اطبع هذه الصفحة


دعوى تكلفه الغمز على أهل البيت، وتعمية مناقبهم !

د. عبد الله بن صالح بن عبد العزيز الغصن

 
المبحث الثالث
دعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت، وتعمية مناقبهم، ومناقشتها


المطلب الأول
دعوى تكلف شيخ الإسلام الغمز على أهل البيت، وتعمية مناقبهم

يرى المناوئون لابن تيمية رحمه الله أنه يبغض آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يألوا جهداً في بث هذا البغض في كتبه عن طريق الغمز فيهم، وفي فضائلهم، وإن تستر بحبهم، والثناء عليهم.
فيقولون عنه: إنه ينفي كل فضيلة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه، أو لأهل بيته (193).
وأنه من أعداء آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(194) .
وأنه شبّه فاطمة (ت - 11هـ) رضي الله عنها بالمنافقين(195) .
ويرون أنه أظهر بغضه لرابع الخلفاء الراشدين أكثر من غيره من آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك يتضح بالآتي:
أ - إنكاره العلم الخاص بعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه وإنكار كونه أكثر علماً من أبي بكر (ت - 13هـ) رضي الله عنه يقول أحدهم: (زاد ابن تيمية فأنكر اختصاص علي عليه السلام بعلم لا يكون عند الشيخين رضي الله عنهما)(196) .
وقال آخر في مقام بيانه أن علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه أكثر علماً من الشيخين رضي الله عنهما: (وابن تيمية أعرف الناس بذلك، ولكنه يفتري الكذب، ويتجاهل لنصرة رأيه، وغمط حق المولى علي عليه السلام، بل كل من يصرح بأعلمية أبي بكر على علي رضي الله عنهما فإنما يباهت، وينكر ما يكاد يعلمه من نفسه بالضرورة، بل هو معلوم بالضرورة جزماً)(197) .
وذكروا من علومه الخاصة به دون غيره: بسط اليد في العلم الظاهر والباطن، والإخبار عن الأحداث الماضية والآتية إلى قيام الساعة!(198) .
ب - الحقد الدفين عليه، وإبطان بغضه، وإن تستر بحبه، وأنه لم يكف - أبداً - عن انتقاص علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه وذكره بالقبيح(199) .
ج - أنه لا يرى أن خلافة علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه خلافة نبوة (200).
د - أنه يرى أن الباغي والمعتدي هو علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه على معاوية (ت - 60هـ) رضي الله عنه يقول أحدهم: (يشير بذلك إلى أن البغي وقع من علي عليه السلام) (201).
هـ - أنه ينتقص علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه في سائر صفات الفضل من العلم، والزهد، والصدق، والشجاعة وغيرها (202).


المطلب الثاني
مــنــاقــشــة الــدعــوى

الحديث في هذا المطلب سوف ينحصر - بإذن الله - في مسألتين:
المسألة الأولى : موقف ابن تيمية من آل البيت عموماً.
المسألة الثانية : بيان موقف ابن تيمية رحمه الله من علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه خصوصاً، لإفراد خصوم ابن تيمية رحمه الله الحديث عنه كثيراً.

أما الأولى : فموقف ابن تيمية رحمه الله من آل البيت واضح جلي لمن استعرض كتبه: فهو يعتقد اعتقاد أهل السنة والجماعة فيهم وهو محبتهم والثناء عليهم، وقد قرر وجوبها وفرضيتها في مواضع متعددة من كتبه، يقول رحمه الله: (محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه..)(203) ، وقال: (ولا ريب أن محبة أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم واجبة)(204) ، وكلما زادت محبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في قلب امريء مسلم فإنه تزيد محبته لأهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك فإن أكثر من عرف حق آل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم هو أبو بكر الصديق (ت - 13هـ) رضي الله عنه، وذلك لمحبته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المحبة الكاملة، يقول ابن تيمية رحمه الله: (وكان رضي الله عنه من أعظم المسلمين رعاية لحق قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأهل بيته، فإن كمال محبته للنبي صلّى الله عليه وسلّم أوجب سراية الحب لأهل بيته، إذ كان رعاية أهل بيته مما أمر الله ورسوله به)(205) ، وذكر قول الصديق: (ارقبوا محمداً في آل بيته)(206) ، وقال: (والله لقرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحب إلي أن أصل من قرابتي)(207) .
وقد توقف رحمه الله في كلام نفيس له حول أفضلية أهل البيت على غيرهم ممن هو دونهم؛ بأنه ليس للنسب فقط - وإن كان النسب له اعتبار - وإنما لاجتماع النسب مع الإيمان والتقوى، كما قال الله عزّ وجل عن آل الأنبياء بعد ذكره جملة منهم: { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87] ، فحصول الفضيلة لهم كان بمجموع الأمرين: هدايتهم إلى الصراط المستقيم، واجتباؤهم وتفضيلهم على غيرهم في النسب، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»(208) ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»(209) .
يقول رحمه الله: (لا ريب أن لآل محمد صلّى الله عليه وسلّم حقاً على الأمة لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر بطون قريش، كما أن قريشاً يستحقون من المحبة والموالاة ما لا يستحقه غير قريش من القبائل.. وأما نفس ترتيب الثواب والعقاب على القرابة، ومدح الله عزّ وجل للشخص المعين، وكرامته عند الله تعالى فهذا لا يؤثر فيه النسب، وإنما يؤثر فيه الإيمان والعمل الصالح، وهو التقوى، كما قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .. وهذا لا ينافي ما ذكرناه من أن بعض الأجناس والقبائل أفضل من بعض، فإن هذا التفضيل معناه كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» ، فالأرض إذا كان فيها معدن ذهب، ومعدن فضة؛ كان معدن الذهب خيراً؛ لأنه مظنة وجود أفضل الأمرين فيه، فإن قُدِّر أنه تعطل ولم يُخرج ذهباً، كان ما يخرج الفضة أفضل منه)(210) .
وبين أن الأمر وسط فلا تلغى فضيلة النسب جملة، ولا تجعل هي المعيار الوحيد لقرب العبد من ربه أو بعده منه فقال: (هذا هو الأصل المعتبر في هذا الباب دون من ألغى فضيلة الأنساب مطلقاً، دون من ظن أن الله تعالى يفضل الإنسان بنسبه على من هو مثله في الإيمان والتقوى، فضلاً عمّن هو أعظم إيماناً وتقوى، فكلا القولين خطأ وهما متقابلان، بل الفضيلة بالنسب فضيلة جملة، وفضيلة لأجل المظنة والسبب، والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيلة تعيين وتحقيق وغاية...)(211) .
وقد نبّه رحمه الله إلى منهج الوسطية عند أهل السنة والجماعة في محبة آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا يجوز الغلو فيهم، وإعطاؤهم فوق منزلتهم؛ لأن هذا شرك بهم، كما أنه لا يجوز انتقاص قدرهم، وغمطهم حقهم، سواء كان ذلك تحقيراً لهم، وعدم اعتراف بحقهم، أو كان ذلك من باب مقابلة الغلو بالإجحاف والتقصير، يقول - قدس الله روحه -: (الغالية في الأنبياء وأهل البيت والمشايخ، تجدهم مشركين بهم، لا متبعين لهم في خبرهم وأمرهم، فخرجوا عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)(212) ، ويقول رحمه الله في ضرب الأمثلة لمن قابل البدعة ببدعة مثلها: (كما قد يصير بعض الجهال المتسننة في إعراضه عن بعض فضائل علي وأهل البيت؛ إذا رأى أهل البدعة يغلون فيها)(213) .
وأهل البيت عقيدتهم هي عقيدة الصحابة، أهل السنة والجماعة، ودينهم الصدق والتقوى، لا الكذب والتقية - كما تزعمه الرافضة -، وهذا ما يقرره شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: (إن أئمة أهل البيت كعليّ وابن عباس ومن بعدهم، كلهم متفقون على ما اتفق عليه سائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان من إثبات الصفات والقدر)(214) .
ويقول: (وأئمة المسلمين من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغيرهم متفقون على القول الوسط، المغاير لقول أهل التمثيل، وقول أهل التعطيل)(215) .
إن لأهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقوقاً على المسلمين، وإن عليهم حقوقاً - أيضاً - فمنها: استحقاقهم الفيء(216) ، وأن الصدقة لا تحل لهم(217) ، ومما يتميزون به أن إجماع العترة حجة(218) ، ومما يتميزون به - أيضاً - وجوب الصلاة عليهم، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد»(219) ، وفي حديث أبي حميد الساعدي(220) «وعلى أزواجه وذريته»(221) ، يقول رحمه الله: (الصلاة والسلام على آل محمد، وأهل بيته تقتضي أن يكونوا أفضل من سائر أهل البيوت، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة الذين يقولون: بنو هاشم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل بني آدم)(222) .
وأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من آل بيته - على الصحيح - كما يقول ابن تيمية رحمه الله: (هل أزواجه من أهل بيته؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد:
أحدهما : أنهن لسن من أهل البيت، ويروى هذا عن زيد بن أرقم(223) ، والثاني - وهو الصحيح - أن أزواجه من آله)(224) .
وقال:(ودليل ذلك أن أزواجه هم ممن يصلى عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين)(225).
ولذلك فإن محبتهن واجبة، وبغضهن وسبّهن محرم:
يقول رحمه الله: (ويتولون أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصاً خديجة(226) رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به، وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية.
والصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما التي قال فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»(227) )(228) .
وأما من قذف أمهات المؤمنين أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم: سواء كانت عائشة (ت - 58هـ) رضي الله عنها أو غيرها، فهو كافر؛ لأن هذا فيه عار وغضاضة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن بعده(229) .
ولا يزال ابن تيمية رحمه الله يثني على آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيعتقد أن أفضل أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الرسول عليه الصلاة والسلام(230) .
وأما أفضل آل بيته من بعده فهو علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه ثم حمزة(231) ، وجعفر(232) ، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب(233) ؛ وهؤلاء هم السابقون للإسلام(234) .
وأما أعلم آل بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه ثم ابن عباس (ت - 68هـ) رضي الله عنهما كما بين ذلك في منهاج السنة(235) .
وأما موقف ابن تيمية رحمه الله من فاطمة (ت - 11هـ) رضي الله عنها بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو مثل موقف أهل السنة، والجماعة تجاهها، حيث هي من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن السابقين إلى الإسلام، ويعتقد أنها سيدة نساء العالمين(236).
وأن تزويجها لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه فضل له، لا لها(237) ، وقد بين الرسول صلّى الله عليه وسلّم محبته لها في أحاديث متعددة منها قوله: «إنما ابنتي بضعة مني يَريبني مارابها ويؤذيني ما آذاها »(238) ، وفي مقام بيانه صلّى الله عليه وسلّم عدم قبوله الشفاعة في حدود الله حتى في أقرب قريب وحبيب ضرب لذلك مثلاً بأقرب الناس إليه وهي فاطمة حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها »(239) ، وبين رحمه الله أن الرافضة يذمونها بما ظاهره المدح(240) .
وأما موقفه من الحسن(241) ، والحسين(242) رضي الله عنهما فهو: - كمن سبقهما -، واحتج بالحديث الصحيح في فضل الحسن (ت - 49هـ) رضي الله عنه وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم عنه: «اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه»(243) .
وقال عن الحسين (ت - 61هـ) رضي الله عنه: (والحسين رضي الله عنه ولعن قاتله قُتل مظلوماً شهيداً في خلافته(244) )(245) .
وقال عنهما في مقام الثناء عليهما، والاعتذار لهما: (الحسن تخلى عن الأمر وسلمه إلى معاوية، ومعه جيوش العراق، وما كان يختار قتال المسلمين قط، وهذا متواتر من سيرته... والحسين رضي الله عنه ما خرج يريد القتال، ولكن ظن أن الناس يطيعونه، فلما رأى انصرافهم عنه، طلب الرجوع إلى وطنه، أو الذهاب إلى الثغر..)(246) .
وقال: (والحسن والحسين من أعظم أهل بيته اختصاصاً به)(247) ، ثم ذكر الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أدار كساءه على علي، وفاطمة، والحسن والحسين ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»(248) .
وقال رحمه الله عن علي بن الحسين(249) : (من كبار التابعين، وساداتهم علماً وديناً) (250).
وقال: (وأما ثناء العلماء على علي بن الحسين ومناقبه فكثيرة...) (251).
وأما أبو جعفر الباقر (252)، فقد قال عنه ابن تيمية رحمه الله: (من خيار أهل العلم والدين، وقيل: إنما سمي الباقر، لأنه بقر العلم؛ لا لأجل بقر السجود جبهته) (253).
وقال رحمه الله عن جعفر الصادق (ت - 148هـ) : (من خيار أهل العلم والدين..) (254).
وقال عنه: (فإن جعفر بن محمد من أئمة الدين باتفاق أهل السنة) (255).
وقال عن أبي جعفر الباقر (ت - 114هـ) وجعفر الصادق (ت - 148هـ) - رحمهما الله -:
(ولا ريب أن هؤلاء من سادات المسلمين، وأئمة الدين، ولأقوالهم من الحرمة والقدر ما يستحقه أمثالهم) (256).
ونقل في توثيق موسى بن جعفر (257)، قول أبي حاتم الرازي (ت - 277هـ) رحمه الله عنه: (ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين) (258).
وأما من بعد هؤلاء من الأئمة الاثني عشر فلم يؤخذ عنهم من العلم ما يذكر به أخبارهم في كتب المشهورين بالعلم وتواريخهم (259).
وفي الجملة: فمحبة ابن تيمية رحمه الله لآل البيت ظاهرة، وثناؤه عليهم متواصل، سواء كان ذلك في فضائلهم العامة التي يشتركون فيها جميعاً، أو كان ذلك في فضائل بعضهم على بعض، أو على سائر الأمة، يقول رحمه الله مقرراً حقوقهم بكلام عام: (ولا ريب أن لآلِ محمد صلّى الله عليه وسلّم حقاً على الأمة لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر بطون قريش، كما أن قريشاً يستحقون من المحبة والموالاة ما لا يستحقه غير قريش من القبائل، كما أن جنس العرب يستحق من المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر أجناس بني آدم.. ولا ريب أنه قد ثبت اختصاص قريش بحكم شرعي، وهو كون الإمامة فيهم دون غيرهم، وثبت اختصاص بني هاشم بتحريم الصدقة عليهم، وكذلك استحقاقهم من الفيء عند أكثر العلماء، وبنو المطلب معهم في ذلك.. فهم مخصوصون بأحكام لهم وعليهم، وهذه الأحكام تثبت للواحد منهم وإن لم يكن رجلاً صالحاً) (260).
وفي المقابل فإن الرافضة يلمزون أهل السنة والجماعة جميعهم بالوقيعة في أهل البيت، وبغضهم، كما فعلوا ذلك بابن كثير (ت - 774هـ) رحمه الله وغيره (261).

المسألة الثانية : موقف ابن تيمية رحمه الله من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
أثنى ابن تيمية رحمه الله على الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه وذكر فضائله، ومناقبه، وأنصفه من خصومه، ولكي أعطي صورة سريعة ومجملة حول موقفه منه يحسن بي أن أذكر النقاط التالية:
1 - علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه أفضل الأمة بعد الخلفاء الأوائل الثلاثة، وذلك موافق للنصوص الشرعية (262).
2 - أنه آخر الخلفاء الراشدين، وأن ذلك مما اتفقت عليه الأمة، يقول ابن تيمية رحمه الله: (وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه آخر الخلفاء الراشدين المهديين، وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم) (263).
وقد أثبت الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن خلافته خلافة نبوة، كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله في مواضع متعددة (264)، من حديث سفينة(265) المشهور قوله: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء » قال سفينة رضي الله عنه: أمسك: مدة أبي بكر سنتان، وعمر عشر، وعثمان اثنتا عشرة، وعليّ كذا) (266)، أي ست سنوات.
قال ابن تيمية رحمه الله: (عليّ آخر الخلفاء الراشدين، الذين هم ولايتهم خلافة نبوة ورحمة، وكلٌ من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من أفضل أولياء الله المتقين) (267).
3 - أن محبته من السنة ومن الإيمان، يقول ابن تيمية رحمه الله: (وأما علي رضي الله عنه فإن أهل السنة يحبونه ويتولونه، ويشهدون بأنه من الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين) (268).
4 - أنه من أهل الجنة وأنه يموت شهيداً (269).
5 - أن سيرته فيها العلم والعدل والبر والرشاد، كما يقول عنه شيخ الإسلام: (وأما عثمان وعلي رضي الله عنهما فهما من الخلفاء الراشدين، وسيرتهما سيرة العلم والعدل والهدى والرشاد والصدق والبر) (270)، ويقول - أيضاً -: (وكانت سيرة أبي بكر في قسم الأموال: التسوية، وكذلك سيرة علي رضي الله عنه، فلو بايعوا علياً أعطاهم ما أعطاهم أبو بكر، مع كون قبيلته أشرف القبائل..) (271).
6 - أثبت له ابن تيمية رحمه الله كثيراً من الصفات الحميدة، وقررها، فمنها:
أ - أنه يحب الله، ويحبه الله، كما يقول ابن تيمية رحمه الله: (وأما علي رضي الله عنه فلا ريب أنه ممن يحب الله ويحبه الله...) (272).
ب - أثبت له صفة الزهد بقوله: (وأما زهد علي رضي الله عنه في المال فلا ريب فيه) (273).
جـ - أثبت له صفة الصدق بقوله: (نحن نعلم أن علياً كان أتقى لله من أن يتعمد الكذب) (274).
7 - جواز الدعاء له بالصلاة عليه؛ وذلك لدخوله في آل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل هو أفضلهم، فدخوله من باب أولى حين الصلاة على محمد وآله في قولنا: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم...).
وأما الصلاة عليه منفرداً: فإن كان لا على سبيل الدوام والاستمرار فهذا جائز على الصحيح.
وأما إن كانت الصلاة عليه بحيث يجعل ذلك شعاراً مقروناً باسمه، مضاهاة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فهذا لا يجوز وهو بدعة، سواء كان المصلى عليه علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه أو كان غيره من الصحابة أو القرابة (275).
ونجد من دعاء ابن تيمية رحمه الله له، أنه يعقب اسمه بقوله: (عليه السلام) مراراً (276).
8 - يدافع عنه ابن تيمية رحمه الله وينصفه من خصومه، ويعتقد أن سبه ولعنه من البغي الذي تستحق به الطائفة التي تلعنه، أو تسبه أن يقال لها: الطائفة الباغية(277) ثم ذكر حديث أبي سعيد (ت - 74هـ) رضي الله عنه فقال حين ذكر بناء مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فجعل ينفض التراب عنه ويقول: «ويح عمار! تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» (278).
وفي حديث آخر أن عماراً حين جعل يحفر الخندق جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسح رأسه ويقول: «بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية» (279).
قال ابن تيمية رحمه الله: (وهذا أيضاً يدل على صحة إمامة علي، ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة، والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار..) (280).
9 - أنه أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية (ت - 60هـ) رضي الله عنهما فيما حصل بينهما، مع أن كلا الطائفتين معها بعض الحق، فبعد ذكره حديث أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه قوله: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تمرق مارقة عند فُرقةٍ من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق »(281) . قال: (وفي هذا الحديث دليل على أنه مع كل طائفة حق، وأن علياً رضي الله عنه أقرب إلى الحق)(282) .
وقال رحمه الله: (ولو قدح رجل في علي بن أبي طالب بأنه قاتل معاوية، وأصحابه، وقاتل طلحة والزبير، لقيل له: علي بن أبي طالب أفضل وأولى بالعلم والعدل من الذين قاتلوه، فلا يجوز أن يجعل الذين قاتلوه هم العادلين، وهو ظالم لهم) (283).
وقال - أيضاً -: (ولم يسترب أئمة السنة، وعلماء الحديث: أن علياً أولى بالحق، وأقرب إليه، كما دل عليه النص، وإن استرابوا في وصف الطائفة الأخرى بظلم أو بغي، ومن وصفها بالظلم والبغي لما جاء من حديث عمار، جعل المجتهد في ذلك من أهل التأويل)(284) .
10 - وأما عن تخصيص علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه بعلم من علم الغيب، فليس بصحيح، فكل ما ينقل عنه أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم خصه بعلم الباطن فهذا كذب عليه، كيف وقد قال الله عزّ وجل: { قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } [النمل: 65] ، وقوله: { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } [الأنعام: 59] .
يقول ابن تيمية رحمه الله بعد أن بين أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس له علم خاص باطن يخص به أحداً، بخلاف ما يظهره لعامة الناس: (وكل من كان عارفاً بسنته وسيرته علم أن ما يروى خلاف هذا فهو مختلق كذب، مثل ما يذكره بعض الرافضة عن علي أنه كان عنده علم خاص باطن يخالف هذا الظاهر)(285) .
ثم قال: (وقد أجمع أهل المعرفة بالمنقول على أن ما يروى عن علي وعن جعفر الصادق من هذه الأمور التي يدعيها الباطنية كذب مختلق)(286) .
وقال رحمه الله: (وأما ما يرويه أهل الكذب والجهل من اختصاص علي بعلم انفرد به عن الصحابة فكله باطل...، وما يقوله بعض الجهال أنه شرب من غُسل النبي صلّى الله عليه وسلّم فأورثه علم الأولين والآخرين، من أقبح الكذب البارد، فإن شرب غُسل الميت ليس بمشروع، ولا شرب علي شيئاً، ولو كان هذا يوجب العلم لشركه في ذلك كل من حضر، ولم يرو هذا عن أحد من أهل العلم، وكذلك ما يذكر أنه كان عنده علم باطن امتاز به عن أبي بكر وعمر وغيرهما: فهذا من مقالات الملاحدة الباطنية)(287) .
وقد قال علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما عهد إليّ النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئاً لم يعهده إلى الناس، إلا ما في هذه الصحيفة، - وكان فيها العقل (288) ، وفكاك الأسرى، وأن لا يقتل مسلم بكافر -، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في الكتاب)(289).
وفي الجملة: فثناء ابن تيمية رحمه الله على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنه مبثوث في كتبه، قد أقره معترفاً به، مستدلاً على ذلك بنصوص الكتاب والسنة، يقول رحمه الله: (وعلي رضي الله عنه فضّله الله وشرّفه بسوابقه الحميدة، وفضائله العديدة)(290) .
وقال: (وكتب أهل السنة من جميع الطوائف مملوءة بذكر فضائله ومناقبة، وبذم الذين يظلمونه من جميع الفرق، وهم ينكرون على من سبه، وكارهون لذلك)(291) .
ومع كل هذا الثناء، والاعتراف بقدره، وموافقة أهل السنة في عقيدتهم فيه، إلا أن المناوئين لابن تيمية رحمه الله يتهمونه بأنه يبغض علياً، وأنه ينتقص حقه، ويخفي فضائله، وحال المناوئين معه كما قال الشاعر:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد *** وينكر الفم طعم الماء من سقم(292)
وابن تيمية رحمه الله وإن كان قد أثنى على علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه إلا أنه لم يغل فيه، ولم يغمطه حقه، بل كان وسطاً، ففي مناقشاته للرافضة يحاول كثيراً إقناعهم بالمنهج الوسط ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وذلك ببيان فضائل الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه وخصائصهم، وأنهم أفضل منه، لأن الرافضة لا يثنون على علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه إلا وينتقصون الخلفاء الثلاثة قبله، فكل فضيلة تثبت له، يقابلها توهين وتحقير وتنقيص لفضائل الثلاثة قبله، ويظن الرافضة - أيضاً - أن علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه إذا كان أفضل آل البيت فمعناه أنه أفضل الأمة، وأنهم إذا سمعوا فضيلة له ظنوا أنها لا تكون إلا لأفضل الأمة، ثم يزيدون في فضائله آثاراً كاذبة، ونصوصاً مختلقة، يقول ابن تيمية رحمه الله: (وليس إذا كان علي أفضل أهل البيت بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجب أن يكون أفضل الناس بعده)(293) .
ويقول: (والرافضة لفرط جهلهم، وبعدهم عن ولاية الله وتقواه ليس لهم نصيب كثير من كرامات الأولياء، فإذا سمعوا مثل هذا عن علي ظنوا أن هذا لا يكون إلا لأفضل الخلق)(294) .
ثم إن الرافضة ومن وافقهم - أيضاً لفرط جهلهم - لا يفرقون بين الخصائص والمناقب، فهم يظنون أن كل منقبة وفضيلة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه إنما هي من خصائصه بالضرورة، وهذا خطأ ظاهر ينبه عليه ابن تيمية رحمه الله كثيراً بأن هذه الصفة ليست من خصائصه، من باب بيان الحق، وعدم تنقيص بقية الصحابة الذين يشركونه في هذه الصفة، فيظن المخالف أن شيخ الإسلام رحمه الله ينتقص من علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه وابن تيمية رحمه الله لم ينتقص علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه ولا غيره من الصحابة، بل عمله هذا دليل على عدم انتقاص أحد من الصحابة في مقام الثناء على أحد غيره، ولعلّي أذكر بعض الأمثلة على هذه القاعدة - أي التفريق بين الخصائص والمناقب - حتى تتضح الرؤية أكثر:
أ - أن استخلافه على المدينة في غزوة تبوك ليس من خصائصه، بل هو من فضائله، ولم يكن استخلافه على المدينة في غزوة تبوك، لأجل أن المتخلف عن الغزوة أفضل من غيرهم، أو أكثر من غيرهم من المتخلفين في الغزوات الأخرى.
يقول ابن تيمية رحمه الله: (وأما استخلافه لعليّ على المدينة، فذلك ليس من خصائصه، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا خرج في غزاة استخلف على المدينة رجلاً من أصحابه، كما استخلف ابن أم مكتوم(295) تارة، وعثمان بن عفان تارة)(296) وذكر أمثلة متعددة لاستخلاف النبي صلّى الله عليه وسلّم أفراداً من الصحابة على المدينة في أسفاره وغزواته ثم قال: (واستخلاف علي لم يكن على أكثر ولا أفضل ممن استخلف عليهم غيره، بل كان يكون في المدينة في كل غزوة من الغزوات من المهاجرين والأنصار أكثر وأفضل ممن تخلف في غزوة تبوك، فإن غزوة تبوك لم يأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأحد بالتخلف فيها، فلم يتخلف فيها إلا منافق، أو معذور، أو الثلاثة الذين تاب الله عليهم...)(297) .
وقال: (وبالجملة فالاستخلاف على المدينة ليست من خصائصه، ولا تدل على الأفضلية، ولا على الإمامة، بل قد استخلف عدداً غيره، ولكن هؤلاء جهال ويجعلون الفضائل العامة المشتركة بين علي وغيره خاصة بعلي)(298) .
فشيخ الإسلام رحمه الله لم ينكر كونها منقبة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه لكنه يرد غلو الرافضة في حبه في مقابل تنقص غيره من الصحابة، فهو يثبتها فضيلة، لكنه دفاعاً عن بقية الصحابة لا يجعلها خاصية له دون غيره.
ب - أن ربط الإيمان بحبه، وربط النفاق ببغضه ليس من خصائصه، بل هو من فضائله، فقد رُبطا بغيره - أيضاً -، ولهما - أي الإيمان والنفاق - علامات وأسباب أخرى.
يقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار»(299) .
يقول ابن تيمية رحمه الله بعد ذكره بعض فضائل علي، ومنها هذه الفضيلة: (فهذه الأمور ليست من خصائص علي، لكنها من فضائله ومناقبه التي تعرف بها فضيلته، واشتهر رواية أهل السنة لها، ليدفعوا بها قدح من قدح في علي، وجعلوه كافراً أو ظالماً، من الخوارج وغيرهم)(300) .
جـ - أن القول بأنه أشجع الناس، أو أن من خصائصه أنه لم ينهزم قط، فهذا ليس بصحيح، فإن أشجع الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما في الصحيحين عن أنس (ت - 93هـ) رضي الله عنه قال: (كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت، وهو يقول: «لم تراعوا»(301) .
وعن علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه قال: (كنا إذا احمر البأس ولقي القوم اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه)(302) ،
ثم استعرض شيخ الإسلام رحمه الله شجاعة الخلفاء الثلاثة قبله، وشجاعة غيره من الصحابة بعد أن بين أن الشجاعة تفسر بشيئين:
(أحدهما: قوة القلب وثباته عند المخاوف، والثاني: شدة القتال بالبدن...)(303) .
ويقول ابن تيمية رحمه الله عن تخصيصه بأنه لم يهزم: (هو في ذلك كأبي بكر وعمر وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم فالقول في أنه ما انهزم، كالقول في أن هؤلاء ما انهزموا قط، ولم يعرف لأحد من هؤلاء هزيمة) (304).
د - أن الصدق، والإيمان بالله ورسوله ليس من خصائصه، بل هو في عداد الصادقين، والمؤمنين بالله ورسوله، وإن كان من أفضلهم لكن ليس من خصائصه هاتان الصفتان (305).
هـ - أن محبته لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ومحبة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم له ليس من خصائصه، بل من فضائله ومناقبه؛ لأنه يشركه فيها غيره من الصحابة، وقد يفوقه بعضهم بهذه الصفة، قال ابن تيمية رحمه الله في كلام عادل له، ومنصف للخلفاء الأربعة جميعاً عن هذه الصفة في مقام الرد على الرافضة: (وأما علي رضي الله عنه فلا ريب أنه ممن يحب الله، ويحبه الله، لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر وعمر وعثمان، ولا كان جهاده للكفار والمرتدين أعظم من جهاد هؤلاء، ولا حصل به من المصلحة للدين أعظم مما حصل بهؤلاء، بل كل منهم له سعي مشكور، وعمل مبرور، وآثار صالحة في الإسلام، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خير جزاء، فهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون، الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون)(306) .
وفي الجملة فإن الشيعة يجعلون كل فضيلة لعلي خاصية له، وهذا معلوم بطلانه وخطؤه ببديهة العقل، ولذا يقول ابن تيمية رحمه الله: (وهكذا الأمر مع الشيعة: يجعلون الأمور المشتركة بين علي وغيره التي تعمه وغيره، مختصة به، حتى رتبوا عليه ما يختص به من العصمة والإمامة والأفضلية وهذا كله منتفٍ) (207).
هذه نماذج مختصرة في بيان فضائل علي (ت - 40هـ) رضي الله عنه ومناقبه، التي يشترك معه فيها غيره من الصحابة رضي الله عنهم قد بينها ابن تيمية رحمه الله مثنياً بها على الجميع، ومحباً لجميع الصحابة في إثبات هذه الفضائل لهم، لكن الرافضة لما كان من منهجهم أنهم لا يثبتون منقبة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه إلا ويتبعونها بالغمز واللمز على غيره من الصحابة، سواء كانوا أفضل منه أو أقل منه في مرتبة الفضل، قابلهم ابن تيمية رحمه الله في مقام المناظرة لهم بأن لا يذكر فضيلة لعلي (ت - 40هـ) رضي الله عنه إلا ويذكر من شاركه من الصحابه فيها، ويركز على الخلفاء الراشدين الثلاثة قبله، مبيناً فضلهم، ومنزلتهم، وأنهم أحق بهذه الصفات والمناقب منه، فصفاتهم أكمل من صفاته، وإن كان هو أفضل من بقية الصحابة من غير الخلفاء الثلاثة قبله، فما من صفة ذم يذم بها الرافضة الخلفاء الراشدين الثلاثة، إلا ويلزمهم ابن تيمية رحمه الله بأن علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه أولى بالذم منهم، وما من صفة مدح من الرافضة له، إلا والثلاثة قبله أولى بالمدح منه، ويلاحظ أن ابن تيمية رحمه الله لم يذم علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه قط، لكن الرافضة يظنون أن بيان ابن تيمية رحمه الله مشاركة الصحابة علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه في بعض الصفات هو من باب الذم له، إلا أن ابن تيمية رحمه الله بين أن الرافضة هم الذين يذمون علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه في مواضع يظنون أنهم يمدحونه ويثنون عليه فيها، أو أنهم في المقابل يغلون في حبه، ويفرطون في ذلك(308) .
ومن الأمثلة على مقابلة ابن تيمية رحمه الله مدح الرافضة علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه بمدح الخلفاء الثلاثة، وذم الرافضة الخلفاء الثلاثة بأن علياً (ت - 40هـ) رضي الله عنه أولى بالذم - من باب الإلزام في المناظرة - ما يلي:
قال رحمه الله: (من العجب أن الرافضة تنكر سب علي، وهم يسبون أبا بكر وعمر وعثمان، ويكفرونهم ومن والاهم.
ومعاوية رضي الله عنه وأصحابه ما كانوا يكفرون علياً، وإنما يكفره الخوارج المارقون، والرافضة شر منهم، فلو أنكرت الخوارج السب لكان تناقضاً منها، فكيف إذا أنكرته الرافضة؟
ولا ريب أنه لا يجوز سب أحد من الصحابة: لا علي ولا عثمان ولا غيرهما، ومن سب أبا بكر وعمر وعثمان فهو أعظم إثماً ممن سب علياً...)(309) .
وقال رحمه الله: (وإن قالوا بجهلهم: إن هذا الذنب(310) كفر، ليكفروا بذلك أبا بكر، لزمهم تكفير علي، واللازم باطل فالملزوم مثله، وهم دائماً يعيبون أبا بكر وعمر وعثمان، بل ويكفرونهم بأمور قد صدر من علي ما هو مثلها، أو أبعد عن العذر منها، فإن كان مأجوراً أو معذوراً فهم أولى بالأجر والعذر)(311) .
وبيّن رحمه الله وسطيته في موقفه من الصحابة بين الخوارج والرافضة فقال: (وإذا كنا ندفع من يقدح في علي من الخوارج، مع ظهور هذه الشبهة(312) ، فلأن ندفع من يقدح في أبي بكر وعمر بطريق الأولى والأحرى.
وإن جاز أن يظن بأبي بكر أنه كان قاصداً للرئاسة بالباطل، مع أنه لم يعرف منه إلا ضد ذلك، فالظن بمن قاتل على الولاية - ولم يحصل مقصوده - أولى وأحرى... فإذا كنا نظن بعلي أنه كان قاصداً للحق والدين، وغير مريد علواً في الأرض ولا فساداً، فظن ذلك بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما أولى وأحرى..
أما أن يقال: إن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد، وعلي لم يكن يريد علواً في الأرض ولا فساداً، مع ظهور السيرتين، فهذا مكابرة، وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك..)(313) .
وفي الجملة فإن محبة ابن تيمية رحمه الله صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وآل بيته، وعلي بن أبي طالب (ت - 40هـ) رضي الله عنهم ظاهرة معلومة، وواضحة لمن قرأ كتب شيخ الإسلام بإنصاف، وطلبٍ للحق، ولكنه الهوى يُعمي ويُصم { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} [النجم: 23] .
 

( نقلا عن كتاب " دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية " للدكتور عبدالله الغصن - وفقه الله ، طبع دار ابن الجوزي بالدمام ، ومن أراد الهوامش فعليه بالكتاب .. ).
 

دعاوى المناوئين

  • ترجمة ابن تيمية
  • دعوى المناوئين
  • مواضيع متفرقة
  • كتب ابن تيمية
  • الصفحة الرئيسية