبور مساجد، حتى بلغت حد التواتر، والتحديث بها في جيل الصحابة، ثم نقلها إلى جيل التابعين، ومن بعدهم، ولم ينقل لهم معارض أو مخالف، أو متردد في نقل الحديث، وتبليغ هذا الحكم للناس، لهو دليل واضح وكافٍ في أن الإجماع في عصر الصحابة على خلاف ما ذكره المبتدعة، وأهل تعظيم القبور.
التاسع : أن النقول عن الصحابة والتابعين متوافرة على موافقة سنة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
فقد رأى ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما فسطاطاً (265) على قبر عبد الرحمن(266) فقال: (انزِعه يا غلام، فإنما يظله عمله) (267).
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه أنه أوصى أن لا يضربوا على قبره فسطاطاً (268).
وعن محمد بن كعب(269) قال: (هذه الفساطيط على القبور محدثة)(270) .
وعن عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها أنها قالت بعد روايتها حديث (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) قالت: (فلولا ذاك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) (271).
وعن أنس (ت - 93هـ) رضي الله عنه قال: (كنت أصلي قريباً من قبر، فرآني عمر بن الخطاب فقال: القبر القبر)(272) .
العاشر : أن من جاء بعد الجيل الأول من الأئمة، كان على ما كان عليه سلفهم من الاتباع والتأسي بحبيبهم، وقدوتهم محمد صلّى الله عليه وسلّم.
فقال محمد بن الحسن الشيباني(273) رحمه الله: (لا نرى أن يزاد على ما خرج من القبر، ونكره أن يجصص، أو يطين، أو يجعل عنده مسجداً، أو علماً، أو يكتب عليه)(274) .
وقال الإمام الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله: (وأكره أن يبنى على القبر مسجد، وأن يسوى، أو يصلى عليه وهو غير مسوى، أو يصلى إليه) (275) .
وقال ابن عبد البر(276) رحمه الله: (يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد) (277).
وقال ابن قدامة (ت - 620هـ) رحمه الله: (ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور)(278)
حتى من جاء بعد ابن تيمية رحمه الله من مناوئيه، فضلاً عن مؤيديه ممن يعتقد معتقد السلف، قالوا بحرمة اتخاذ المساجد على القبور، فيرى ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) أن اتخاذ القبور مساجد من الكبائر، وعدها الكبيرة الحادية والعشرين بعد المائة (279).
وبعد هذا العرض لأقوال الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأقوال الصحابة والتابعين، وأقوال طائفة من علماء الأمة: هل يبقى شيء من الشك في أن ابن تيمية رحمه الله لم يقل إلا بقول الصحابة والتابعين، وسلف الأمة، وأن المخالف لإجماع الصحابة في حرمة بناء المساجد على القبور إنما هم المناوئون أنفسُهم، ولكن أكثرهم لا يعلمون.
إن الصلاة إلى القبور واتخاذها مساجد لها ثلاث حالات:
الحالة الأولى : أن يتوجه المصلي، وينوي هذه الصلاة لصاحب القبر، فيسجد له من دون الله، ويدعوه من دون الله، ويخافه ويرجوه من دون الله فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، وقد قال تعالى: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الزمر: 65] .
وقال - سبحانه -: { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72] ، فالعبادة يجب أن تكون خالصة لله عزّ وجل ليس لأحد فيها نصيب غيره، كما قال عزّ وجل: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء } [البينة: 5] .
الحالة الثانية : أن لا تكون الصلاة لصاحب القبر، لكن قصد المكان، إنما هو للتبرك بهذه البقعة - أي القبر - فهذا بدعة، وعده شيخ الإسلام رحمه الله محادة لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، كما قال:
(إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء والصالحين، متبركاً بالصلاة في تلك البقعة: فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله) (280).
الحالة الثالثة : أن يصلي عند القبر اتفاقاً لا لقصد شيء: لا لعبادة صاحب القبر ودعائه من دون الله، ولا التبرك بصاحب القبر، وهذا محرم ولا يجوز، لما فيه من التشبه بالمشركين والوسيلة إلى الشرك.
قال ابن تيمية رحمه الله: (ليس لأحد أن يصلي في المساجد التي بنيت على القبور، ولو لم يقصد الصلاة عندها، فلا يقبل ذلك لا اتفاقاً ولا ابتغاء، لما في ذلك من التشبه بالمشركين، والذريعة إلى الشرك)(281) .
وقال رحمه الله: (المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين لا تجوز الصلاة فيها)(282)
وقد رد رحمه الله على من ظن من الفقهاء أن تحريم الصلاة عند القبور، لكونه مظنة النجاسة، لاختلاط تربتها بصديد الموتى، ولحومهم.
وذكر أن بعضهم يفرق بين المقبرة الجديدة والقديمة، وبين أن يكون بينه وبين التراب حائل، أو لا يكون، وقال: (التعليل بهذا ليس مذكوراً في الحديث، ولم يدل عليه الحديث لا نصاً ولا ظاهراً، وإنما هي علة ظنوها) (283).
وذكر أن السبب هو التشبه بالمشركين واليهود والنصارى، ومظنة اتخاذها أوثاناً، كما نقل عن الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله قوله: (كره - والله تعالى أعلم - أن يعظم أحد من المسلمين يعني يتخذ قبره مسجداً، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعده)(284) .
فالنهي عن الصلاة إلى القبور لأجل أمرين:
الأمر الأول : النهي عن التشبه بالمشركين، وقد قال ابن تيمية رحمه الله: (ونهى أن يستقبل الرجل القبر في الصلاة حتى لا يتشبه بالمشركين الذين يسجدون للقبور)(285) .
الأمر الثاني : سد ذريعة الشرك، قال رحمه الله: (والسبب الذي من أجله نهي عن الصلاة في المقبرة في أصح قولي العلماء هو سد ذريعة الشرك، كما نهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها)(286) .
أما الرسول صلّى الله عليه وسلّم فإنه دفن في بيته، ولم يدفن في المسجد، كما أن مسجده صلّى الله عليه وسلّم لم يبن على قبره.
والبيت بما فيه القبر أدخل في المسجد، ولم يكن في المدينة أحد من الصحابة، فأدخله الوليد بن عبد الملك(287) ، وقد كان يحب عمارة المساجد، فأمر عامله على المدينة عمر بن عبد العزيز(288) رحمه الله أن يشتري حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من ملاكها ورثة أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأما جابر بن عبد الله رضي الله عنه فقد توفي سنة (78هـ) أي قبل تولي الوليد بن عبد الملك (ت - 96هـ) بثمان سنوات، إذ تولى الخلافة عام (86هـ).
إن قبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن أن يباشر بالعبادة له من دون الله، وذلك استجابة من الله عزّ وجل دعاء رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن لا يجعل قبره وثناً يعبد، ولذلك قال ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله:
ولقد نهانا أن نصير قبره *** عيداً حذار الشرك بالرحمن
ودعا بأن لا يجعل القبر الذي *** قد ضمه وثنًا من الأوثان
فأجاب رب العالمين دعاءه *** وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه *** في عزة وحماية وصيان
ولقد غدا عند الوفاة مصرحاً *** باللعن يصرخ فيهم بأذان
وعنى الأُلى جعلوا القبور مساجداً *** وهم اليهود وعابدوا الصلبان
والله لولا ذاك أبرز قبره *** لكنهم حجبوه بالحيطان
قصدوا إلى تسنيم حجرته ليمتنع *** السجود له على الأذقان(289)
ومما قاله ابن تيمية رحمه الله في ذلك: (كان النبي صلّى الله عليه وسلّم لما مات دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها، وكانت هي وحجر نسائه في شرقي المسجد وقبليه، لم يكن شيء من ذلك داخلاً في المسجد، واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة) (290).
وقال رحمه الله: (لما أدخلت الحجرة في مسجده المفضل في خلافة الوليد بن عبد الملك بنوا عليها حائطاً وسنموه، وحرفوه لئلا يصل أحد إلى قبره الكريم صلّى الله عليه وسلّم) (291).
وأما حديث أبي الهياج الأسدي، فلا شك في ثبوته، فكل ما ورد في صحيح مسلم رحمه الله فهو صحيح، والمغالطة في صحة أحاديثه، مخالفة للقطعيات، وخرق لما عليه إجماع الأمة من تلقيه بالقبول، واتباع غير سبيل المؤمنين.
قال مسلم (ت - 261هـ) رحمه الله عن كتابه الصحيح: (لو أن أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديث، فمدارهم على هذا المسند) (292).
وقال ابن الصلاح (293) رحمه الله: (جميع ما حكم مسلم بصحته من هذا الكتاب فهو مقطوع بصحته، والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر...؛ وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول، سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع) (294).
وحين تحدث السخاوي (295) رحمه الله عن المفاضلة بين الصحيحين قال بعد ذلك: (وبالجملة فكتاباهما أصح كتب الحديث) (296).
وأما معنى الحديث فيذكره ابن تيمية رحمه الله بقوله: (أمره بمحو التمثالين: الصورة الممثلة على صورة الميت، والتمثال الشاخص المشرف فوق قبره، فإن الشرك يحصل بهذا وبهذا) (297).
وأما علة النهي عن البناء على القبور: فهو سد ذريعة الشرك، ولذلك استدل ابن تيمية رحمه الله بهذا الحديث حين قال:
(ولما كان هذا مبدأ الشرك في النصارى، وفي القبور، سدّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ذريعة الشرك) (298).
وقد ذكر رحمه الله أن تعظيم القبور عند من يعظمها من المنتسبين إلى الإسلام، ولم ينقد إلى شرع الله فيها، أدى بهم إلى الشرك بالله عزّ وجل فبعضهم يعتقد أن زيارة شيخه مرة أفضل من عشر حجج، ومنهم من إذا سافر إلى مكان يضاف إلى نبي يُحرم إذا ذهب إليه كما يحرم الحاج، ومنهم من يستقبل قبر شيخه إذا صلى، ويستدبر الكعبة، ويقول: هذه قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة، وهذه الحالات موجودة عند كثير من أعيان العباد والزهاد.
وأما غير هؤلاء فمنهم من يصلي إلى القبر، ومنهم من يسجد له، ومنهم من يسجد من باب المكان المبني على القبر، ومنهم من يستغني بالسجود لصاحب القبر عن الصلوات الخمس.
ومنهم من يطلب من الميت ما يطلب من الله، فيقول: اغفر لي، وارزقني، وانصرني إلى أمثال هذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله (299).
ولورود النهي الصريح من الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعدم اتخاذ القبور مساجد، وعدم البناء عليها؛ فإن شيخ الإسلام رحمه الله ينقاد إلى هذه الأحاديث طائعاً متبعاً ليقول بحرمة بناء هذه المساجد المبنية على القبور فمن قوله: (المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين لا تجوز الصلاة فيها، وبناؤها محرم) (300)، وقد استدل بنهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن اتخاد المساجد على القبور بقوله: «فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» (301).
وقال رحمه الله: (لا يجوز اتخاذ القبور مساجد، سواء كان ذلك ببناء المسجد عليها، أو بقصد الصلاة عندها) (302).
ولأن المسجد المبني على القبر قد قام أساسه على غير طاعة الله عزّ وجل، وعلى معصية الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإنه يتعين إزالته وهدمه، حتى تسد ذريعة الشرك، وحتى لا يتشبه الناس بالمشركين، وحتى لا يغرر الجهلة به، أو المارة فيصلون فيه وهم لا يشعرون بوجود قبر بداخله، إضافة إلى امتثال أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونهيه عن اتخاذ القبور مساجد.
قال ابن تيمية رحمه الله: (هذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، والملوك وغيرهم: يتعين إزالتها بهدم أو بغيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين) (303).
وقال: (قال العلماء: يحرم بناء المساجد على القبور، ويجب هدم كل مسجد بني على قبر) (304).

 

( نقلا عن كتاب " دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية " للدكتور عبدالله الغصن - وفقه الله ، طبع دار ابن الجوزي بالدمام ، ومن أراد الهوامش فعليه بالكتاب .. ).
 

دعاوى المناوئين

  • ترجمة ابن تيمية
  • دعوى المناوئين
  • مواضيع متفرقة
  • كتب ابن تيمية
  • الصفحة الرئيسية