اطبع هذه الصفحة


المعاول التيميّة على القواعد الداعشيّة (2)
22/ 9/ 1437 هــ

بدر العامر
@bader_alamer


المعاول التيميّة على القواعد الداعشيّة (1)

6- ابن تيمية : بين أحكام الكفر والتكفير


الحديث في هذا الموضوع موجه إلى المذاهب السنية وفرق أهل القبلة ، لكنه ليس موجهاً لنوعين من الناس :
أ- الملاحدة ، لأن الحديث مع الملاحدة لا ينبغي ان يكون في جزئيات مسائل العلم والعمل ، فالخلاف معهم أصلي ولابد أن يكون في إثبات الإله أولاً ، ومن ثم إثبات النبوة ثانياً .
ب- من يتبنى مرجعية " وضعية " ينطلق منها في تحقيق المسائل ، فهؤلاء وأمثالهم من العلمانيين والليبراليين يتخذون من الفكرة الغربية حاكماً على المسائل ، ولذلك لا يوجد مرجعية مشتركة بين الفريقين ، و الحوار معهم لابد أن يكون حول مرجعية " الشريعة " في بيان الأحكام الشرعية ومن ضمنها قضايا الأسماء والأحكام والتكفير .

وقد لاحظت أن كثيراً ممن ينتقد ابن تيمية يخلط بين أمرين :

الأمر الأول : أحكام الكفر والإيمان ، وهي الأحكام الشرعية المتعلقة بالافعال والأقوال التي تنقل الإنسان من الإسلام إلى الكفر ، وهي داخلة في العلميات " في أبواب العقائد " وفي " العمليات " في أبواب الفقه ( أقوال وأفعال ) ، وهذه يذكرها العلماء في أبحاث علمية قائمة على النقاش والتأصيل العلمي ، فيحكمون على أفعال وأقوال بانها كفر ، وغالباً ما تكون هذه المباحث في كتب الفقه تحت ( باب أحكام الردة والمرتد ) ، لما يترتب على " الردة " من آثار عملية واجتماعية كالزواج والميراث والتغسيل والدفن والعقوبة وغيرها ، ولا يكاد يخلو كتاب فقهي من كتب الأئمة الأربعة والمذاهب الإسلامية بمختلف فرقها إلا وتجد حديثاً عن أحكام الكفر والإيمان ،بم يكون الإنسان مؤمناً ، وبم يكون مرتداً أو كافراً .
وهذا النوع يسمى ( التكفير المطلق ) وهو ( تكفير النوع ) ، أي إثبات الحكم مطلقاً على الأقوال والأفعال مجردة عن قائليها .
فيتوجه الحديث فيه عن القول والفعل لا عن القائل والفاعل ، وفي الكتاب والسنة نصوص كثيرة في بيان الكفر المطلق على أقوال وأفعال مثل قوله تعالى : ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونعلب ، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون ، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) ، فهذه الآية وإن كانت نزلت بسبب معين ، إلا أنها تدل على أن هذا الفعل - وهو الاستهزاء بالله وآياته ورسوله - وكفر ينقل الإنسان من الإيمان إلى الكفر ، ومثله ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :(من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ) ، ثم يختلف العلماء بعد ذلك في هذه النصوص موضحين هل هو كفر ينقل من الملة " أكبر " أو كفر لا ينقل من الملة " أصغر " وهل يشترط في بعضها الاستحلال أو لا يشترط ويكتفى بالفعل المجرد ، وهذا الأمر ليس خاصاً بالإسلام فحسب ، بل كل دين من الأديان عنده باب ردة وخروج منه ، وعنده شرائط من لم يلتزمها لا يوصف بالوصف الدال على الانتساب إلى هذا الدين او هذا المذهب .
ومن يطالع كتب المذاهب الفقهية الإسلامية يجدها طافحة بهذا النوع من الأحكام ، ولا يوجد مذهب يمكن أن يقال بأنه خال منها ، ويمكن أن نضرب لهذا النوع بعض الأمثلة من كتب المذاهب المختلفة ، وإلا لو تتبعنا كل ما قيل فيه لاحتاج الأمر إلى مجلدات .

*
قال تقي الدين السبكي المحدث الشافعي الصوفي الأشعري : (وهكذا إذا سب واحدا من الصحابة حيث هو صحابي لأن ذلك استخفاف بحق الصحبة ففيه تعرض إلى النبي عليه السلام فلا شك في كفر الساب , وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول الطحاوي وبغضهم كفر فإن بغض الصحابة بجملتهم لا شك أنه كفر ) ( الفتاوي ) .
وقال : ولا خلاف عند الأشعري وأصحابه بل وسائر المسلمين أن من تلفظ بالكفر أو فعل أفعال الكفر أنه كافر بالله العظيم مخلد في النار وإن عرف قلبه ” اهـ.

* قال الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة ) : أيما رجل مسلم سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كذبه أو عابه أو تنقصه؛ فقد كفر بالله وبانت منه زوجته؛ فإن تاب وإلا قتل ) . كتاب الخراج

* قال الإمام محيي الدين النووي الشافعي في كتاب الردة :( هي - أي الردة - قطع الإسلام ، ويحصل ذلك تارةً بالقول الذي هو كفرٌ ، وتارةً بالفعل ، والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمُّد واستهزاءٍ بالدِّين صريحٌ ، كالسُّجود للصَّنم أو للشمس ، وإلقاء المصحف في القاذورات . والسِّحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها ( .

* قال الشيخ عبدالله أحمد عليش المالكي : ( وسواء كفر بقول صريح في الكفر كقوله كفرت بالله أو برسول الله أو بالقرءان أو إلاله اثنان أو ثلاثة أو المسيح ابن الله أو العزير ابن الله أو بلفظ يقتضيه أي يستلزم اللفظ للكفر استلزاما بينا كجحد مشروعية شىء مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، فإنه يستلزم تكذيب القرءان أو الرسول، وكاعتقاد جسمية الله وتحيزه..أو بفعل يتضمنه أي يستلزم الفعل الكفر استلزاما بينا كإلقاء أي رمي مصحف بشىء قذر)

* قال موفق الدين ابن قدامة المقدسي الحنبلي : (باب حكم المرتد : وهو الذي يكفر بعد إسلامه. فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو وحدانيته أو صفة من صفاته أو اتخذ لله صاحبة أو ولدا أو جحد نبيا أو كتابا من كتب الله تعالى أو شيئا منه أو سب الله تعالى أو رسوله كفر. ومن جحد وجوب العبادات الخمس أو شيئا منها أو أحل الزنا أو الخمر أو شيئا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها لجهل عرّف ذلك، وإن كان ممن لا يجهل ذلك كفر ) كتاب المقنع .

*
وجاء في كتاب الوسائل للحر العاملي في المذهب الشيعي الإمامي : (قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : «كلّ مسلم بين مسلمين ارتدّ عن الإسلام وجحد محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نبوّته وكذّبه فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلك منه ، وامرأته بائنة منه يومرتدّ ، ويقسّم ماله على ورثته وتعتدّ امرأته عدّة المتوفّى عنها زوجها ، وعلى الإمام أن يقتله ولا يستتيبه وهذه الصحيحة وإن كان موضوعها المسلم المتولّد من مسلمين إلاّ أنّ الظاهر أنّ التقييد من جهة الغلبة ولو بقرينة سائر الروايات . والمراد كلّ من كان مسلماً من أوّل أمره ، فتشمل المسلم المتولّد من أبوين أحدهما مسلم ومنها : صحيحة الحسين بن سعيد ، قال : قرأت بخطّ رجل إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام): رجل ولد على الإسلام، ثمّ كفر وأشرك وخرج عن الإسلام، هل يستتاب ، أو يقتل ولا يستتاب ؟ فكتب (عليه السلام) "يقتل" ) .

فهذه نماذج بسيطة لأحكام العلماء من كل المذاهب على أفعال وأقوال واعتقادات توجب الكفر وقد يختلفون فيها على مستويات :

1- قسم متفق على كونه كفراً أكبراً مخرجاً من الملة بإجماعهم .
2- وقسم يختلفون في اشتراط الاستحلال من عدمه حتى يعتبر أكبراً .
3- وقسم يتفقون على أنه من قبيل الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة
4- وقسم يختلفون في اعتباره كفراً أو معصية .
ولذلك فكل ما أورده خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية من أنه " يكفّر " الناس خطأ وبغي حين يقول ( من فعل كذا فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل ) فهو لا يقصد تكفير الأعيان بل الحكم بكفر الأنواع ، و قوله هذا يتوجه إلى النوع الأول وهو ( التكفير المطلق ) الذي لا يقصد به شخصاً معيناً ولا يوقعه على معين ، بل يقصد به الفعل أو القول أو الاعتقاد ، وهذا كما تبين ليس خاصاً بابن تيمية بل وجدناه في جميع الطوائف والفرق والمذاهب الإسلامية ، فتوجيه الملامة فيه لابن تيمية خطأ من باب الفهم ، وظلم من باب الانتقاء والترصد ، مع أن ابن تيمية هو من أكثر وأشهر من وضع الشروط والاحترازات وحذر من التساهل في إيقاع الكفر على الأعيان وضبط
( موانع التكفير ) التي تحول بين الناس وبين تكفير الخلق كما سيأتي .

الأمر الثاني :
إيقاع الحكم على الاعيان ( التكفير المعين ) ، وهو لا يتعلق بحكم الفعل أو القول أو الاعتقاد ، بل يتعلق بإيقاع الحكم ( الكفر ) على الشخص ( المعين ) ، فيقال : فلان كافر أو مرتد ، حين يصدر من اعتقاد او فعل أو قول حكم العلماء على انه من مسببات الكفر والردة ، وهذا الأمر امر أشبه بالأمر القضائي .

7 - ابن تيمية المتورع في باب التكفير :


إذا تبين الفرق بين ( التكفير المطلق ) و ( التكفير المعين ) ، فهل كان ابن تيمية من أولئك المتسرعين المشغوفين في أيقاع الأحكام على الأعيان وتكفير الناس ؟ أم كان من المتأنين البعيدين عن التكفير ولوازمه ونوازعه ؟
إن الحقيقة الناصعة لمن يطالع تراث شيخ الإسلام يجد أنه يؤكد على كل المعاني التي تضيق من باب إيقاع الأحكام على الأعيان ، ويفصل في الموانع والشروط وعوارض الاهلية ، ويؤكد كثيراً على التفريق بين التكفير المطلق والمعين ، حيث قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (فقد يكون الفعل أو المقالة كفراً، ويطلق القول بتكفير من قال تلك المقالة، أو فعل ذلك الفعل، ويقال: من قال كذا، فهو كافر، أو من فعل ذلك، فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قال ذلك القول أو فعل ذلك الفعل لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. وهذا الأمر مطرد في نصوص الوعيد عند أهل السنة والجماعة، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بأنه من أهل النار، لجواز أن لا يلحقه، لفوات شرط أو لثبوت مانع ) .

وقال : (نَّ التكفير له شروط وموانعُ، قد تنتفي في حقِّ المعيَّن، وإن تكفير المطلَق لا يستلزم تكفيرَ المُعَيَّن، إلاَّ إذا وُجِدَتِ الشروط، وانتفتِ الموانع، يُبَيِّن هذا أنَّ الإمام أحمدَ وعامَّة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات - أي: مَن قال أو فعل كذا، فقد كفر - لم يُكَفِّروا أكثر مَن تَكَلَّم بهذا الكلام بعينِه... والدَّليل على هذا الأصل: الكتاب، والسُّنَّةُ، والإجماع، والاعتبار، فالتكفير العامُّ كالوعيد العامِّ؛ يجب القول بإطلاقه وعمومه، وأما الحكم على المُعَيَّن بأنه كافر، أو مشهود له بالنار، فهذا يقف على الدليل المُعين، فإنَّ الحكم يقف على ثُبُوت شروطه، وانتفاء موانعه .. )
وقال ابن تيمية عند الحديث عن مقالات الباطنية الكفرية : (فهذه المقالات هي كُفر؛ لكن ثبوت التكفير في حقِّ الشخص المعيَّن، موقوفٌ على قيام الحجة التي يَكْفُر تاركها، وإن أطلق القول بتكفير مَن يقول ذلك، فهو مثل إطلاق القول بنُصُوص الوعيد، مع أنَّ ثُبُوت حكم الوعيد في حقِّ الشخص المعيَّن، موقوفٌ على ثبوت شروطه، وانتفاء موانعه؛ ولهذا أطلق الأئمة القول بالتَّكفير، مع أنهم لم يحكموا في عين كلِّ قائلٍ بِحُكم الكفار) .

وقد توسع شيخ الإسلام في تأصيل وضبط الشروط التي يجب توافرها للحكم على المعين بالكفر ، والموانع التي تحول دون إيقاع الحكم عليه ، وكتب في ذلك رسائل ماجستير ودكتوراه وبحوث كثيرة ، وهي مبثوثة في كتبه يرجع إليها من يريد التوسع في هذا الباب الكبير ، إضافة إلى تحذيره الكثير جداً من " التكفير " والتساهل فيه ، بل إني على كثرة إطلاعي لما قرره ابن تيمية في هذا الباب إلا أنه لم يمر علي انه حكم على معين بالكفر اللهم إلا أن ينقل اتفاق أو اجماع العلماء على كفر شخص بعينه ، بل كان متورعاً في هذا الباب ، ويؤكد دائماً على ان شعار أهل السنة والجماعة انهم يُخطّئون ولا يُكفّرون ، قال رحمه الله : (وأما التكفير، فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد – صلى الله عليه وآله وسلم- وقصد الحق فأخطأ لم يكفر، بل يغفر له خطأه، ومن تبين له ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم- فشاق الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر، ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب، ثم قد يكون فاسقاً وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته. فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص فليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال يكون كافراً بل ولا فاسقاً بل ولا عاصياً ).
وقال : (والخوارج تكفر أهل الجماعة، وكذلك المعتزلة يكفرون من خالفهم، وكذلك الرافضة، ومن لم يكفر فسّق، وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأيا ويكفرون من خالفهم فيه. وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق ).

في الحلقة القادمة سوف نقارب بين المنهج التيمي والانحراف الداعشي في باب التكفير بعون الله

المعاول التيميّة على القواعد الداعشيّة (3)
 

دعاوى المناوئين

  • ترجمة ابن تيمية
  • دعوى المناوئين
  • مواضيع متفرقة
  • كتب ابن تيمية
  • الصفحة الرئيسية