اطبع هذه الصفحة


دعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار !

د. عبد الله بن صالح بن عبد العزيز الغصن

 
المبحث الأول
دلالة نصوص الكتاب والسنة على خلود النار
 

دلت النصوص على خلود النار، من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة: فمن الكتاب قول الله سبحانه وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } [البقرة: 161 - 162] . ففي هذه الآية دلالة على أن عذاب أهل النار لا ينقطع أبداً، ولا يخفف عنهم العذاب فيها فهم في عذاب مستمر.
قال ابن جرير الطبري (ت - 310هـ) رحمه الله: (خبر من الله تعالى ذكره، عن دوام العذاب أبداً من غير توقيت ولا تخفيف) (1).
وقال ابن عطية (2) رحمه الله: (ثم أعَلَم - تعالى - برفع وجوه الرفق عنهم؛ لأن العذاب إذا لم يخفف ولم يؤخر فهو النهاية) (3).
وقال ابن كثير (ت - 774هـ) رحمه الله: (لا يخفف عنهم العذاب فيها أي لا ينقص عما هم فيه، ولا هم ينظرون أي لا يغير عنهم ساعة واحدة، ولا يفتر بل هو متواصل دائم فنعوذ بالله من ذلك) (4).
وقال أبو السعود (5) رحمه الله: (ولا هم ينظرون: إيثار الجملة الاسمية لإفادة دوام النفي واستمراره أي لا يمهلون، ولا يؤجلون) (6).
وقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [البقرة: 167] . أي أن هؤلاء الكفار وإن ندموا، واشتدت ندامتهم على أعمالهم الخبيثة، فلا ينفعهم ذلك، ولن يخرجوا من النار، ويؤكد الطبري (ت - 310هـ) رحمه الله هذا المعنى راداً على من زعم أن النار تفنى بقوله: (وفي هذه الآية الدلالة على تكذيب الله الزاعمين أن عذاب الله أهل النار من أهل الكفر منقضٍ، وأنه إلى نهاية، ثم هو بعد ذلك فانٍ؛ لأن الله - تعالى ذكره - أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، ثم ختم الخبر عنهم بأنهم غير خارجين من النار، بغير استثناء منه وقتاً دون وقت، فذلك إلى غير حد ولا نهاية) (7).
ويقول القرطبي (ت - 671هـ) رحمه الله عن هذه الآية: (دليل على خلود الكفار فيها، وأنهم لا يخرجون منها) (8).
وقال عزّ وجل: { ِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } [النساء: 168 - 169] ، فهذا مصير الكفار، وطريقهم في الآخرة: جهنم يدخلونها، ويخلدون فيها لا يخرجون منها، وهذا يسير على الله عزّ وجل فلا يقدر أحد من الكفار أن يمتنع من ذلك، ولا يستطيع أحد أن يمنع الله من ذلك الفعل، فالخلق خلقه، والأمر أمره، يقول الطبري (ت - 310هـ) رحمه الله عن هذه الآية (يقول: مقيمين فيها أبداً) (9).
ومن أدلة أهل السنة على عدم فناء النار من القرآن، قول الله - تبارك وتعالى -: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [المائدة: 36 - 37] ، فقد أخبر الله عن الكفار أنهم باقون في النار وعذابهم دائم لا يتخلف ولا ينقطع، يقول شيخ المفسرين أبو جعفر ابن جرير الطبري (ت - 310هـ) رحمه الله: (يريد هؤلاء الذين كفروا بربهم يوم القيامة أن يخرجوا من النار بعد دخولها، وما هم بخارجين منها، (ولهم عذاب مقيم) يقول: لهم عذاب دائم ثابت لا يزول عنهم، ولا ينتقل أبداً) (10).
وقال ابن عطية (ت - 546هـ) رحمه الله: (أخبر - تعالى - عن هؤلاء الكفار أنهم ليسوا بخارجين من النار بل عذابهم فيها مقيم متأبد) (11).
وقال القرطبي (ت - 671هـ) رحمه الله: (معناه: دائم ثابت لا يزول ولا يحول) (12).
ومنها قوله تعالى: { َيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } [الأنعام: 128] ، فبين الله عزّ وجل أن مصير عبدة الأوثان هو النار يستقرون فيها أبداً، ويفسر ابن جرير (ت - 310هـ) رحمه الله الاستثناء في الآية بقوله: (يعني إلا ما شاء الله من قَدْر مدة ما بين مبعثهم من قبورهم إلى مصيرهم إلى جهنم، فتلك المدة التي استثناها الله من خلودهم في النار) (13)، وهناك أقوال أخرى في معنى الاستثناء في هذه الآية ليس هذا موضع ذكرها (14).
ومن الأدلة - أيضاً - قول الله - تبارك وتعالى -: { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 106 - 107] ، وهذه الآية هي التي أطال فيها المفسرون.
ويفسر ابن جرير (ت - 310هـ) رحمه الله ربط خلود أهل النار في النار بدوام السماوات والأرض بأنها للتأبيد (ذلك أن العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبداً قالت: هذا دوام السماوات والأرض، بمعنى أنه دائم أبداً.. فخاطبهم - جل ثناؤه - بما يتعارفون به بينهم) (15) ، ويشهد لذلك قول زهير :(16)
ألا لا أرى على الحوادث بواقيا *** ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا(17)
وقيل: إنها سماوات الآخرة وأرضها لبقائها على الأبد(18) ، ودليل ذلك قول الله عزّ وجل: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } [إبراهيم: 48] ، وقوله تعالى: { وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء} [الزمر: 74] .
وأما الاستثناء في هذه الآية فقد توقف عنده المفسرون طويلاً (19)، وحاصل أقوالهم ما يلي:
1 - خالدين فيها ما دامت سماء الدنيا وأرضها إلا ما شاء ربك من الزيادة عليها بعد فناء مدتها.
2 - ما دامت سماوات الآخرة وأرضها إلا ما شاء ربك من قدر وقوفهم في القيامة.
3 - ما دامت السماوات والأرض، أي مدة لبثهم في الدنيا.
4 - خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك من أهل التوحيد أن يخرجهم منها بعد إدخالهم إليها، فيكونون أشقياء في النار سعداء في الجنة، ويشهد لهذا قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحمحمة(20) أخرجوا منها وأدخلوا الجنة فيقال لهم: الجهنميون»(21) ، ويرى الطبري (ت - 310هـ) وابن كثير (ت - 774هـ) - رحمهما الله - أن هذا هو القول الصواب(22) .
5 - إلا ما شاء الله من أهل التوحيد أن لا يدخلهم إليها.
6 - إلا ما شاء ربك من كل من دخل النار من موحد ومشرك أن يخرجه منها إذا شاء.
7 - أن الاستثناء راجع إلى قوله: { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [هود: 106] إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب التي ليست بزفير ولا شهيق ممالم يسم ولم يوصف، ومما قد سُمّي ووصف، ثم استأنف { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } [هود: 107] .
8 - أن الاستثناء واقع على معنى: لو شاء ربك أن لا يخلدهم لفعل، ولكن الذي يريده، ويشاؤه، ويحكم به تخليدهم(23) .
وقد أجاب ابن عطية (ت - 546هـ) رحمه الله على من فهم من هذا الاستثناء أن جهنم تخرب، ويعدم أهلها بقوله: (هذا قول مختل، والذي روي ونقل عن ابن مسعود وغيره، إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين، وهو الذي يسمى جهنم، وسمي الكل به تجوزاً)(24) .
وقال أبو السعود (ت - 951هـ) رحمه الله عن الاستثناء في الآية: (استثناء من الخلود على طريقة قوله تعالى: { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } [الدخان: 56] ، وقوله: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [النساء: 22] ، وقوله تعالى: { حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } [الأعراف: 40] ، غير أن استحالة الأمور المذكورة معلومة بحكم العقل، واستحالة تعلق المشيئة بعدم الخلود معلومة بحكم النقل يعني أنهم مستقرون في النار في جميع الأزمنة إلا زمان مشيئة الله - تعالى - لعدم قرارهم فيها، إذ لا إمكان لتلك المشيئة ولا لزمانها بحكم النصوص القاطعة الموجبة للخلود فلا إمكان لانتهاء مدة قرارهم)(25) .
ومن الأدلة القرآنية على عدم فناء النار قول الحق - تبارك وتعالى -: { وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء: 97] ، وهذه الآية تفيد بقاء أهل النار في النار أو أن النار باقية، لقوله: (كلما) التي تفيد التعميم والاستمرار، ومعنى (خبت) عند المفسرين وجهان:
أحدهما : كلما طفئت أوقدت.
ثانيهما : كلما سكن التهابها زدناهم سعيراً والتهاباً، وسكون التهابها من غير نقصان في آلامهم، ولا تخفيف من عذابهم(26) .
وقال تعالى:{إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى}[طه:74].
فهذه الآية دلالتها على عدم فناء النار، واستمرار العذاب فيها، مثل دلالة قوله تعالى: { لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36] ، وقوله: { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 11 - 13] ، ويذكر الماوردي(27) رحمه الله أن هذا السياق يحتمل وجهين:
أحدهما : لا ينتفع بحياته، ولا يستريح بموته.
الثاني : أن نفس الكافر معلقة بحنجرته، كما أخبر الله عنه، فلا يموت بفراقها ولا يحيا باستقرارها(28) .
وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 65 - 66] ، فعذاب الآخرة ملازم دائم لمن هو خالد في النار من الكفار، ولذا يقول الطبري (ت - 310هـ) رحمه الله: (إن عذاب جهنم كان غراماً ملحاً دائماً لازماً غير مفارق من عذِّب به من الكفار، ومهلكاً له)(29) ، ومنه سمي الغريم لملازمته لغارمه. ومنه قول الأعشى(30) :
إن يعاقب يكن غراماً وإن يعـ *** ـط جزيلاً فإنه لا يبالي(31)
وقال تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20] ، ففي هذه الآية دلالة على استقرار الكفار في النار، وأنها دائمة، فكلما أرادوا أن يخرجوا من شدة العذاب، ولأن لهب جهنم يدفعهم إلى أعلاها، ثم يضربون بمقامع من حديد ليعودوا فيها، ويقال لهم من باب التقريع والتوبيخ: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون(32) ، وهم مستمرون في ذلك أبد الآباد.
ومن الآيات قول الله - تبارك وتعالى -: { إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً} [الأحزاب: 64 - 65] ، فالكافر في السعير، ومكثه مؤبد فيها، لا يخرج منها أبداً، يقول ابن جرير (ت - 310هـ) رحمه الله: (ماكثين في السعير أبداً إلى غير نهاية)(33) ويقول ابن كثير (ت - 774هـ) رحمه الله: (ما كثين مستمرين فلا خروج لهم منها، ولا زوال لهم عنها)(34) .
ومن الأدلة لأهل السنة والجماعة على عدم فناء النار - قول الله تعالى -: { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [الزخرف: 74 - 78] ، فهم خالدون في عذاب دائم لا يخفف عنهم، ولا يخرجون منه، جزاء وفاقاً، فينادون خازن النار طالبين الموت، فيتركهم ولا يجيبهم ما شاء الله من السنين ثم يأتيهم الجواب الذي يزيدهم في العذاب، ويخبرهم بالبقاء في النار والمكوث فيها، فيلجأ الكفار مستغيثين بربهم { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107] ، - فيرد عليهم - رب العزة والجلال - { قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108](35) .
وقال تعالى: { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلْطَّاغِينَ مَآباً * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ: 21 - 23] ، أي أن النار موضع أهل الكفر، وهي مآلهم ومرجعهم، فإذا دخلوا فيها لا يخرجون منها، فهم لا بثون مقيمون فيها أبداً.
وذكر المفسرون لهذه الآيات معنيين:
المعنى الأول: أن الأحقاب مُدَدٌ طويلة، وآجال متعددة لا تنقطع، ولا نهاية لها، قال الماوردي (ت - 450هـ) رحمه الله: (كلما مضى حقب جاء حقب، وكذلك إلى الأبد)(36)
وقال القرطبي (ت - 671هـ) رحمه الله في كلام طويل له: (ماكثين في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكلما مضى حقب جاء حقب.. والمعنى في الآية: لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها.. وذكر الأحقاب لأن الحُقُب كان أبعد شيء عندهم، فتكلم بما تذهب إليه أذهانهم ويعرفونها، وهي كناية عن التأبيد، أي يمكثون فيها أبداً.. وإنما المعنى - و الله أعلم - ما ذكرناه أولاً: أي لابثين فيها أزماناً ودهوراً، كلما مضى زمن يعقبة زمن، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع)(37) ، وقال القاسمي(38) رحمه الله: (أي دهوراً متتابعة إلى غير نهاية)(39) .
وأما المعنى الثاني فهو: أنهم يلبثون أحقاباً ومدداً طويلة على نوع من العذاب، ثم يحدث الله لهم أنواعاً أخرى من العذاب، ويميل إلى هذا الإمام الطبري (ت - 310هـ) رحمه الله إذ يقول: (يحتمل أن يكون معنى ذلك: لابثين فيها أحقاباً في هذا النوع من العذاب أنهم: { لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً } [النبأ: 24 - 25] ، فإذا انقضت تلك الأحقاب صار لهم من العذاب أنواع غير ذلك، كما قال - جل ثناؤه - في كتابه: { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ *جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } [ص~: 55 - 58] ، وهذا القول عندي أشبه بمعنى الآية)(40) ، وقال الشوكاني (ت - 1250هـ) رحمه الله: (الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب)(41) . وكلا المعنيين يدل على التأبيد والخلود، فلا انقضاء لعذابهم، ولا يخفف عنهم من عذابها. نسأل الله السلامة والعافية.
والآيات في إثبات خلود أهل النار في النار، وأنهم لا يخرجون منها كثيرة جداً - غير ما ذكرت - فمنها قول الله سبحانه وتعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39] ، وقال - سبحانه -: { بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] ، ومنها قوله - تبارك وتعالى -: { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] ، وقال عزّ وجل: { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257] ، وقال سبحانه: { وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] ، وقال تعالى: { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } [آل عمران: 88] ، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 116] ، وقال: { وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 14] ، وقال تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63] ، وقال - سبحانه -: { وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [التوبة: 68] ، وقال تعالى: { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن: 23] .
والآيات كثيرة وصريحة في بيان أن أهل النار خالدون في النار خلوداً مؤبداً، وأن العذاب لا يخفف عنهم، وأنهم لا يخرجون من النار، وأنه كلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها زيادة لهم في العذاب، وأن هذا العذاب ليس مصروفاً عنهم، وأنهم ليس لهم في الآخرة إلا النار فلا يخرجون منها، وأنهم لا يقضى عليهم فيموتوا، وأن عذابهم مقيم دائم، وأن النار مؤصدة عليهم، نسأل الله أن يحفظنا بحفظه، وأن يجيرنا من عذاب النار، إنه سميع مجيب.
وأما الأحاديث الدالة على بقاء النار، واستمرار عذاب الكفار فيها فهي كثيرة - أيضاً - ومنها: قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون »(42) ، قال الإمام النووي (ت - 676هـ) رحمه الله: (الظاهر والله أعلم من معنى الحديث أن الكفار الذين هم أهل النار، والمستحقون للخلود لا يموتون فيها، ولا يحيون حياة ينتفعون بها، ويستريحون معها، كما قال الله تعالى: { لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] ، وكما قال تعالى: { ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 13] ، وهذا جار على مذهب أهل الحق أن نعيم أهل الجنة دائم وأن عذاب أهل الخلود في النار دائم)(43) .
وقال عليه الصلاة والسلام: «يجاء بالموت يوم القيامة، كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال. يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون ، وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: ويقال: يا أهل النار: هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون(44) وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح، قال: ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، قال: ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] ، وأشار بيده إلى الدنيا»(45) .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يُدخل الله أهل الجنة الجنة، ويُدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت كل خالد فيما هو فيه» (46).
وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وصار أهل النار إلى النار، أُتي بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادٍ: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم»(47).
وقال صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشفاعة الطويل: «.. فأقول: يارب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن - أي وجب عليه الخلود -»(48) .
قال الإمام النووي (ت - 676هـ) رحمه الله: (أي وجب عليه الخلود، وبيّن مسلم رحمه الله أن قوله: أي وجب عليه الخلود هو تفسير قتادة(49) الراوي(50) ، وهذا التفسير صحيح ومعناه: من أخبر القرآن أنه مخلد في النار وهم الكفار، كما قال الله تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [النساء: 48، 116] ، وفي هذا دلالة لمذهب أهل الحق، وما أجمع عليه السلف أنه لا يخلد في النار أحد مات على التوحيد والله أعلم)(51) . وقال الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله في معنى إلا من حبسه القرآن: (أي من أخبر القرآن أنه يخلد في النار)(52) .
وأما أقوال سلف الأمة وعلمائها في تقرير عقيدة خلود النار وبقائها أبد الآباد، وأنها لا تفنى، فهي متواترة يتلقاها اللاحق عن السابق، ولعلي أتوقف قليلاً؛ لأذكر نماذج من مقولاتهم في تقرير هذه العقيدة:
قال إمام أهل السنة الإمام أحمد (ت - 241هـ) رحمه الله: (وإن الله خلق الجنة قبل الخلق، وخلق لها أهلاً، ونعيمها دائم، ومن زعم أنه يبيد من الجنة شيء فهو كافر، وخلق النار قبل خلقه الخلق، وخلق لها أهلاً وعذابها دائم)(53) .
وقال أبو زرعة الرازي (ت - 264هـ) ، وأبو حاتم الرازي (ت - 273هـ) - رحمهما الله -: (والجنة حق، والنار حق، وهما مخلوقان لا يفنيان أبداً، والجنة ثواب لأوليائه، والنار عقاب لأهل معصيته إلا من رحم الله عزّ وجل)(54) .
وقال الطحاوي(55) رحمه الله: (والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً، ولا تبيدان) (56).
وقال الإمام البربهاري (ت - 329هـ) رحمه الله: (وكل شيء مما أوجب الله عليه الفناء يفنى، إلا الجنة والنار، والعرش والكرسي، والصور، والقلم، واللوح ليس يفنى شيء من هذا أبداً)(57) .
وقال الإمام الآجري (ت - 360هـ) رحمه الله: (وقد ذكر الله عزّ وجل في كتابه أهل النار الذين هم أهلها، يخلدون فيها أبداً.. وأن أهل النار الذين هم أهلها في العذاب الشديد أبداً)(58) .
وقال ابن أبي زمنين (ت - 399هـ) رحمه الله: (وأهل السنة يؤمنون بأن الجنة والنار لا يفنيان، ولا يموت أهلوها... ولو لم يذكر الله - تبارك وتعالى - الخلود إلا في آية واحدة لكانت كافية لمن شرح الله صدره للإسلام، ولكن ردد ذلك ليكون له الحجة البالغة)(59) .
وقال الإمام الصابوني (ت - 449هـ) رحمه الله: (ويشهد أهل السنة: أن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما باقيتان، لا يفنيان أبداً، وأن أهل الجنة لا يخرجون منها أبداً، وكذلك أهل النار الذين هم أهلها خلقوا لها، لا يخرجون منها أبداً)(60) .
وقد نقل ابن حزم (ت - 456هـ) رحمه الله الاتفاق والإجماع على أن الجنة والنار باقيتان، لا تفنيان، فقال: (اتفقت فرق الأمة كلها على أنه لا فناء للجنة ولا لنعيمها، ولا للنار ولا لعذابها..)(61) .
وقال في مراتب الإجماع: (وأن النار حق، وأنها دار عذاب أبداً، لا تفنى ولا يفنى أهلها أبداً بلا نهاية، وأنها أعدت لكل كافر مخالف لدين الإسلام) (62) ، وقال الأصبهاني (ت - 535هـ) رحمه الله: (والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان؛ لأنهما خلقتا للأبد لا للفناء)(63).
وقال - أيضاً -: (وليس تفنى الجنة والنار والعرش والكرسي واللوح والقلم، والصور، ليس يفنى شيء من هذه الأشياء)(64) .
وقال الحافظ عبد الغني المقدسي (ت - 600هـ) رحمه الله: (والإيمان بأن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً، خلقتا للبقاء لا للفناء، وقد صح في ذلك أحاديث عدة)(65) .
وقال ابن قدامة (ت - 620هـ) رحمه الله: (والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، فالجنة مأوى لأوليائه، والنار عقاب لأعدائه، وأهل الجنة مخلدون)(66) .
وقال القرطبي (ت - 671هـ) رحمه الله بعد أن ذكر الأحاديث الدالة على الخلود لأهل الدارين فيها: (هذه الأحاديث مع صحتها نص في خلود أهل النار فيها، لا إلى غاية ولا إلى أمد، مقيمين على الدوام والسرمد من غير موت ولا حياة، ولا راحة ولا نجاة...، فمن قال: إنهم يخرجون منها، أو أن النار تبقى خالية بجملتها خاوية على عروشها، وأنها تفنى وتزول فهو خارج عن مقتضى العقول، ومخالف لما جاء به الرسول، وما أجمع عليه أهل السنة والأئمة العدول)(67) .
وقال مرعي الحنبلي (ت - 1033هـ) رحمه الله: (اعلم - وفقك الله تعالى - أن مذهب أهل الحق هو الحق في كل مسألة، ومذهبهم أن الجنة والنار موجودتان الآن خلافاً للمعتزلة، وإنما هما باقيتان لا يفنيان، ولا يفنى أهلهما خلافاً للجهمية حيث ذهبوا إلى أنهما يفنيان ويفنى أهلهما)(68) .
وقال السفاريني(69) رحمه الله: في الدرة المضية:
واجزم بأن النار كالجنة في *** وجودها وأنها لم تتلف(70)
وقال الصنعاني(71) رحمه الله: (إن هذه المسألة وهي فناء النار لا تعرف في عصر الصحابة، ولا دارت بينهم، فليس نفي ولا إثبات، بل الذي عرفوه فيها هو ما في الكتاب والسنة من خلود أهل النار أبداً، وأن أهلها ليسوا منها بمخرجين، وعرفوا ما ثبت من خروج عصاة الموحدين)(72) .
وقال صديق حسن خان(73) رحمه الله: (والجنة دار أوليائه، والنار عقابه لأعدائه، وأهل الجنة فيها مخلدون، والمجرمون في عذاب جهنم { لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 75] ، وقد خلقت الجنة وما فيها، وخلقت النار وما فيها، خلقهما الله عزّ وجل قبل القيامة، وخلق لهما، ولا يفنيان أبداً)(74) .
وقال الشيخ حافظ حكمي(75) رحمه الله:
والنار والجنة حق وهما *** موجودتان لا فناء لهما(76)
ويعتقد الشيح حافظ (ت - 1377هـ) رحمه الله في الجنة والنار: (دوامهما وبقاؤهما بإبقاء الله لهما، وأنهما لا تفنيان أبداً، ولا يفنى من فيهما)(77) .
هذه نقولات لبعض مقولات سلف الأمة وعلمائها تبين عقيدة أهل السنة والجماعة في أبدية الجنة، وأبدية النار، وأن الله خلقهما للبقاء، لا للفناء، وقد آثرت إكثار النقل عن أئمة أهل السنة والجماعة، على مختلف العصور ليتبين أن هذه المسألة - أي أبدية النار - هي من العقائد المتواترة، المجمع عليها، والراسخة على مر العصور بين علماء أهل السنة والجماعة، ومن اعتمد على غير هذا القول فهو مائل عن الجادة، وغاية مستنده ومعتمده النصوص الضعيفة، أو الاستدلالات الواهية، أو الأقيسة العقلية الفاسدة وهذا ما سيتبين في هذا المبحث - إن شاء الله -:
وقبل مناقشة القائلين بفناء النار يحسن بي أن أعرض لمذاهب الناس في هذه المسألة، وهي ما نقلها أهل العلم في كتبهم، وهي ثمانية مذاهب:
الأول: أن كل من دخل النار لا يخرج منها أبد الآباد، وهذا قول الخوارج والمعتزلة، بناء على أصلهم الفاسد، في تكفير مرتكب الكبيرة، وإنكار الشفاعة.
الثاني : أن أهل النار يعذبون فيها، ثم تنقلب طبيعتهم، وتبقى طبيعة نارية يتلذذون بها؛ لموافقتها لطبعهم، وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي (ت - 638هـ)(78) .
الثالث : أن أهل النار يعذبون فيها إلى وقت محدود، ثم يخرجون منها، ويخلفهم فيها قوم آخرون، وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد أكذبهم الله - تعالى - في كتابه الكريم فقال: { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 80 - 81] .
الرابع : أن أهل النار يخرجون من النار بعد حين، ثم تبقى النار على حالها ليس فيها أحد (79).
الخامس : أن النار تفنى بنفسها؛ لأنها حادثة، وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه، وهذا قول الجهم (ت - 128هـ) ، ومن وافقه، وهؤلاء يقولون بفناء الجنة والنار.
السادس : أن الفناء يكون لحركات أهل النار، لا للنار، فيصير أهل النار جماداً، لا يحسون بألم، وهذا قول أبي الهذيل العلاف (ت - 235هـ) (80).
السابع : أن الله يخرج منها من يشاء، كما ورد في السنة ثم يبقيها ما يشاء ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه، وهؤلاء يقولون بفناء النار فقط(81) .
الثامن : أن الله - تعالى - يخرج منها من يشاء، كما ورد في السنة، ويبقي فيها الكفار، بقاءً أبدياً لا انقضاء له(82).
هذه مذاهب الناس في أبدية النار، أو فنائها، وسيكون النقاش للمذهب السابع الذي يرى دخول الكفار، وعصاة المؤمنين في النار، ويرى أن عصاة المؤمنين يعذبون ما شاء الله أن يعذبوا، ثم يخرجون بعد انقضاء مدة تطهيرهم، أو يخرجون من النار، بشفاعة الشافعين، وأما الكفار فإنهم يمكثون في النار آماداً طويلة إلى أن يأذن الله بفناء النار، فتفني، وينتهي العذاب.
فالآيات التي استدل بها القائلون بفناء النار، وهي آية سورة هود، وسورة النبأ، وغيرها، وقد مرَّ في بداية هذا المبحث ذكرها، وذكر أقوال المفسرين في بيان أنه لا دلالة لهم فيما استدلوا به، وإنما تدل على أن النار باقية لا تفنى كالجنة، ويمكن الوقوف بعض الوقفات - إضافة إلى ما ذُكر - في استدلالهم بالآيات على فناء النار:
أ - أن الآيات المجملة التي فرح بها القائلون بفناء النار، قد بينتها النصوص الأخرى من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية التي صرحت بأن أهل النار خالدون فيها أبداً، وظاهرها أنه خلود لا انقطاع له(83) .
ب - أن القائلين بفناء النار، قد فرّقوا بين النصوص الشرعية من حيث الدلالة من غير مفرِّق، أو مرجح، فقد ذكر الله الخلود في كتابه الكريم لأهل الجنة ولأهل النار، والخلود الذي علمنا به من النصوص الشرعية بقاء الجنة قد ذكر مثله في النار، وليس هناك دليل يصار إليه، وركن من الأدلة ركين يعتمد عليه في التفريق، خاصة إذا علمنا أن الخلود في كتب اللغة: (دوام البقاء في دار لا يخرج منها.. ودار الخلود الآخرة لبقاء أهلها فيها)(84) .
ج - أن الخلود في النصوص الشرعية مقابل بالموت الذي هو الفناء، فمن كان خالداً فهو لا يفنى كما قال سبحانه وتعالى: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 34 - 35] ، فالخلود دوام البقاء، والموت هو الفناء والزوال والانتهاء من هذه الدنيا.
د - أن الله عزّ وجل أخبر عن دوام النار، ودوام عذابها بنصوص أخرى بغير ألفاظ الخلود والتأبيد، فمما قاله - سبحانه -: { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [المائدة: 37] ، وقال: { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى} [طه: 74] ، وقال - سبحانه -: { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20] ، وقوله - سبحانه - عن أهل النار: { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77] ، وغيرها من الآيات الدالة على استمرار عذاب أهل النار إلى ما لا نهاية.
هـ - أن الآيات التي فيها الاستثناء بالمشيئة لا تستلزم فناء النار، وانقطاع عذاب أهلها من الكفار، بل لها معانٍ توقف المفسرون عندها - كما بينت ذلك - في عرضي للآيات، وأقوال المفسرين حولها في بداية هذا المبحث.
و - أن آية سورة النبأ دليل على الخلود من حيث معنى الأحقاب - كما تقدم -، ومن حيث سياق الآيات بعدها، فقد قال الله عزّ وجل في نهاية السياق: { إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40] . ففي هذه الآية دليل على أن الكافر يتمنى أن يكون تراباً، ولا يعذب في النار خالداً فيها، ولو كان يظن أن النار تفنى من الآن لظل على أمله، ورجائه في رحمة الله (85).
وأما الأحاديث والآثار التي يستدل بها القائلون بفناء النار، فلأهل العلم وقفات حولها:
أولاً : حديث: «ليأتين على جهنم يوم كأنها زرع هاج، وآخر تخفق أبوابها)(86) ، وهذا حديث باطل موضوع، وآفته: جعفر بن الزبير، وأيضاً الراوي عنه: عبد الله بن مسعر بن كدام.
أما جعفر بن الزبير، فقد وضع أربعمائة حديث على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكذبه شعبة بن الحجاج(87) ، وقال ابن معين (ت - 233هـ) رحمه الله: ليس بثقة. وقال البخاري (ت - 256هـ) رحمه الله: تركوه، وقال ابن عدي (ت - 365هـ) رحمه الله: الضعف على حديثه بيّن، وذكر الذهبي (ت - 748هـ) رحمه الله هذا الحديث، وقال: إسناده مظلم(88) .
وأما عبد الله بن مسعر فهو متروك - أيضاً - وذكر الذهبي (ت - 748هـ) رحمه الله حديثه هذا وقال: هذا باطل(89) .
ثانياً : الأثر المروي عن عمر بن الخطاب (ت - 23هـ) رضي الله عنه: (لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه)، وهذا الأثر ضعيف بسبب الانقطاع بين عمر (ت - 23هـ) والحسن البصري (ت - 110هـ) رحمه الله فلم يسمع الحسن (ت - 110هـ) من عمر (ت - 23هـ) رضي الله عنه، ومراسيل الحسن عند الأئمة واهية؛ لأنه كان يأخذ عن كل أحد، كما قال ذلك ابن سيرين (ت - 110هـ) رحمه الله(90) ، وإذا سقط سند هذا الحديث، ولم نحتجّ به لضعفه، لم يكن بنا حاجة إلى أن نوجه دلالته على أن المقصود به نار الموحدين (91).
ثالثاً : الأثر المروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص (ت - 65هـ) رضي الله عنهما قال: (ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً)، وهذا الأثر ضعيف لا يصح لا مرفوعاً ولا موقوفاً، وآفته: أبو أبلج يحيى بن سليم، وهذا الرجل ثقة في نفسه، إلا أن تضعيف الحفّاظ له جاء من قبل حفظه، فقال الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله عنه: (صدوق ربما أخطأ)(92) ، وقد جعل الإمام الذهبي (ت - 748هـ) رحمه الله هذا الحديث من بلاياه، وحكم عليه بأنه منكر(93) .
رابعاً : أثر أبي سعيد الخدري (ت - 74هـ) رضي الله عنه في قوله - تعالى -: { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] قال: هذه الآية قاضية على القرآن كله(94) .
وهذا الأثر وإن كان صحيحاً موقوفاً، إلا أنه لا دلالة فيه على فناء النار، بل كما يقول الإمام الصنعاني (ت - 1182هـ) رحمه الله: (غاية ما فيه أن كل وعيد في القرآن ذكر فيه الخلود لأهل النار، فإن آية الاستثناء حاكمة عليه، وهي عبارة مجملة لا تدل على المدعى بنوع من الدلالات الثلاث)(95) .
ويجاب - أيضاً - بأن هذا الأثر محمول على عصاة المؤمنين من الموحدين الذي يبقون في النار - ما شاء الله - ثم يخرجون منها بهذه المشيئة الربانية، وعلى هذا يبطل الاستدلال به على فناء النار.
خامساً : أثر عبد الله بن مسعود (ت - 32هـ) رضي الله عنه قال: (ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد)، وهذا الأثر رواه ابن جرير (ت - 310هـ) رحمه الله في تفسيره(96) بإسناد تالف مظلم(97) ، وأما البغوي(98) رحمه الله فقد ذكره بدون إسناد، ثم قال: (ومعناه عند أهل السنة - إن ثبت - أنه لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان، وأما مواضع الكفار فممتلئة أبداً)(99) .
سادساً : الأثر المروي عن أنس بن مالك (ت - 93هـ) رضي الله عنه: (ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها، وما فيها من أمة محمد أحد).
وهذا الأثر موضوع(100) ، وآفته: العلاء بن زيدل، فقد كان يضع الحديث كما قال البخاري (ت - 256هـ) وغيره: منكر الحديث(101) ، وقال أبو حاتم (ت - 277هـ) : هو متروك الحديث، قال ابن حبان (ت - 354هـ) : لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل التعجب(102) ، وذكر ابن عدي (ت - 365هـ) هذا الحديث في ترجمته وقال: (منكر الحديث)(103) ، وقال الذهبي (ت - 748هـ) : تالف، وذكر هذا الحديث(104) .
سابعاً : وأما الأثر المروي عن أبي هريرة (ت - 57هـ) رضي الله عنه قوله: (ما أنا بالذي لا أقول إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد)، وقد ذكره بسنده ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله في حادي الأرواح(105) ، وإسناده صحيح(106) ، ومع هذا فإنه لا يدل على فناء النار، بل لم يفهم رواته منه ذلك؛ ولذا قال أحد رواة الحديث وهو عبيد الله بن معاذ(107) كما في تتمة الأثر: (كان أصحابنا يقولون: يعني به الموحدين)(108).
ويجاب - أيضاً - على هذا الأثر بما أجاب الإمام الصنعاني (ت - 1182هـ) رحمه الله بقوله: (فإن قوله: (ليس فيها أحد) دال على بقائها، فإنك إذا قلت: ليس في الدار أحد، فإنه دال على بقاء الدار لا على فنائها)(109) .
ولو سلمنا أن هذا الأثر فيه دلالة على فناء النار فهو قول صحابي، لا يقف أمام النصوص الصحيحة من القرآن والسنة، واتفاق العلماء على عدم فناء النار، وبقائها أبد الآباد(110) .
وبهذا نعلم أنه لم يصح حديث أو أثر يثبت فناء النار، وأما ما صح سنده مما استدل به من قال بفناء النار فإنه لا يدل على فناء النار: - كما تم بيانه - ولله الحمد والمنة(111) .
ومما ينبغي أن يعلم في مقام مناقشة القائلين بفناء النار: أن دوام عذاب أهل النار من الكفار هو من حكمة أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى ولا ينافي ذلك حكمته، بل هو من حكمته، واستمرار عذابهم في النار لا يعارض رحمة أرحم الراحمين، فرحمته - سبحانه - لا تنافي حكمته، وحكمته عزّ وجل تقتضي دوام عذاب أهل النار من الكفار؛ لأن الله سبحانه وتعالى قضى وحكم في كتابه الكريم، وشرعه المطهر أن يستمر عذابهم، وقضاء الله سبحانه وتعالى مبني على حكمته - سبحانه - وفرقٌ بين عذاب الكفار الخُلَّص، وبين عذاب العصاة من المؤمنين، فعذاب الكفار هو للإهانة والانتقام فهو أبدي، وأما عذاب العصاة فهو للتطهير والتمحيص: فإذا مُحِصوا وطُهِروا خرجوا من النار(112) .
وأما من قال: إنه ليس من حكمته استمرار العذاب بالنسبة للكفار، فهذا ليس بصحيح، بل الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وليست هي اللين أو الضعف أو الرحمة لمن يستحقها ومن لا يستحقها، ولا يصح أن يقطع بأن هذا مخالف لحكمته حيث لم يرد نص يدل عليه، ولا هو مخالف لمجموع النصوص، أو هو مخالف لعدل الله عزّ وجل، وللأدلة العقلية، بل للمتأمل في حكمة الله عزّ وجل أن يقول: إن الحكمة تقتضي دوام عذاب الكفار.
ومن الحكم: دوام ظهور آثار أسماء الرب عزّ وجل التي بها تتحقق الألوهية، ويتحقق العقاب الرادع للكفار كالعزيز والقهار وغيرها.
ومن الحكم: جعل العقاب بحيث يترتب على العلم به غايته التي أُريد لأجلها من منع انتشار الكفر إلى حد يفسد الكون قبل أجله المسمى.
ومنها: جعل العقاب مناسباً للجريمة في عدم التناهي، لما علم من أن خبث الكفر لا حد له، هذا إضافة إلى ما ذكره أهل العلم من بعض الحكم من خلق الشرور(113) .
ومن حكمته - سبحانه - إنفاذ وعيد الكفار، بخلاف وعيد المؤمنين فيجوز إخلافه كما قال تعالى: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48، 116] أي ما دون الشرك من المعاصي، وقد أوجب الله على نفسه إنفاذ الوعيد في حق الكفار كما قال تعالى: { قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق~: 28 - 29] .
وقال سبحانه: { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان: 33] ، بعد قوله: { وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان: 33] ، وقال - سبحانه -: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } [الطور: 7] ، هذا إضافة إلى أن النصوص الشرعية قد أكدت وقررت دوام النار وعذابها لأهلها من الكفار، والله أعلم(114) .
وفي الجملة فإن القائلين بفناء النار يمكن أن يكون النقاش معهم على طرق متعددة - كما سبق - ويمكن أن يقال لهم: أين يذهب أهل النار بعد فناء النار؟ إن قيل: يبقون بلا عذاب، فهذا لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، فقد أخبر الله عزّ وجل أن الناس يوم القيامة فريقان لا ثالث لهما { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] ، وأخبر أن عذاب الكفار دائم لا يخفف عنهم، ولا هم ينظرون، وأنه لا يفتر عنهم، وأنهم ماكثون، وخالدون، ولو كانت النار تفنى لكان هذا من تخفيف العذاب عنهم.
وإن قيل: إنهم يموتون ويفنون بعد حين: فقد دل الدليل على خلافه؛ بأن أهل النار { لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] ، وما ورد في الحديث الصحيح من ذبح الموت حين يؤتى به على صورة كبش، ويقال لأهل الجنة ولأهل النار: خلود فلا موت.
وإن قيل إنهم يخرجون منها: فقد دل الدليل على خلافه، ذلك أن الله عزّ وجل قال عنهم: { كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: 22] ، ولم يحدد في النصوص مقرهم لو خرجوا منها، وهم - قطعاً - لا يذهبون إلى الجنة.
وتلاحظ الحرفية الزائدة، والظاهرية المتكلفة عند القائلين بفناء النار، فهم يذكرون أن الله سبحانه وتعالى أخبر بخلود أهل النار فيها، لكنه لم يخبر أنها لا تفنى!، وهل الخلود الأبدي إلا أبدية النار ودوام عذابها؟.
ويمكن أن يعكس عليهم الدليل فيقال: إن الله عزّ وجل لم يخبر عن النار أنها تفنى، بل ذكر المشيئة - كما ذكرها في الجنة -، ولأهل العلم تفسيرات لهذه المشيئة متعددة في خروج بعض أهل النار منها، بخلاف الجنة فمن دخلها فلا يخرج منها.
ثم إن القائلين بالفناء، غاية استدلالهم: إما بأحاديث وآثار غير صحيحة، وهذه لا يعوّل عليها في تقرير مسألة أو حكم شرعي، لاسيما الأحكام الاعتقادية التي هي من جملة اعتقاد المسلمين التي تتعلق باليوم الآخر والجزاء.
وإما بنصوص محتملة غير صريحة فهي من المتشابه المجمل. فترد إلى المحكم المبين وهي النصوص الواضحة.
ويحسن بعد مناقشة القائلين بفناء النار أن يُفرق بين قولهم هذا، وبين قول الجهمية القائلين بفناء الجنة والنار.
فمنشأ القولين مختلف: إذ منشأ قول الجهمية هو امتناع وجود مالايتناهى من الحوادث لا في الماضي ولا في المستقبل، وقد ناقشتهم في الفصل الثالث من هذا البحث.
يقول ابن أبي العز(115) رحمه الله: (وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط، لا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين، ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة، وكفرّوه به، وصاحوا به وبأتباعه من أقطار الأرض، وهذا قاله لأصله الفاسد الذي اعتقده وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث..)(116) .
وأما منشأ قول القائلين بفناء النار - وحدها - فهو الاعتماد على نصوص مجملة، أو ضعيفة لا تقوم بها حجة، والاعتماد على تغليب جانب الرحمة على الحكمة، فمنشأ قول أكثر هؤلاء بهذا هو الاعتماد على أحاديث وآثار ظنوا أنها تدل على ما ذهبوا إليه، ولذا لم يحكم أهل السنة على القائلين بهذا القول إنهم مبتدعة، بل قالوا: إنه خطأ صدر عن اجتهاد - لما قام في أذهانهم من صحة الأدلة التي استدلوا بها - وهو مغفور لهم - بإذن الله تعالى - كما جاء في الحديث الصحيح «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد »(117) ، يقول ابن تيمية رحمه الله في المسائل الاجتهادية: (وحقيقة الأمر: أنه إذا كان فيها - أي المسألة - نص خَفِيَ على بعض المجتهدين، وتعذر عليه علمه، ولو علمه لوجب عليه اتباعه، لكنه لما خفي عليه اتبع النص الآخر... والمجتهد المخطئ له أجر؛ لأن قصده الحق وطلبه بحسب وسعه، وهو لا يحكم إلا بدليل.. ففي الجملة: الأجر هو على اتباعه الحق بحسب اجتهاده، ولو كان في الباطن حق يناقضه هو أولى بالاتباع لو قدر على معرفته لكنه لم يقدر..)(118) .
ويفرق ابن تيمية رحمه الله بين العالم المتقدم الذي قال بقول يخالف الصواب، ويجانب الكتاب والسنة؛ لأجل أن الحجة لم تبلغه، فلم يعلم بالدليل المخالف لقوله، أو ظنه ضعيفاً، أو غير ذلك، وبين العالم الذي بلغته الحجة، وعلم الإسناد وصحته من ضعفه، وجمع الأدلة واتضحت له ثم هو يخالف ذلك كله إلى قول آخر، فالأول لا يبدع، والثاني يبدع، يقول رحمه الله: (إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت لعدم بلوغ الحجة له فلا يغتفر لمن بلغته الحجة. ما اغتفر للأول، فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك، ولا تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم فهذا أصل عظيم فتدبره فإنه نافع) (119).
 

المبحث الثاني
دعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار ومناقشتها

المطلب الأول
دعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار

يذكر المناوئون لابن تيمية رحمه الله مسألة فناء النار حين يذكرون المسائل المنتقدة عليه.
ويجعلون القول بفناء النار هو قول ابن تيمية رحمه الله الذي لا يقول بغيره في هذه المسألة، يقول الحصني (ت - 829هـ) : (واعلم أنه مما انتقد عليه زعمه أن النار تفنى، وأن الله - تعالى - يفنيها، وأنه جعل لها أمداً تنتهي إليه، وتفنى، ويزول عذابها، وهو مطالب أين قال الله عزّ وجل وأين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصح عنه) (120).
وذكر أن القول بفناء النار بعد أمد نزعة يهودية (121)، مستدلاً بقول الله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً}.
وقال المناوئون عنه: إنه يتابع الجهمية في شطر معتقدهم، فالجهمية يقولون بفناء الجنة والنار، وأما ابن تيمية رحمه الله فهو يقول بفناء النار (122).
وقالوا: إن القول بفناء النار كفر (123).
وأشار ابن حجر (ت - 852هـ) إلى ميل ابن تيمية رحمه الله إلى القول بفناء النار، فبعد أن ذكر الأقوال في فناء النار عن ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله ذكر القول السابع الذي هو القول بفناء النار ثم قال بعد ذلك: (وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول السابع، ونصره بعدة أوجه من جهة النظر، وهو مذهب رديء مردود على قائله، وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه فأجاد) (124).
ويقصد ابن حجر (ت - 852هـ) رحمه الله بهذا كتاب (الاعتبار ببقاء الجنة والنار) (125).


المطلب الثاني
مناقشة الدعوى

اعلم - وفقك الله لطاعته - أن الناس بعد ابن تيمية رحمه الله من محبيه ومن مناوئيه قد اختلفوا في بيان موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من هذه المسألة إلى ثلاثة أقوال:
الأول : القائلون بأنه يقول بفناء النار، وهذا قول عامة مناوئيه، وهو قول بعض من يوافقه في الاعتقاد، ويثني عليه في المسائل الأخرى (126)، وقد قال الصنف الثاني بهذا القول ومالوا إليه تأثراً بأقوال المناوئين، وقوة عرضهم للمسألة، وصاحب ذلك عدم بحث وتدقيق وتحقيق لهذه المسألة في كتب شيخ الإسلام في مظانها وغير مظانها.
الثاني : القائلون بأنه لا يقول بفناء النار، وأنه يرى خلودها كالجنة؛ اعتماداً على أن هذا قول السلف، وهو يقول به؛ إذ هو يعد من أكبر شراح عقيدة السلف، هذا إضافة إلى اعتمادهم على نصوص من كتب ابن تيمية رحمه الله تثبت أبدية النار.
وكذلك: عدم وقوفهم على نصوص أخرى تقابل هذه النصوص في أنه يرى فناء النار، ولو ذُكر لهم بعض النصوص المجملة المتشابهة لشككوا في دلالتها على المراد، أو في صحة نسبتها إلى ابن تيمية رحمه الله (127).
الثالث : وقالت طائفة ثالثة بأن ابن تيمية رحمه الله يميل إلى القول بفناء النار، لكنه لا يصرح بذلك، وقالوا بهذا القول لما وقفوا على بعض أقوال له رحمه الله لا تنص على فناء النار، إلا أن مجمل الكلام يشعر بأنه يرتضي هذا القول، وإن لم يصرح به، مع وقوفهم على أقوال له أخرى تدل على أنه يرى أبدية النار، فخرجوا بهذا القول ويرون أنه وسط بين الأقوال وهو الحكم بميل ابن تيمية رحمه الله إلى القول بفناء النار (128).
وسيركز البحث هنا على استقراء النصوص الواردة عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حول هذه المسألة من كتبه، سواء أكانت نصوصاً تشعر بالقول بفناء النار، أم النصوص الصريحة في عدم فناء النار، ثم دراسة دلالة هذه النصوص.
وتنقسم هذه النصوص إلى قسمين:
أ - نصوص يستدل بها القائلون بأنه يقول بفناء النار، أو يميل إلى القول به.
ب - ونصوص يستدل بها القائلون بأن ابن تيمية رحمه الله يرى أبدية النار موافقاً بذلك أئمة المسلمين في القول الصواب في هذه المسألة.
فأما القسم الأول من هذه النصوص: فمنها قوله رحمه الله: (لم أجد نقلاً مشهوراً عن أحد من الصحابة يخالف ذلك، بل أبو سعيد وأبو هريرة هما رويا حديث ذبح الموت، وأحاديث الشفاعة، وخروج أهل التوحيد، وغيرهما، قالا في فناء النار ماقالا) (129)، وقال رحمه الله: (لكن إذا انقضى أجلها، وفنيت كما تفنى الدنيا، لم يبق فيها عذاب) (130).
وقال: (وحينئذ، فيحتج على فنائها بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة - مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب، ولا سنة، ولا أقوال الصحابة..) (131).
وقال: (ليس في القرآن ما يدل على أنها تفنى، بل الذي يدل عليه ظاهر القرآن أنهم خالدون فيها أبداً...) (132).
وقال - أيضاً -: (أحدها: أن الله أخبر ببقاء نعيم الجنة ودوامه، وأنه لا نفاد له ولا انقطاع في غير موضع من كتابه، كما أخبر أن أهل الجنة لا يخرجون منها، وأما النار وعذابها فلم يخبر ببقاء ذلك، بل أخبر أن أهلها لا يخرجون منها.
الثاني : أنه أخبر بما يدل على أنه ليس بمؤبد في عدة آيات.
الثالث : أن النار لم يذكر فيها شيء يدل على الدوام) (133).
وقال - أيضاً -: (فإذا قدر عذاب لا آخر له، لم يكن هناك رحمة ألبته) (134).
ويلاحظ في هذه النصوص أنها جميعاً منقولة من كتاب واحد فقط، وهو (الرد على من قال بفناء الجنة والنار)، ويلاحظ - أيضاً - من قراءة الكتاب أن ابن تيمية رحمه الله كان يظن صحة الآثار الواردة عن بعض السلف في فناء النار، ولذا حاول توجيه دلالة الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية إلى معنى الآثار التي ظن رحمه الله صحتها.
وأما القسم الثاني من هذه النصوص: وهي التي وافق فيها ابن تيمية رحمه الله القول الصواب في المسألة، وهو القول بأبدية النار، وعدم فنائها فمنها (135):
1 - حين سئل رحمه الله عن حديث فيه ذكر الأمور التي لا تفنى، أجاب بأن هذا من كلام بعض العلماء، وليس من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال في نص صريح: (وقد اتفق سلف الأمة، وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم، ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار، والعرش وغير ذلك) (136)، فهذه حكاية للإجماع، واتفاق من إجماعه حجة، ولا يسوغ مخالفة هذا الاتفاق، ولذا قال رحمه الله في لاميته:
والنار يصلاها الشقي بحكمة *** وكذا التقي إلى الجنان سيدخل (137)
2 - حكى ابن حزم (ت - 456هـ) رحمه الله الإجماع على أن النار لا تفنى كالجنة، في قوله: (وأن النار حق، وأنها دار عذاب أبداً لا تفنى، ولا يفنى أهلها أبداً، بلا نهاية، وأنها أعدت لكل كافر مخالف لدين الإسلام، ولمن خالف الأنبياء السالفين قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعليهم الصلاة والتسليم، وبلوغ خبره إليه) (138)، ولم يتعقبه ابن تيمية رحمه الله -، ولو كان يرى فناء النار لتعقبه، ونقده في كتابه (نقد مراتب الإجماع لابن حزم)، فلما لم يتعقبه دل ذلك بدلالة المفهوم أنه رحمه الله يرى ما يراه ابن حزم (ت - 456هـ) رحمه الله من القول بأبدية النار.
3 - في مناقشة مسألة (التسلسل) ذكر أن التسلسل في المستقبل جائز عند جماهير المسلمين وغيرهم من أهل الملل، وغير أهل الملل، ثم قال: (فإن نعيم الجنة، وعذاب النار دائمان، مع تجدد الحوادث فيهما) (139)، فتقريره رحمه الله وجزمه بدوام عذاب أهل النار، كدوام نعيم أهل الجنة دليل على أنه يرى في النار من حيث الأبدية كما يرى في الجنة، وعقب على ذلك بتجدد الحوادث فيهما، واستمرارها إلى مالا نهاية.
4 - ناقش رحمه الله المتكلمين القائلين بأن أجسام العالم تفنى حتى الجنة، والنار - أيضاً -، وحكم على هذا القول بأنه - بدعة باطلة باتفاق سلف الأمة وأئمتها، فقال: (وهذا الذي يذكره كثير من أهل الكلام الجهمية، ونحوه في الابتداء نظير ما يذكرونه في الانتهاء من أنه تفنى أجسام العالم حتى الجنة والنار، أو الحركات... وهذا الذي ابتدعه المتكلمون باطل باتفاق سلف الأمة وأئمتها) (140).
5 - قرر رحمه الله أن القرآن الكريم قد أخبر ببقاء الجنة، وبقاء النار بقاءاً مطلقاً، يمتنع معه الفناء، وأما الذي لم يرد في القرآن فهو تفاصيل ما سيكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، قال رحمه الله: (ثم أخبر ببقاء الجنة والنار بقاءاً مطلقاً، ولم يخبرنا بتفصيل ما سيكون بعد ذلك..) (141).
6 - نقل رحمه الله عن الأشعري (ت - 324هـ) الخلاف في أفعال الله هل لها آخر أم لا آخر لها؟ وقد ذكر الأشعري (ت - 324هـ) رحمه الله قول الجهمية في هذه المسألة وهو قولهم بأن لها آخراً، وهذا هو الذي بنوا عليه مذهبهم في أن الجنة والنار تفنيان، ويفنى أهلهما، حتى بيقى الله - سبحانه - آخراً لا شيء معه، ثم قال بعد ذلك:
(وقال أهل الإسلام جميعاً: ليس للجنة والنار آخر، وإنهما لا تزالان باقيتين، وكذلك أهل الجنة لا يزالون في الجنة يتنعمون، وأهل النار لا يزالون في النار يعذبون، وليس لذلك آخر) (142)، وقد نقل هذا النص ابن تيمية رحمه الله مقراً له ومؤيداً، ولم يتعقبه، أو يرد عليه فدل على أنه يرى ما يراه أهل الإسلام جميعاً (143).
7 - نقل ابن تيمية رحمه الله عن ابن خفيف (144) رحمه الله من كتابه (اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات) (145) نقولاً كثيرة في الفتوى الحموية (146)، وقد نقل عنه مرتضياً كلامه قوله: (ونعتقد أن الله خلق الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان للبقاء لا للفناء) (147).
8 - نقل في تفسير قول الله عزّ وجل: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] قول الضحاك (148)- مرتضياً له - في أن كل شيء يهلك إلا الله والجنة والنار والعرش (149).
9 - فرّق رحمه الله بين الكفار، وعصاة المؤمنين في المآل، فالكفار محلهم النار، ولا يخرجون منها، وأما عصاة المؤمنين فيدخلون النار، ثم يخرجون من النار، قال رحمه الله: (ومما يبين الفرق - أيضاً - أنه - سبحانه - قال هناك: { وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} [الأحزاب: 57] ، والعذاب إنما أعد للكافرين؛ فإن جهنم لهم خلقت؛ لأنهم لابد أن يدخلوها، وما هم منها بمخرجين، وأهل الكبائر من المؤمنين يجوز أن يدخلوها إذا غفر الله لهم، وإذا دخلوها فإنهم يخرجون منها ولو بعد حين، قال سبحانه: { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] ، فأمر - سبحانه - المؤمنين أن لا يأكلوا الربا، وأن يتقوا الله، وأن يتقوا النار التي أعدت للكافرين، فعُلم أنهم يُخاف عليهم من دخول النار إذا أكلوا الربا وفعلوا المعاصي، مع أنها معدة للكافرين لا لهم) (150).
10 - في تفسير قول الله تعالى: { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 11 - 13] ، قسّم الصلي إلى قسمين: صلي خلود وهو صلي مطلق، وصلي مؤقت وهم الذين يدخلون النار ثم يخرجون منها.
فقال رحمه الله: (وتحقيقه: أن الصلي هنا هو الصلي المطلق، وهو المكث فيها والخلود على وجه يصل العذاب إليهم دائماً.
فأما من دخل وخرج فإنه نوع من الصلي، ليس هو الصلي المطلق) (151).
وفي تفسير قوله تعالى: { لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى } [الليل: 15 - 17] ذكر قولين للمفسرين ارتضى قول: (لا يصلونها صلي خلود) قال: (وهذا أقرب) (152).
فدل على أن غير المتقين من الكفار يصلونها صلي خلود دائم، يتجدد معه العذاب إلى ما لا نهاية.
هذه النصوص تدل دلالة ظاهرة على أن ابن تيمية رحمه الله يقول بأبدية النار، واستمرار عذابها، ويبقى بعد عرض هذه النصوص، والنصوص التي قبلها تمييز القول الذي يمكن أن يُعد قولاً لابن تيمية رحمه الله في مسألة فناء النار أو أبديتها، ولترجيح أحد الأقوال على غيرها يمكن أن أضع بعض المقدمات والملاحظات التي تساعد في الترجيح:
أولاً : أن جميع الأقوال التي استدل بها القائلون بأنه يرى فناء النار، إنما استندوا إلى كتاب واحد، وهو (الرد على من قال بفناء الجنة والنار)، ولم تكن المعلومات متوفرة عن الكتاب - سابقاً -، حتى ظن البعض أن الردود على ابن تيمية رحمه الله كانت ردوداً على ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله في (حادي الأرواح) (153)؛ ذلك أن ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله قد نقل أغلب كتاب ابن تيمية رحمه الله آنف الذكر في كتاب (حادي الأرواح)، إضافة إلى أن المطبوع من كتاب ابن تيمية رحمه الله لم يخل - أيضاً - من بعض الملحوظات - كما سيأتي -.
وأما قول القائلين بأنه يقول بأبدية النار، فينقلون نصوصاً مبثوثة في أغلب كتب ابن تيمية رحمه الله كمنهاج السنة، ودرء تعارض العقل والنقل، وبيان تلبيس الجهمية، وغيرها، وهذا مظنة تأييده ونصرته لهذا القول، بخلاف القول الأول الذي لم تكن مادته إلا من كتاب واحد، قد يكون لتأليفه، وكتابته، ثم مخطوطاته، ومَن نَسخها ظروف قد تضعف من دلالة هذه النصوص - كما سيأتي -.
ثانياً : أن النصوص التي يستدل بها القائلون بأن ابن تيمية رحمه الله يرى فناء النار مجملة، غير صريحة في أنه يرى فناء النار، أما النصوص التي يستدل بها القائلون بأنه يرى أبدية النار، فهي مبينة صريحة في أنه يرى أبديتها، ومن القواعد المقررة عند أهل العلم أن المجمل مما في نصوص الكتاب والسنة يرد إلى المحكم، ولا يتعلق بالمتشابه والمجمل ويترك المحكم والمبين إلا أهل الزيغ والضلال كما قال تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] ويؤيد هذا القول حكايته اتفاق سلف الأمة، وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة على أبدية النار (154)، وهذا كافٍ في أنه يقول بهذا القول وينصره.
ثالثاً : أن كتاب ابن تيمية رحمه الله الموجود (الرد على من قال بفناء الجنة والنار)، لم يخل من بعض الخروم - في نظري - ومن الملحوظات عليه ما يلي:
أ - أن بداية الكتاب لم يفتتح بالبسملة والحمدلة، كغيره من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بل ابتدأ بكلام معطوف على ما قبله، وهو قوله: (وللناس في ذلك أقوال..) (155) ثم ذكرها.
ب - أن المخطوط ابتدأ بذكر: (فصل في فناء الجنة والنار) (156)، وهذه قرينة على أن هذا ليس أول كلامه رحمه الله في الرسالة، خاصة وأن الاعتماد في الصفحات الأولى في الكتاب على نسخة واحدة، وهي المقطع الأول من نسخة دار الكتب المصرية (157).
ج - تدخل النُسَّاخ في صلب الرسالة، فقالوا: (وقد تكلم الشيخ رحمه الله على الجهمية والهذيلية (158)... ورجح أدلة أهل السنة، وهدم شبه أهل البدعة، وأشار إلى بعض أدلة غلبة الرضا على الغضب..) (159)، وهذا كله ليس من كلام ابن تيمية رحمه الله -.
د - أن ابن تيمية رحمه الله قال في الكتاب: (والفرق بين بقاء الجنة والنار: شرعاً وعقلاً، فأما شرعاً فمن وجوه) (160)، ثم ذكر ثمانية أوجه شرعية، ولم يذكر الأوجه العقلية، حيث انتهت نسخة المكتب الإسلامي، وأكمل من نسخة دار الكتب المصرية في موضوع آخر قد ذُكر في بداية الكتاب حين رد على الجهمية وهو آيات بقاء الجنة وقد ذكرها بحرف العطف على ما قبلها (وأما آيات بقاء الجنة) (161)، ولم يكن ما قبلها يصح أن يعطف عليه ما بعده، والله أعلم.
هـ - أن الإمام الصنعاني (ت - 1182هـ) رحمه الله في رده على ابن تيمية رحمه الله ذكر بعض النصوص، والأحاديث التي لم ترد في الكتاب المطبوع، وهي النصوص التي فيها تغليب جانب الرحمة، قال الصنعاني (ت - 1182هـ) رحمه الله: (ثم استدل شيخ الإسلام على سعة رحمة الله - تعالى -، وأنها أدركت أقواماً ما فعلوا خيراً، وساق أحاديث دالة على أن الرحمة أدركت من كان من عصاة الموحدين..) (162) وقد نقلت كلام النُسّاخ لكتاب ابن تيمية رحمه الله في ذكرهم أن ابن تيمية رحمه الله أشار إلى بعض أدلة غلبة الرضا على الغضب (163).
وقد ذكر الصنعاني (ت - 1182هـ) رحمه الله بعض الأدلة التي استدل بها ابن تيمية رحمه الله ومنها حديث الرجل الذي أوصى أهله أن يحرقوه إذا مات (164)، وأحاديث أخرى (165)، ولم يرد ذكر هذه الأحاديث في الكتاب المطبوع.
رابعاً : أن كتاب ابن تيمية رحمه الله لا يدل على أنه يقول بفناء النار، وذلك لأمور:
1 - أن ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله تعالى - وهو الذي نقل أغلب أجزاء كتاب ابن تيمية رحمه الله في كتاب (حادي الأرواح)، وهو يرتضي ما يقول به، لم يصرح بالقول بفناء النار، إنما اكتفى بذكر قول الله - تعالى -: { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ، ولو كان قال ابن تيمية رحمه الله غير ذلك لقاله، أو لناقشه ورد عليه، لكنه لم يفعل، فصار ذلك قرينة على أن ابن تيمية رحمه الله لم يصرح بالقول بفناء النار في هذا الكتاب.
2 - أن الكتاب قائم على حكاية قول القائلين بفناء النار على هيئة مناظرة وحوار، فذكر أدلة الطائفتين، وحين ذكر أدلة القائلين بفناء النار عرضها عرضاً يوحي بأنه منهم، ويستند هذا التعليل إلى أمور منها:
أ - أن ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله حين ذكر أدلة القائلين بأبدية النار ودوامها وبدأ مناقشة هذه الأدلة، صرّح بأنه يحكي هذا القول فقال: (قال أصحاب الفناء: الكلام على هذه الطرق يبين الصواب في هذه المسألة) (166).
وحين انتهى من ذكر مناقشاتهم قال: (فهذا نهاية أقدام الفريقين في هذه المسألة) (167).
ب - أن ابن تيمية رحمه الله ذكر في أبدية النار اتفاق سلف الأمة، وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة على هذا، ولا يسع ابن تيمية رحمه الله وأمثاله أن يخالف هذا الاتفاق، ولا سيما أنه حكى قول القائلين بالفناء بأنه يحتج على فناء النار بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنة، ولا أقوال الصحابة (168)، فكيف يحكي الاتفاق والإجماع على مسألة، ويركز عليها في كتبه المتعددة. ثم هو يقول بهذا النص، لا شك أن هذا النص هو حكاية لقول القائلين بالفناء لا أنه يرتضيه.
ج - يتفق ابن تيمية رحمه الله وابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله أنهما حكيا قول القائلين بالفناء، وذلك؛ لأن ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله نقل أغلب كلام ابن تيمية رحمه الله الذي ذكره في كتابه (الرد على من قال بفناء الجنة والنار)، وذلك بعدما سأل ابن القيم (ت - 761هـ) شيخه ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة (169)، ثم يجمعهما - أيضاً - أنهما قالا بقول أهل السنة والجماعة في أبدية النار في مواضع متعددة من كتبهما.
أما ابن تيمية رحمه الله فقد ذكرت في هذا المبحث ما وقفت عليه من كلامه الصريح في أبدية النار، وأما ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله فهو - أيضاً - له كلام صريح في أبدية النار في بعض كتبه، فقد قال رحمه الله: (وأما النار فإنها دار الخبث في الأقوال والأعمال والمآكل والمشارب، ودار الخبيثين، فالله - تعالى - يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه كما يركم الشيء لتراكب بعضه على بعض، ثم يجعله في جهنم مع أهله، فليس فيها إلا خبيث، ولما كان الناس على ثلاث طبقات:
طيب لا يشوبه خبث، وخبيث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب، كانت دورهم ثلاثة: دار الطيب المحض، ودار الخبث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان. ودار لمن معه خبث وطيب، وهي الدار التي تفنى، وهي دار العصاة، فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد) (170).
ونقل ابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله عقيدة ابن الحداد (171) رحمه الله وفيها (الجنة حق والنار حق وأنهما مخلوقتان لا يبيدان ولا يفنيان) (172)، وقد أقره على ذلك ووافقه (173).
خامساً : مما يدل على أن ابن تيمية رحمه الله وابن القيم (ت - 751هـ) رحمه الله لم يقولا بفناء النار أنه لم ينقل أحد من تلامذتهما عنهما هذا القول، ولم يقل به أحد منهم، وتلاميذهما علماء محققون وهم كُثُر، ومن الأمثلة على ذلك أن الإمام الذهبي (ت - 748هـ) رحمه الله لما ذكر سيرة ابن برهان (174)، وهو من القائلين بفناء النار من علماء القرن الخامس (175)، ردّ عليه وقال: قلت: (حجته في خروج الكفار هو مفهوم العدد من قوله: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً } [النبأ: 23] ، ولا يتفق ذلك لعموم قوله: { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167] ولقوله: { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } [النساء: 169] إلى غير ذلك) ثم ذكر أنه أفرد بحث هذه المسألة في جزء (176).
وكذلك الحافظ ابن كثير (ت - 774هـ) رحمه الله لما ذكر في ترجمة ابن برهان (ت - 456هـ) قوله بفناء النار، نقل كلاماً لابن الجوزي (ت - 597هـ) مرتضياً له في أن القول بهذا يخالف اعتقاد المسلمين (177).
وقال الحافظ ابن رجب (ت - 795هـ) رحمه الله: (وعذاب الكفار في النار لا يفتر عنهم، ولا ينقطع، ولا يخفف بل هو متواصل أبداً) (178).
وقال: (ولا يزال أهل جهنم في رجاء الفرج إلى أن يذبح الموت، فحينئذ يقع منهم الإياس، وتعظم عليهم الحسرة والحزن) (179).
وفي مقابل ذلك لم نجد من التلامذة من يذكر قولاً لابن تيمية رحمه الله في فناء النار، ولا رداً عليه في أي من كتبهم.
سادساً : على التسليم بأن كتاب ابن تيمية رحمه الله (الرد على من قال بفناء الجنة والنار) فيه تأييد ونصرة للقول بفناء النار، فإن الذي يغلب على ظني وتقديري أن هذا الكتاب ليس من آخر ما كتب ابن تيمية رحمه الله -، فإن الكتب المتأخرة هي التي ذكر فيها ابن تيمية رحمه الله أبدية النار، فدرء تعارض العقل والنقل، تم تأليفه في السنوات من عام 713هـ إلى عام 717هـ (180)، وكتاب (منهاج السنة النبوية) كان تأليفه عام 710هـ تقريباً (181)، وفي تأريخ قريب منه كتاب (بيان تلبيس الجهمية) فقد أُلف هذان الكتابان مع غيرهما في مصر من عام (705 - 712هـ) (182)، وهذه الكتب قد ذكر فيها ابن تيمية رحمه الله القول بأبدية النار، وصرح بوضوح برأيه في هذه المسألة، وتعد هذه الكتب من مؤلفات ابن تيمية رحمه الله المتأخرة؛ فقد بدأ التأليف في مرحلة مبكرة، أي - تقريباً - قبل تأليف (درء تعارض العقل والنقل) بثلاثين سنة فأكثر، كما يقول ابن تيمية رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل: (وقد كنا صنفنا في فساد هذا الكلام مصنفاً قديماً من نحو ثلاثين سنة) (183)؛ ولذا فالغالب على الظن أن تكون الكتب التي يصرح فيها بأبدية النار هي المتأخرة زمناً، إذ هي من أواخر مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -، وأما الكتاب الذي يحوي في طياته ألفاظاً مجملة عن الموضوع فالذي يغلب على الظن أنه قد تم تأليفه في مرحلة مبكرة من وقت ابن تيمية رحمه الله الطويل الذي قضاه في التأليف (184)، وهذا قول بعض المحققين (185).
وفي الجملة فالذي يترجح لدي - والله أعلم - أن ابن تيمية رحمه الله يقول بما قال به سلف الأمة، وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة من أن النار لا تفنى ولا تبيد كالجنة، وهذا هو الذي يصرح به في عامة كتبه والله أعلم وأحكم.
وإذا كان هذا هو قول ابن تيمية رحمه الله -، فلست في حاجة - بعد ذلك - أن أبين أقوال المعتذرين لابن تيمية رحمه الله عن مقالاته التي يظنون أنه بها يقول بفناء النار، أو مناقشة أقوال المكفرين له (186)؛ لأجل قوله بهذه المسألة (187)، والله أعلم.
 

( نقلا عن كتاب " دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية " للدكتور عبدالله الغصن - وفقه الله ، طبع دار ابن الجوزي بالدمام ، ومن أراد الهوامش فعليه بالكتاب .. ).
 

دعاوى المناوئين

  • ترجمة ابن تيمية
  • دعوى المناوئين
  • مواضيع متفرقة
  • كتب ابن تيمية
  • الصفحة الرئيسية