اطبع هذه الصفحة


دعوى تخطئة شيخ الإسلام للصحابة رضي الله عنهم

د. عبد الله بن صالح بن عبد العزيز الغصن

 
المبحث الأول
عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة

الصاحب : مشتق من الصحبة، وهو اسم فاعل من صحب يصحب، والجمع: أصحاب، وأصاحيب، وصحب، وصحاب، وصحبة، وصحبان، وأما لفظ الصحابة فهو في الأصل مصدر ثم صارت جمعاً مفرده صاحب، ولم يجمع فاعل على فَعَالة إلا هذا.
ومعاني الصحبة في اللغة تدور حول: الملازمة، والانقياد (1).
وأما تعريف الصحابي اصطلاحاً: فأصح التعريفات: تعريف المحدثين (2)، وقد اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً.
ومن ذلك قول ابن المديني (ت - 234هـ) رحمه الله: (من صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم) (3).
ومن ذلك قول الإمام البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله: (من صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه) (4).
وأصح التعريفات عند المحدثين هو حد الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) قال رحمه الله: (الصحابي من لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤمناً به ومات على الإسلام) (5).
ويشرح التعريف، ويذكر محترزاته بأنه يدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه، أو لم يرو عنه، ومن غزا معه، أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ومن لم يره لعارض كالعمى (6).
ويخرج بقيد الإيمان من لقيه كافراً ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى.
ويخرج بلفظة (به): من لقيه مؤمنا بغيره، كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة.
وأما ورقة بن نوفل فقد لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمن به بعد بعثته، فلا يصح أن يمثل به على أنه مؤمن بغير النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنه مات على ذلك.
وأما اشتراط الموت على الإسلام: فيخرج به من لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤمنا به ثم ارتد ومات على ردته والعياذ بالله، كعبد الله بن جحش، وربيعة بن أمية الجمحي، وابن خطل (7).
وأما من آمن بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ثم ارتد ثم آمن ولقيه في حياته فهذا صحابي اتفاقاً كعبد الله بن سعد بن أبي السرح (8)، وإن عاد من ردته إلى الإسلام في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يره، أو بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم كقرة بن هبيرة (9)، والأشعث بن قيس (10)، فهو صحابي على الصحيح (11).
وتعرف صحبة الصحابي بأحد أمور أربعة: إما بالتواتر على أنه صحابي كأبي بكر (ت - 13هـ) وعمر (ت - 23هـ) وبقية العشرة.
وإما بالاستفاضة والشهرة: وهذه منزلة أقل من الأولى.
وإما أن يثبت أحد الصحابة لآخر الصحبة، فتثبت له بشهادة صحابي آخر.
وإما بإخباره عن نفسه بأنه صحابي. إذا كان ثابت العدالة والمعاصرة، فالصحابة كلهم عدول، ولذا قال الحافظ العراقي (12) في ألفيته:
وتعرف الصحبة باشتهار أو *** تواتر أو قول صاحب ولو
قد ادعاها وهو عدل قبلا *** وهم عدول وقيل لا من دخلا (13)
وقد أثنى الله عزّ وجل على الصحابة الكرام، فتارة يثنى على السابقين منهم، وتارة يثني على الذين جاهدوا مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتارة يثني عليهم بمجموعهم.
قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] .
وقال - سبحانه -: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117] .
وقال: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 29] .
وقال عزّ وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] .
وقال: { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [الحديد: 10] .
ومن فضلهم في السنة ما حدث به أبو سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه - عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: قال: «يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: فيكم من صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟، فيقولون: نعم فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟، فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم» (14).
وقال عليه الصلاة والسلام: «خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» (15).
وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يدخل النار - إن شاء الله - من أصحاب الشجرة أحد» (16).
وأما ذكر فضل الصحابة في كلام السلف فكثير أذكر منه أمثلة: كقول الإمام الشافعي (ت - 204هـ) رحمه الله: (قد أثنى الله - تبارك وتعالى - على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الفضائل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله، وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين أدوا إلينا سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عاماً وخاصاً، وعزماً وإرشاداً، وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل، وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا...) (17).
وقال ابن أبي حاتم (ت - 327هـ) رحمه الله: (أما أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله - عز وجل - لصحبة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ونصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقه، فرضيهم له صحابة، وجعلهم لنا أعلاماً وقدوة: فحفظوا عنه صلّى الله عليه وسلّم ما بلغهم عن الله - عز وجل - وما سن وشرع، وحكم وقضى، وندب وأمر، ونهى وحظر وأدب، ووعوه وأتقنوه، ففقهوا في الدين، وعلموا أمر الله ونهية، ومراده بمعاينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقفهم منه، واستنباطهم عنه، فشرفهم الله - عز وجل - بما من عليهم، وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة، فنفى عنهم الشك والكذب، والغلط والريبة والغمز) (18).
وقال ابن أبي زيد القيرواني (19): (وأن خير القرون الذين رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وآمنوا به، ثم الذين يلونهم) (20).
وبعد إثبات فضل الصحابة - رضوان الله عليهم - على غيرهم، تبقى مسألة وهي: هل الصحابة يتفاضلون فيما بينهم، أم أنهم في منزلة سواء؟.
الصحيح: أن الصحابة - رضوان الله عليهم - يتفاضلون بينهم كغيرهم من سائر الخليقة، وأنهم ليسوا على درجة واحدة (21).
ودليل هذا التفاضل ما ثبت في كتاب الله عزّ وجل من التفريق بين الصحابة الذين آمنوا قبل الفتح، وبين الصحابة الذين آمنوا بعدهم، فأثبت أن الأوائل أعظم درجة عند الله، وإن كانوا جميعاً لهم فضل وأجر الصحبة، كما قال عزّ وجل: { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [الحديد: 10] .
وأفضل الصحابة على الإطلاق أبو بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه ثم عمر الفاروق (ت - 23هـ) رضي الله عنه ثم عثمان بن عفان (ت - 35هـ) رضي الله عنه ثم علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه وترتيبهم في الفضل هو ترتيبهم في الخلافة على قول جمهور الصحابة، والمخالف للجمهور يرى أفضلية علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه على عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه لا أحقيته بالخلافة؛ لأن ترتيب الخلافة مما لا يعلم فيه مخالف من أهل السنة والجماعة.
ومما يدل على أفضلية أبي بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه ما جاء عن أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس وقال: «إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله» ، قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خير فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن من أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي، لا تخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ إلا بابُ أبي بكر» (22).
وأما أفضلية عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه فيدل عليها قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «رأيتني دخلت الجنة، فإذا بالرميصاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خشفة (23) فقلت من هذا؟ فقال: هذا بلال (24)، ورأيت قصراً بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك» ، فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار (25).
وعن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون (26)، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر» (27).
وأما أدلة تفضيل عثمان بن عفان (ت - 35هـ) رضي الله عنه فكثيرة منها: ما رواه عبد الله بن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما قال: (كنا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نفاضل بينهم) (28).
وعن أبي موسى الأشعري (ت - 42هـ) رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم حائطاً، وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن، فقال: «ائذن له وبشره بالجنة» ، فإذا أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: «ائذن له وبشره بالجنة » فإذا عمر، ثم جاء آخر يستأذن، فسكت هنيهة ثم قال: «ائذن له وبشره بالجنة على بلوى ستصيبه» فإذا عثمان بن عفان) (29).
وأما فضائل علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه فكثيرة، ومما ورد في فضله من أحاديث: قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر: «لأعطين الراية رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» (30).
وقال له صلّى الله عليه وسلّم: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» (31).
وقد تواترت النصوص عن أئمة أهل السنة والجماعة في بيان أفضلية الخلفاء الأربعة على غيرهم من الصحابة، وأن ترتيبهم في الفضل هو ترتيبهم في الخلافة، وقد جعلوا ذلك ديناً يدينون الله به، وجزءاً من معتقدهم، فأثبتوه في عقائدهم، ولعلي أستشهد ببعض قولهم للتمثيل على هذه القاعدة المهمة في معتقد أهل السنة في الصحابة الكرام:
فقد قال الطبري (ت - 310هـ) رحمه الله: (أفضل أصحابه صلّى الله عليه وسلّم الصديق أبو بكر رضي الله عنه، ثم الفاروق - بعده - عمر، ثم ذو النورين عثمان بن عفان، ثم أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب - رضوان الله عليهم أجمعين -) (32).
وقال الإسماعيلي (ت - 371هـ) رحمه الله: (ويثبتون خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باختيار الصحابة إياه، ثم خلافة عمر بعد أبي بكر رضي الله عنه باستخلاف أبي بكر إياه.
ثم خلافة عثمان رضي الله عنه باجتماع أهل الشورى وسائر المسلمين عليه عن أمر عمر، ثم خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ببيعته من بايع من البدريين عمار بن ياسر (33)، وسهل بن حنيف (34)، ومن تبعهما من سائر الصحابة، مع سابقته وفضله) (35).
وقال ابن أبي زمنين (ت - 399هـ) رحمه الله: (ومن قول أهل السنة أن أفضل هذه الأمة بعد نبينا صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر وعمر، وأفضل الناس بعدهما عثمان وعلي) (36).
وقال الصابوني (ت - 449هـ) رحمه الله: (ويشهدون ويعتقدون أن أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأنهم الخلفاء الراشدون) (37).
وقال الحافظ عبد الغني المقدسي (ت - 600هـ) رحمه الله: (ونعتقد أن خير هذه الأمة، وأفضلها بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صاحبه الأخص، وأخوه في الإسلام، ورفيقه في الهجرة والغار: أبو بكر الصديق، ووزيره في حياته، وخليفته بعد وفاته عبد الله بن عثمان بن عتيق بن أبي قحافة، ثم بعده الفاروق، أبو حفص عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام، وأظهر الدين، ثم بعده ذو النورين أبو عبد الله عثمان بن عفان الذي جمع القرآن، وأظهر العدل والإحسان، ثم ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وختنه علي بن أبي طالب - رضوان الله عليهم أجمعين - فهؤلاء الخلفاء الراشدون، والأئمة المهديون) (38).
وأخيراً أذكر قول ابن قدامة (ت - 620هـ) رحمه الله : (وأصحابه خير أصحاب الأنبياء - عليهم السلام -، وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى - رضي الله عنهم أجمعين -) (39).

وقد اختلف أهل العلم في عدد طبقات الصحابة وأيها أفضل (40)؟، والصحيح أنهم على اثنتي عشرة طبقة وهم:
الطبقة الأولى : من أسلم بمكة متقدماً كالخلفاء الراشدين وغيرهم رضي الله عنهم -.
الطبقة الثانية : أصحاب دار الندوة.
الطبقة الثالثة : الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة.
الطبقة الرابعة : الذين بايعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عند العقبة الأولى، يقال: فلان عَقَبي.
الطبقة الخامسة : أصحاب العقبة الثانية وأكثرهم من الأنصار.
الطبقة السادسة : أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بقباء، قبل أن يدخلوا المدينة ويبنى المسجد.
الطبقة السابعة : أهل بدر، الذين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم: «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (41).
الطبقة الثامنة : المهاجرة الذين هاجروا بين بدر والحديبية.
الطبقة التاسعة : أهل بيعة الرضوان الذين أنزل الله تعالى فيهم: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [الفتح: 18] .
الطبقة العاشرة : المهاجرة بين الحديبية والفتح كخالد بن الوليد (42)، وعمرو بن العاص (43) وغيرهما.
الطبقة الحادية عشرة : الذين أسلموا يوم الفتح، وهم جماعة من قريش.
الطبقة الثانية عشرة : صبيان وأطفال رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الفتح، وفي حجة الوداع وغيرها، وعدادهم في الصحابة (44).
ونشهد لمن شهد له الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالجنة، كالخلفاء الأربعة الراشدين، وبقية العشرة المبشرين بالجنة، وهم طلحة بن عبيد الله (45)، والزبير بن العوام (46)، وسعد بن أبي وقاص (47)، وسعيد بن زيد (48)، وعبد الرحمن بن عوف (49)، وأبو عبيدة بن الجراح (50)رضوان الله عليهم أجمعين -.
وقد شهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لغير العشرة مثل ثابت بن قيس بن شماس (51)،
وعبد الله بن سلام (52)، وغيرهما كثير من الصحابة من الرجال والنساء (53).
وفي الجملة فإن معتقد أهل السنة في هذا، ما ذكره الحافظ عبد الغني المقدسي (ت - 600هـ) رحمه الله قوله: (كل من شهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة شهدنا له، ولا نشهد لأحد غيرهم، بل نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء، ونكل علم الخلق إلى خالقهم) (54).
وهكذا قال ابن قدامة (ت - 620هـ) رحمه الله بعد أن ذكر العشرة المبشرين بالجنة (55).
ومن الإيمان بصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وجوب محبتهم، ودوام الدعاء لهم، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار» (56).
وقال عليه الصلاة والسلام في الأنصار: «لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» (57).
قال ابن أبي زمنين (ت - 399هـ) رحمه الله: (ومن قول أهل السنة أن يعتقد المرء المحبة لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن ينشر محاسنهم وفضائلهم) (58).
وقال الصابوني (ت - 449هـ) رحمه الله: (من أحبهم وتولاهم ودعا لهم، ورعى حقهم، وعرف فضلهم فاز في الفائزين) (59).
وقال ابن قدامة (ت - 620هـ) رحمه الله: (ومن السنة تولي أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومحبتهم، وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم) (60).
ومن الإيمان والسنة: الإيمان والإقرار بعد التهم: وعدالة الصحابة ثابتة بالكتاب العزيز، والسنة المطهرة، وإجماع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
قال الله عزّ وجل: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143] ، ومعنى وسطا: أي عدولاً، كما قال: { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } [القلم: 28] ، أي اعدلهم. ويشهد لذلك قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من شهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلّغ، ويكون الرسول عليكم شهيداً»، فذلك قوله جل ذكره: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143] ، والوسط العدل) (61).
وقال صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع للصحابة: «.. ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب » (62)، وهذا فيه دلالة على عدالة الصحابة، كما قال ابن حبان (ت - 354هـ) رحمه الله: (وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب» أعظم دليل على أن الصحابة كلهم عدول ليس فيهم مجروح ولا ضعيف، إذ لو كان فيهم أحد غير عدل لاستثنى في قوله صلّى الله عليه وسلّم وقال: ألا ليبلغ فلان منكم الغائب، فلما أجملهم في الذكر بالأمر بتبليغ من بعدهم دل ذلك على أنهم كلهم عدول، وكفى بمن عدله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شرفاً) (63).
وأما الإجماع على عدالة الصحابة فقد حكاه غير واحد من أهل العلم:
فقد قال ابن عبد البر (ت - 463هـ) رحمه الله: (ونحن وإن كان الصحابة رضي الله عنهم قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول) (64).
وقال ابن الصلاح (ت - 642هـ) رحمه الله: (للصحابة بأسرهم خصيصة وهي أنه لا يُسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة، وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة) (65).
ثم قال: (إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحساناً للظن بهم، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر، فكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك؛ لكونهم نقلة الشريعة، والله أعلم) (66).
وهكذا قال ابن حجر العسقلاني (ت - 852هـ) ، والسخاوي (ت - 902هـ) - رحمهما الله - (67)، وغيرهما.
ومن السنة والإيمان بصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عدم سبهم وتنقصهم، والتعرض لأعراضهم بسوء وقدح، وعدم الخوض فيما وقع بين الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين -.
يقول الله عزّ وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] .
وهم داخلون من باب أولى في الوعيد العام على من آذى المؤمنين، وفي النهي عن الغيبة، في قول الله عزّ وجل: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً } [الأحزاب: 58] ، وقال سبحانه: { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } [الحجرات: 12] .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه» (68).
وقال عليه الصلاة والسلام: «دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسى بيده لو أنفقتم مثل أحد ذهباً، أو مثل الجبال ذهباً لما بلغتم أعمالهم» (69).
وقال عليه الصلاة والسلام: «من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (70).
وهم داخلون في الوعيد العام على سباب المسلمين، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (71).
وسأورد نماذج من كلام السلف، وأهل العلم يبين تحريم سب الصحابة، ووجوب الإمساك عما شجر بينهم، وإن كان فيها شيء من الطول والكثرة، وذلك لكي يتضح منها منهج أهل السنة والجماعة في الموقف مما شجر بين الصحابة - رضوان الله عليهم -، وليتقرر إطباق علماء الأمة المعتبرين قاطبة على وجوب حفظ اللسان تجاه الصحابة، وأن لا يذكروا إلا بخير:
فقال عمر بن عبد العزيز (ت - 101هـ) رحمه الله: (تلك دماء طهر الله يدي منها، أفلا أطهر منها لساني، مثل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها) (72).
وقال الإمام مالك (ت - 179هـ) رحمه الله: (من يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ قول الله سبحانه وتعالى: { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى قوله: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } [الحشر: 7 - 10] ، وذكر بين يديه رجل ينتقص أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرأ مالك هذه الآية: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ } إلى قوله: { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } [الفتح: 29] ، ثم قال: من أصبح من الناس في قلبه غل على أحد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد أصابته الآية) (73).
وسئل الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله: ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية؟ قال: (ما أقول فيهم إلا الحسنى) (74).
وقال البربهاري (ت - 329هـ) رحمه الله: (اعلم أنه من تناول أحداً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاعلم أنه إنما أراد محمداً صلّى الله عليه وسلّم، وقد آذاه في قبره)(75) .
وقال ابن أبي زيد القيرواني (ت - 386هـ) رحمه الله: (وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر، والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم المخارج، ويظن بهم أحسن المذاهب)(76) .
وقال الصابوني (ت - 449هـ) رحمه الله: (من أبغضهم وسبهم، ونسبهم إلى ما تنسبهم الروافض والخوارج - لعنهم الله - فقد هلك في الهالكين.. ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم، ونقصاً فيهم) (77).
وقد انتقد ابن الصلاح (ت - 642هـ) رحمه الله ابن عبد البر (ت - 463هـ) رحمه الله إيراده ما شجر بين الصحابة، فحين أثنى على كتابه (الاستيعاب) قال بعد ذلك: (لولا ما شانه به من إيراده كثيراً مما شجر بين الصحابة)(78) .
وقال الإمام الذهبي (ت - 748هـ) رحمه الله: (تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين -، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا: فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه، لتصفو القلوب، وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة، وآحاد العلماء)(79) .
ثم جعل شروطاً لجواز الاطلاع على هذه الأمور، والبحث فيها بقوله: (وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوةً: للعالم المنصف، العري من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم، كما علمنا الله - تعالى - حيث يقول { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا } [الحشر: 10] ، فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع منهم، وجهاد محّاء، وعبادة ممحصة)(80) .
ومن الإيمان بالصحابة: الإقرار بمنزلة أهل بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفيهم أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وأن لهم مكانة خاصة بحكم قربهم منه صلّى الله عليه وسلّم(81) .
ومما ورد فيهم في كتاب الله قوله عزّ وجل: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [الأحزاب: 6] ، وقال سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] ، وقال عزّ وجل: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً * يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً * يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [الأحزاب: 28 - 32] .
ومن السنة قول المصطفى الكريم صلوات ربي وسلامه عليه حين قام خطيباً: «أما بعد: ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» ثم قال: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»(82) .
وقد أمرنا بالصلاة عليهم في كل صلاة، وصيغتها ما ذكره الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد»(83) .
وقد كان أبو بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه أعرف الناس بمنزلة أهل بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فقد حث على إرضائهم، والقرب منهم، وعدم إيذائهم وسبهم بقوله: (ارقبوا محمداً صلّى الله عليه وسلّم في أهل بيته)(84) .
وقوله: (والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحب إلي أن أصل من قرابتي) (85).
وفضائلهم كثيرة متعددة: سواء كان الفضل العام لهم جميعاً، أو فضائلهم بأشخاصهم وأعيانهم مما لا يتسع المقام لذكره (86).
 

المبحث الثاني
دعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهم
الأئمة الخلفاء الأربعة، ومناقشتها

المطلب الأول
دعوى تخطئة شيخ الإسلام الصحابة بما فيهم الأئمة الخلفاء الأربعة

يرى المناوئون لابن تيمية رحمه الله: أن ابن تيمية رحمه الله يبغض الصحابة جميعاً بما فيهم الخلفاء الراشدون الأربعة وإن كان يستتر - أحياناً - بحبهم ويتظاهر بذلك.
فيقولون: إن قلمه لم يسلم منه حتى الصحابة(87) .
ويقولون إنه (اشتهر عنه تخطئة الناس جميعاً، حتى إمامه أحمد بن حنبل، بل الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي)(88) .
ويرى الحصني (ت - 829هـ) أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يبغض الشيخين (89).
ويقول: (مع أن كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم، والإشارة إلى الازدراء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، والشيخين، وتكفير عبد الله بن عباس رضي الله عنه(90) وأنه من الملحدين..)(91).
وقال: (رمز إلى تكفير الصديق..)(92) .
ويرون أن ابن تيمية يرى أنا أبا بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه (أسلم شيخاً يدري ما يقول)(93) .
وأما عن موقفه من عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه فإنهم يرون أنه يرمز إلى عدم الاعتداد بقوله (94).
وأما عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه فكان يحب المال، وأما علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه فأسلم صبياً، والصبي لا يصح إسلامه على قول(95) .


المطلب الثاني
مــنــاقــشــة الــدعــوى

يعتقد ابن تيمية رحمه الله في صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عقيدة أهل السنة والجماعة فيهم، ولا عجب في ذلك؛ إذ هو أحد أبرز شُرّاح معتقد السلف فيعتقد رحمه الله وجوب الثناء على الصحابة - رضوان الله عليهم - بثناء القرآن الكريم والسنة النبوية عليهم، كما قال الله تعالى: { ُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } [الفتح: 29] ، وقال تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 18] .
وقال عزّ وجل { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10] ، وقال سبحانه: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] .
وأما الأحاديث فيذكر ابن تيمية رحمه الله أنها مستفيضة بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم، وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون(96) كحديث: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ، وحديث: «لا تسبوا أصحابي ...»(97) ، فالقدح فيهم قدح في القرآن والسنة (98).
وحين ذكر ابن تيمية رحمه الله قول الله عزّ وجل: { هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } [الأنفال: 62 - 63] . قال: (وإنما أيده في حياته بالصحابة) (99).
وحين ذكر قول الله عزّ وجل: { وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33 - 35] . قال: (والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن القرآن حق: هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به بعد الأنبياء)(100).
وحين ذكر قول الله عزّ وجل: { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] . قال: (محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه هم المصطفون من المصطفين من عباد الله)(101) .
ويعتقد ابن تيمية رحمه الله محبة الصحابة، وتوليهم، كما قال في لاميته:
حب الصحابة كلهم لي مذهب *** ومودة القربى بها أتوسل(102)
وقال: (أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الأديان يتولون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته، ويعرفون حقوق الصحابة، وحقوق القرابة كما أمر الله بذلك ورسوله)(103) .
وقد حكى رحمه الله اتفاق أهل السنة والجماعة على رعاية حقوق الصحابة والقرابة (104).
وقد أثنى رحمه الله على السابقين الأولين الذين منهم الخلفاء الأربعة، وبين أن الله أخبر أنه رضي عنهم، وأنه علم ما في قلوبهم، وأنه أثابهم فتحاً قريباً لقول الله عزّ وجل: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}[الفتح: 18 - 19] .
وبين رحمه الله منزلة السابقين الأولين بقوله: (لم يكن في المسلمين من يتقدم عليهم بل كان المسلمون كلهم يعرفون فضلهم عليهم، لأن الله تعالى بيّن فضلهم في القرآن بقوله: { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [الحديد: 10] ، ففضل المنفقين المقاتلين قبل الفتح)(105) .
وذكر أن قول الله عزّ وجل: { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } [الفتح: 4] ، نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين المقاتلين بعده(106) .
وقال بعد ذلك: (ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله - تعالى -: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ } [التوبة: 100] ، وهم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم)(107) .
وأما موقف ابن تيمية رحمه الله من سب الصحابة فيعتقد أنه حرام بالكتاب والسنة:
فمن الكتاب قول الله عزّ وجل: { وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} [الحجرات: 12] ، وأدنى أحوال الساب أن يكون مغتاباً، وقال عزّ وجل: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [الأحزاب: 58] ، والصحابة خيار المؤمنين، ولم يكتسبوا ما يوجب أذاهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى - رضي عنهم - رضىً مطلقاً، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً، وكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة، وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح، فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له، فلو علم أنه يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك(108) ، كما في قوله تعالى: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي } [الفجر: 27 - 30] .
واستدل رحمه الله من السنة بأحاديث منها: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» (109).
وحديث: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار »(110) ، وغيرها من الأحاديث (111).
ويقسم ابن تيمية رحمه الله أنواع سب الصحابة وأحكامه تقسيماً جيداً: فمن اقترن بسبه دعوى أن عليا إله، أو أنه كان هو النبي فهذا لا شك في كفره.
ومن سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم فهذا يستحق التأديب والتعزير، ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك.
وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا نفراً قليلاً فهذا لا ريب في كفره.
وأما من لعن وقبّح مطلقاً فهذا محل الخلاف فيهم، لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد(112) ، واللعن أشد من السب وقارنه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقتل كما قال: «لعن المؤمن كقتله»(113).

وأما موقف ابن تيمية رحمه الله مما ورد في مساوئ الصحابة ومثالبهم فيمكن أن يفهم من مجموع كلامه أنه وضع قواعد ثابتة وسار عليها، ومن هذه القواعد:
القاعدة الأولى : أن ما يُذكر من المطاعن والمثالب على الصحابة نوعان:
الأول : منها ما هو كذب: إما كذب كله، وإما محرَّف قد دخله من الزيادة والنقصان والتغيير ما يخرجه إلى الذم والطعن، وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذابون المعروفون بالكذب مثل أبي مخنف لوط بن يحيى(114) ، وهشام بن محمد بن السائب الكلبي(115) ، وأمثالهما من الكذابين.
الثاني : ومنها ما هو صدق، وهذا قليل، ولهم معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوباً، وتجعلها من موارد الاجتهاد، التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب، وقد أجاد شيخ الإسلام رحمه الله في بيان الاعتذار لهم بكلام نفيس أجتزئ منه قوله عنهم: (لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم...
ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه.. ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر، مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة والنصرة، والعلم النافع والعمل الصالح..)(116) .
القاعدة الثانية : أن الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، والكلام في الصحابة من باب أولى، فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقا، لا يباح قط بحال، قال تعالى: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ} [المائدة: 8] .
وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحق من عدل عليهم في القول والعمل، والعدل مما اتفق أهل الأرض على محبته ومدحه، والله أرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط كما في قوله: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [الحديد: 25] .
وقال: { اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } [الشورى: 17] ، وقال: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } [النساء: 58] .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (والمقصود هنا أنه إذا وجب فيما شجر بين عموم المؤمنين أن لا يتكلم إلا بعلم وعدل، ويرد ذلك إلى الله والرسول، فذاك في أمر الصحابة أظهر)(117).
القاعدة الثالثة : الإمساك عما شجر بين الصحابة، وعدم الخوض فيه، وهذا هو منهج السلف - رضوان الله عليهم - كما تقدم بيانه. ولابن تيمية رحمه الله كلام نفيس في توضيح هذه القاعدة، وبيان لوازم الخوض فيما شجر بين الصحابة فهو يوقع في قلوب الخائضين ومن تلقى عنهم ذلك بغض الصحابة الكرام، ويتضمن أذية هؤلاء المتشاجرين، فيقول مبتدئاً توضيح المسألة بكلام عام: (إذا تشاجر مسلمان في قضية، ومضت، ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلاماً بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة) (118).
ثم قال: (لكن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - أعظم حرمة، وأجل قدرا، وأنزه أعراضا، وقد ثبت في فضائلهم خصوصاً وعموماً ما لم يثبت لغيرهم، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثماً من الكلام في غيرهم)(119) .
وقال: (المختار الإمساك عما شجر بين الصحابة، والاستغفار للطائفتين جميعاً وموالاتهم) (120).
وقال رحمه الله بعد ذكره أقوال الناس فيما حصل بين الصحابة: (... الرابع: الإمساك عما شجر بينهم مطلقاً.. وهو مذهب أهل السنة والجماعة)(121) .
وقال رحمه الله: (ولهذا كان من مذاهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم، وما وقع: منه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان، ومنه ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفوراً، فالخوض فيما شجر يوقع في نفوس كثير من الناس بغضاً وذمّا، ويكون هو في ذلك مخطئاً بل عاصياً، فيضر نفسه، ومن خاض معه في ذلك.. ولهذا كان الإمساك طريقة أفاضل السلف)(122) .
وبهذا بتبين موقفه رحمه الله من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكرام، فيعتقد محبتهم، وعدم سبهم، وعدم الخوض فيما شجر بينهم، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة؛ وسط بين طرفين. وهدى بين ضلالتين، فهم وسط في باب صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الغلو في محبتهم أو بعضهم، وبين التفريط في بغضهم أو بعضهم.
يقول رحمه الله في تقرير وسطية أهل السنة: (هم وسط في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الغالي في بعضهم الذي يقول بإلهيةٍ، أو نبوةٍ، أو عصمةٍ، والجافي فيهم: الذي يكفر بعضهم، أو يفسقه، وهم خيار الأمة)(123) .
وأما عن ادعاء المناوئين لابن تيمية رحمه الله أنه يبغض الشيخين، وأنه ينتقص من منزلة الخلفاء الأربعة فهذا غير صحيح، بل لا يوجد له نص واحد ينتقص فيه الصحابة - رضوان الله عليهم - فضلاً عن الخلفاء الأربعة، الذين يعتقد أنهم خيار الأمة، فبعد أن ذكر أن أفضل الأمم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن أفضل الأمة: القرن الأول، وأن أفضل القرن الأول: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، قال: (وأفضل السابقين الأولين: الخلفاء الأربعة، وأفضلهم أبو بكر، ثم عمر، وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الأمة، وجماهيرها)(124) .
ويبين أن مرتبتهم في الفضل كمرتبتهم في الخلافة، فقال ابن تيمية رحمه الله في عرضه معتقد أهل السنة: (وأن الخلفاء بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأن مرتبتهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة) (125).
وقال رحمه الله: (أما تفضيل أبي بكر ثم عمر على عثمان وعلي فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم..) (126).
وسأستعرض بعض جوانب موقف ابن تيمية رحمه الله من الخلفاء الأربعة - كل على حده - مبتدئاً بأفضلهم، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ومؤخراً موقفه من الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه إلى المبحث الذي يليه؛ لأنه به ألصق حين الحديث عن آل البيت، وموقف ابن تيمية رحمه الله منهم.
أما أبو بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه الذي يزعم المناوئون أن ابن تيمية يرمز إلى تكفيره، فقد كان له نصيب كبير في كتب ابن تيمية رحمه الله من الثناء عليه، والاعتراف بفضله، وذكر النصوص الدالة على تقديمه على جميع الصحابة - رضوان الله عليهم -، موافقاً بذلك اعتقاد أهل السنة والجماعة.
وهو كثيراً ما يذكر رحمه الله أن أكثر فضائل أبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه تعد من خصائصه التي لا يشركه أحد غيره، فيقول: (... ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره)(127) .

ويمكن أن أجمع موقفه من خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأرتبه في النقاط التالية:
1 - أنه أحب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت متخذاً لا تخذت أبا بكر خليلاً، إن صاحبكم خليل الله»(128) .
وقيل للرسول صلّى الله عليه وسلّم أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» ، قيل: من الرجال؟ قال: «أبوها»(129) .
وثبت عن عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه أنه قال عنه: (أنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)(130) .
يقول رحمه الله (إن أبا بكر كان أحب الصحابة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأفضل عنده من عمر وعثمان وعلي وغيرهم، وكل من كان بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأحواله أعلم كان بهذا أعرف، وإنما يستريب فيه من لا يعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، فإما أن يصدق الكل، أو يتوقف في الكل)(131) .
2 - أنه أفضل الأمة على الإطلاق بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويدل على ذلك قول عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه: (وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وأنه كان خيرنا حين توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)(132) .
3 - أن مصاحبته لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت أكمل من مصاحبة غيره، فهو أول من أسلم من الرجال، واستمر مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل وقته لا يفارقه في حضر ولا سفر، وكان يستشيره النبي صلّى الله عليه وسلّم في أحايين كثيرة، ويصحبه معه في المواقف الصعبة كصحبته في الهجرة، كما في حديث الغار المتقدم، وقد خصه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصحبة بقوله: «هل أنتم تاركون لي صاحبي، هل أنتم تاركون لي صاحبي، إني قلت: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت»(133) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (الصديق في ذروة سنام الصحبة، وأعلى مراتبها، فإنه صحبه من حين بعثه الله إلى أن مات)(134) .
ثم بيّن رحمه الله أنه لا نزاع بين أهل العلم بحال النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أن مصاحبة أبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه له كانت أكمل من مصاحبة سائر الصحابة، وذكر من سبب ذلك أنه كان أدوم اجتماعاً به ليلاً ونهاراً، وسفراً وحضراً (135).
كما ثبت عن عائشة (ت - 57هـ) رضي الله عنها أنها قالت: (لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتينا فيه طرفي النهار) (136).
4 - تبشير النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنة في خصالٍ اجتمعت فيه، ولم تجتمع في أحد من الصحابة؛ وهذه منقبة عظيمة لأبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه، فقد ثبت عن المصطفى الكريم صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لأصحابه: «من أصبح منكم اليوم صائماً؟»، فقال أبو بكر: أنا. قال: «فمن تبع منكم جنازة؟» . قال أبو بكر: أنا. قال: «هل فيكم من عاد مريضاً؟» قال أبو بكر: أنا. قال: «هل فيكم من تصدق بصدقة؟». فقال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» (137).
5 - أنه أعلم الصحابة - رضوان الله عليهم -، وهذا بإجماع الصحابة، ومن بعدهم، كما ثبت في الصحيح أن أبا سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه قال: (وكان أبو بكر أعلمنا) (138).
وقد نقل ابن تيمية رحمه الله الإجماع على أن أبا بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه أعلم الصحابة، وأن أبا بكر كان يفتي ويقضي في حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ساكت يقره على ذلك، ويرضى بما يقول، ولم تكن هذه المرتبة لغيره(139) ، ويقول: (أما الصديق فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنها غيره حتى بينها لهم لم يحفظ له قول مخالف نصاً، وهذا يدل على غاية البراعة) (140).
6 - أنه أشجع الناس وأصبرهم حين تضعف عزائم الأقوياء، وحين يأتي وقت الشجاعة فأبو بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه أشجع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لليقين والإيمان اللذين وقرا في قلبه. ففي الصحيح أن عقبة بن معيط(141) جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر فدفعه عنه، وقال: ({أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ } [غافر: 28] ) (142).
وتتضح شجاعته رضي الله عنه أيضاً في حادثة فزع الصحابة بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وثباته، بل وتثبيته الصحابة، وفي إنفاذه جيش أسامه(143) ، وقتال المرتدين، وغيرها.
يقول ابن تيمية رحمه الله: (والمقصود هنا أن أبا بكر كان أشجع الناس، ولم يكن بعد الرسول صلّى الله عليه وسلّم أشجع منه) (144).
وقال - أيضاً - (وكان لأبي بكر مع الشجاعة الطبيعية شجاعة دينية، وهي قوة يقينية بالله - عز وجل -، وثقة بأن الله ينصره والمؤمنين، وهذه الشجاعة لا تحصل لكل من كان قوي القلب، لكن هذه تزيد بزيادة الإيمان واليقين، وتنقص بنقص ذلك)(145) .
7 - كثرة إنفاقه في سبيل الله وخاصة في بداية ظهور الإسلام في مكة، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر» (146)، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر»(147) .
وقال عليه الصلاة والسلام: «من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، قال أبو بكر: هل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم»(148) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (والمقصود هنا أن الصديق كان أمن الناس في صحبته وذات يده لأفضل الخلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لكونه كان ينفق ماله في سبيل الله كاشترائه المعذبين، ولم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم محتاجاً في خاصة نفسه لا إلى أبي بكر، ولا غيره، بل لما قال له في سفر الهجرة: إن عندي راحلتين فخذ إحداهما: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بالثمن» (149).
فهو أفضل صديق لأفضل نبي، وكان من كماله أنه لا يعمل ما يعمله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، لا يطلب جزاء من أحد من الخلق) (150).
8 - أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخصه بأمور هي دلائل على أنه يتبوأ منزلة خاصة، فهم منها كثير من أهل العلم أحقيته بالخلافة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومنها:
أ - طلب الكتابة بالعهد إليه بعده: فقد قال عليه الصلاة والسلام لعائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها: «ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً..» ثم قال: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»(151) .
ب - الإرشاد لمن طلب من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يحدد له رجلاً يأتيه إن لم يجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن يأتي أبا بكر، ومن ذلك: أن أمرأة أتت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ - كأنها تريد الموت -، قال: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر»(152) .
جـ - استخلافه بالصلاة عنه في حياته، كما ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما مرض واشتد مرضه قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق، متى يقم مقامك لا يستطيع أن يصلي بالناس، فقال: «مري أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف»(153) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (بيّن صلّى الله عليه وسلّم أنه يريد أن يكتب كتاباً خوفاً، ثم علم أن الأمر واضح ظاهر ليس مما يقبل النزاع فيه، والأمة حديثة عهد بنبيها، وهم خير أمة أخرجت للناس، وأفضل قرون هذه الأمة، فلا يتنازعون في هذا الأمر الواضح الجلي، فإن النزاع إنما يكون لخفاء العلم، أو لسوء القصد، وكلا الأمرين منتف، فإن العلم بفضيلة أبي بكر جلي، وسوء القصد لا يقع من جمهور الأمة الذين هم أفضل القرون، ولهذا قال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، فترك ذلك لعلمه بأن ظهور فضيلة أبي بكر الصديق واستحقاقه لهذا الأمر يغني عن العهد فلا يحتاج إليه، فتركه لعدم الحاجة، وظهور فضيلة الصديق واستحقاقه، وهذا أبلغ من العهد) (154).
وأما فضائل عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه فكثيرة، فمنها ما هو مشترك مع غيره من الصحابة ككونه من السابقين الأولين، وكونه من العشرة المبشرين بالجنة، وغيرها.
ومنها ما هو مشترك مع أبي بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنهما مثل: الأمر بالاقتداء بهما لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»(155) .
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا» (156) .
ومحبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لهما، فقد كان الصحابة كثيراً ما يسمعون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر»(157) .
وقرن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إيمانه بإيمان أبي بكر (ت - 13هـ) ، وعمر (ت - 23هـ) رضي الله عنهما في بعض المواضع، فقال عليه الصلاة والسلام: «بينما راع يرعى في غنمه إذ عدا الذئب فأخذ منها شاة، فطلبها حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب، وقال: من لها يوم السَّبُع يوم لا راع لها غيري» ، فقال الناس: سبحان الله! ذئب يتكلم؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «فإني أؤمن به وأبو بكر وعمر»(158) .
وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بينا رجل يسوق بقرة، قد حمَّل عليها، التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا! ولكني إنما خلقت للحرث».
فقال الناس: سبحان الله! تعجباً وفزعاً - أبقرة تتكلم؟.
فقال: «فإني أومن بهذا وأبو بكر وعمر»(159) .
ومن فضائله: ما أفردت بحديث مستقل: فهو أفضل الأمة بعد أبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه للنصوص المذكورة قبل قليل، ولغيرها.
وهو مُحدَّث ملهم لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «قد كان في الأمم مُحدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» (160).
وقد رأى الرسول صلّى الله عليه وسلّم رؤى في عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه أوّلهَا عليه الصلاة والسلام بالعلم، وبالدين، فقد قال نبي الرحمة صلّى الله عليه وسلّم: «بينا أنا نائم إذ رأيت قدحاً أُتيت به فيه لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الرّي يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي يعني عمر بن الخطاب»، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال:«العلم»(161).
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليّ وعليهم قُمُص، منها ما يبلغ الثُّدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك» ، ومرّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: «الدين» (162).
وقد جعل الله الحق على لسان عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه ووافق التنزيل مراراً، كما قال عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه عنه -: (وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة: 125] ، وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، قال: فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية)(163) .
وقد فرح الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وصحابته معه بإسلام عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه حين أسلم، واعتز الإسلام بإسلامه، كما قال ابن مسعود (ت - 32هـ) رضي الله عنه: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر)(164) .
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله بعض صفات الفاروق - من غير ما ذُكر -، فمنها:
خوفه من الله عزّ وجل وذكر أحاديث في ذلك(165) ، منها ما وراه المسور بن مخرمة(166) رضي الله عنه قال: لما طعن عمر جعل يألم، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذلك: لقد صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون، فقال: أمّا ما ذكرت من صحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضاه، فإنما ذاك مَنُّ منَّ به عليّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه، فإنما ذاك مَنٌ من الله مَنَّ به عليّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طِلاع(167) الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه)(168) .
ومنها: أنه وقّاف عند حدود الله عزّ وجل ودليل ذلك: أن رجلاً دخل عليه وقال: هيه يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ أن يوقع به، فقال له الحر(169) : يا أمير المؤمنين؛ إن الله - تعالى - قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } [الأعراف: 199] ، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله)(170) .
ومنها: عدله رضي الله عنه يقول ابن تيمية رحمه الله عن ذلك: (وبعدل عمر يضرب المثل)(171) ، ويقول: (ومعلوم أن رعية عمر انتشرت شرقاً وغرباً.. ومع هذا فكلهم يصفون عدله، وزهده، وسياسته، ويعظمونه، والأمة قرناً بعد قرن تصف عدله وزهده وسياسته، ولا يُعرف أن أحداً طعن في ذلك)(172) .
وهذه الصفات وغيرها نماذج من سيرة ثاني الخلفاء الراشدين التي يقول عنها ابن تيمية رحمه الله (لا يُعرف في سير الناس كسيرته)(173) ، ومناقبه كثيرة، أطال في ذكرها ابن تيمية رحمه الله موثقاً ذلك بالآثار الثابتة الصحيحة التي يقول عنها: (وهذه الآثار وأضعافها مذكورة بالأسانيد الثابتة في الكتب المصنفة في هذا الباب، ليست من أحاديث الكذابين، والكتب الموجودة فيها هذه الآثار المذكورة بالأسانيد الثابتة كثيرة جداً)(174) .
وأما فضائل عثمان بن عفان (ت - 35هـ) رضي الله عنه فكثيرة أيضاً، وموقف ابن تيمية رحمه الله منها موقف المؤيد، بل والمقرر لها، والموضح، والشارح: فمن فضائله الواردة في النصوص: ما هو مشترك يدخل فيها معه غيره من الصحابة، سواء أكانوا قلة أم كثرة: كتبشيره بالجنة، وكونه من السابقين الأولين للإسلام، ومن النصوص ما يدل على أنه أفضل الأمة بعد الشيخين، وذلك لحديث ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما قال: (كنا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نفاضل بينهم) (175).
قال ابن عبد البر (ت - 463هـ) رحمه الله: (لم يكن بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأرض أفضل من أبي بكر، ولم يكن بعده أفضل من عمر، ولم يكن بعده أفضل من عثمان، ولم يكن بعد عثمان على الأرض خير ولا أفضل من علي)(176) .
ومن فضائل عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم زوجه ابنتيه، ولذلك أطلق عليه لقب (ذو النورين)(177) .
ومن فضائله - أيضاً - مبايعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنه يوم بيعة الرضوان، فقد أراد رجل أن يطعن في عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه على أنه لم يحضر بيعة الرضوان، فأجابه ابن عمر (ت - 72هـ) رضي الله عنهما بأن بيعة الرضوان إنما كانت بسبب عثمان، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثه إلى مكة، وبايع عنه بيدِه، ويد النبي صلّى الله عليه وسلّم خير من يد عثمان(178) .
يقول ابن تيمية رحمه الله: (فقد أجاب ابن عمر بأن ما يجعلونه عيباً ما كان منه عيباً فقد عفا الله عنه، والباقي ليس بعيب، بل هو من الحسنات، وهكذا عامة ما يعاب به على سائر الصحابة، هو إما حسنة، وإما معفو عنه)(179) .
ومنها: كثرة إنفاقه في سبيل الله، ويظهر ذلك جلياً حين جهز جيش العسرة، حتى جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك من الأسباب الماحية للذنوب، الموجبة لدخول الجنة، وحين حوصر عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه أشرف على من حاصره وقال لهم: (أنشدكم الله، ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألستم تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حفر رومة فله الجنة» فحفرتها، ألستم تعلمون أنه قال: «من جهز جيش العسرة فله الجنة» فجهزته، قال: «فصدقوه بما قال»(180) .
ومنها: حياؤه رضي الله عنه، فقد استأذن رضي الله عنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مضطجع على فراش عائشة، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصلح عليه ثيابه، وقال لعائشة: «اجمعي عليك ثيابك» فأذن له، فقضى إليه حاجته، ثم انصرف، فقال عليه الصلاة والسلام: «يا عائشة إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلى حاجته» (181) .
ومنها: صبره حين الفتن، وكفه عمّن قاتله، كل هذا مع اتفاق الصحابة - رضوان الله عليهم - على بيعته، فلم يكن هناك اختلاف في توليته، بل ولاه المسلمون بعد المشورة ثلاثة أيام، وهم مؤتلفون، متفقون، متحابون، متوادون، ولم يعدلوا بعثمان غيره، يقول الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله: (ما كان في القوم أوكد بيعة من عثمان كانت بإجماعهم)(182) ، ومع ذلك ابتلي رضي الله عنه بعد توليته كثيراً فصبر، وهذا من دلائل نبوة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم حين أخبر أنه من أهل الجنة على بلوى تصيبه، يقول ابن تيمية رحمه الله: (ومن المعلوم المتواتر أن عثمان كان أكف الناس عن الدماء، وأصبر الناس على من نال من عرضه، وعلى من سعى في دمه فحاصروه، وسعوا في قتله، وقد عَرف إرادتهم لقتله، وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه، ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال، ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم.. فكان صبر عثمان حتى قُتل من أعظم فضائله عند المسلمين)(183) .
وفي الجملة: فإن فضائل عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه كثيرة، قد أقرّ بها ابن تيمية رحمه الله ويذكرها وقت الحاجة إلى ذكرها، سواء أكانت مفرقة أم مجتمعة، فيقول في كلام عام عن فضائل عثمان (ت - 35هـ) رضي الله عنه: (والمعلوم من فضائل عثمان، ومحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم له، وثنائه عليه، وتخصيصه بابنتيه، وشهادته له بالجنة، وإرساله إلى مكة، ومبايعته له عنه لما أرسله إلى مكة، وتقديم الصحابة له باختيارهم في الخلافة، وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات وهو عنه راض، وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه)(184) .
وأما موقفه من ابن عباس (ت - 68هـ) رضي الله عنهما فهو: الثناء عليه؛ للثناء العام على الصحابة - جميعاً -، ولثناء الرسول صلّى الله عليه وسلّم عليه، ودعائه له بالفقه في الدين، ومعرفة التأويل، يقول ابن تيمية رحمه الله: (ابن عباس هو حبر الأمة، وأعلم الصحابة في زمانه..، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل»(185) ) (186).
وبعد هذا تبين لنا موقف ابن تيمية رحمه الله من الصحابة - جميعاً - وعقيدته فيهم، فهو يعتقد وجوب الثناء على الصحابة - جميعاً -، وأنهم أفضل الأمة، وقد حكى اتفاق أهل السنة على رعاية حقوق الصحابة، ويعتقد تحريم سب الصحابة، ووجوب الكف عن الخوض في مساوئ الصحابة، وفيما شجر بينهم.
ثم تبين لنا أن ابن تيمية يعتقد أن أفضل الأمة: الخلفاء الأربعة، وأن ترتيبهم في الفضل هو ترتيبهم في الخلافة، ويعتقد أن لكلٍ فضلاً ومناقب، وإذا تبين ذلك عنه: فلا يجوز لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتهم ابن تيمية رحمه الله بأنه ببغض الصحابة أو أحدهم، فضلاً عن تكفير الصحابة، أو أحدهم، أو أفضلهم.

وقبل ختام هذا المبحث: يحسن بي أن أتوقف قليلاً لأبين ما يعتقده ابن تيمية رحمه الله باختصار في معاوية بن أبي سفيان (ت - 60هـ) رضي الله عنهما خاصة، ذلك أن بعض الطوائف والأشخاص يكفرونه، وبعضهم يبغضه ويلعنه(187) .
وابن تيمية يعتقد فيه أنه صحابي، أسلم عام الفتح، وإيمانه ثابت بالنقل المتواتر، وإسلامه يجب ما قبله من الذنوب، وأن سيرته خير وعدل، وأنه أفضل ملوك المسلمين - فرضي الله عنه وأرضاه -، يقول ابن تيمية رحمه الله: (إيمان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ثابت بالنقل المتواتر، وإجماع أهل العلم على ذلك، كإيمان أمثاله ممن آمن عام فتح مكة) (188).
وينقل ابن تيمية رحمه الله ثناء ابن عباس (ت - 68هـ) رضي الله عنهما عليه، والشهادة له بالفقه، فقد سأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ إنه أوتر بركعة؟ قال: (أصاب إنه فقيه)(189) .
يقول ابن تيمية بعد ذلك: (فهذه شهادة الصحابة بفقهه، ودينه، والشاهد بالفقه ابن عباس) (190).
ويذكر رحمه الله أنه خير ملوك المسلمين، وأن سيرته في رعيته من خيار سير الولاة بقوله: (فلم يكن من ملوك المسلمين ملك خير من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيراً منهم في زمن معاوية، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده)(191) ، وحكى اتفاق العلماء على أنه أفضل ملوك هذه الأمة (192).
 

( نقلا عن كتاب " دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية " للدكتور عبدالله الغصن - وفقه الله ، طبع دار ابن الجوزي بالدمام ، ومن أراد الهوامش فعليه بالكتاب .. ).
 

دعاوى المناوئين

  • ترجمة ابن تيمية
  • دعوى المناوئين
  • مواضيع متفرقة
  • كتب ابن تيمية
  • الصفحة الرئيسية