اطبع هذه الصفحة


المعاول التيميّة على القواعد الداعشيّة (3)
23/ 9/ 1437 هــ

بدر العامر
@bader_alamer


المعاول التيميّة على القواعد الداعشيّة (2)

7- المقارنة الفاضحة : سبيل الشيخ وسبيلهم


حتى يمكن ان نبرهن على ما ادعيناه من البون الشاسع بين ما يقرره ابن تيمية موافقة لأئمة السنة في مسائل العلم والعمل وما تقرره وتفعله " داعش " موافقاً لما كان عليه الخوارج الأوائل في مسائل العلم والعمل لابد نبين - باختصار- أبرز معالم منهج الخوارج حتى يتميز لنا منهج أهل السنة من خلال تقريرات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وحتى يتضح الفرق ويستبين سبيل الخطأ فيمن نسب إلى الإمام ابن تيمية تبعات ما تجنيه هذه الحركات التكفيرية الغالية .

قال شيخ الاسلام :" ولهم ( أي الخوارج ) خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم:
أحدهما: خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة، أو ما ليس بحسنة حسنة، وهذا هو الذي أظهروه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال له ذو الخويصرة التميمي: اعدل؛ فإنك لم تعدل، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل)...
الفرق الثاني :
في الخوارج وأهل البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات، ويترتب على تفكيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام دار حرب، ودارهم هي دار الإيمان .. فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين، وما يتولد عنهما من بغض المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم.
وهذان الأصلان هما خلاف السنة والجماعة، فمن خالف السنة فيما أتت به أو شرعته؛ فهو مبتدع خارج عن السنة، ومن كفر المسلمين بما رآه ذنباً، سواء كان ديناً أو لم يكن ديناً، وعاملهم معاملة الكفار؛ فهو مفارق للجماعة، وعامة البدع والأهواء إنما تنشأ من هذين الأصلين " .
وقال رحمه الله : (والخوارج هم أول من كفر المسلمين يكفرون بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله.) وقال : (وإنما كان هذا للخوارج تميّزوا بالإمام والجماعة والدار، وسموا دارهم دار الهجرة، وجعلوا دار المسلمين دار كفر وحرب ).

هنا نجد شيخ الإسلام يقرر عدة مسائل تبين منطلق الضلال عند هذه الجماعات العصرية :

- انتكاس الأحكام على الأشياء .
- التكفير بالذنوب والسيئات وإيقاع ذلك على الأعيان باستحلال الأموال والدماء .
- اعتبار دار المسلمين دار حرب وكفر ودارهم دار إسلام
- معاملة المسلمين معاملة الكفار
- تكفير المخالف واستحلال دماءه
- التكفير بغير مكفر
- التسلسل والطرد في التكفير
- التكفير بالظن .
- أخذ النصوص مجردة عن سياقاتها ومنعزلة عن النصوص الأخرى والمقاصد الكبرى .
- الضعف في النظر في مآلات الأمور النابعة من السياسة الشرعية المصلحية .

فهذه أبرز العلامات التي ذكرها شيخ الإسلام عن الخوارج ، فهل هي تنطبق فعلا على " داعش " أم على ما يقرره شيخ الإسلام في باب " التكفير " ؟ دعونا نرى ..


أولا:
لا يمكن لمثل ابن تيمية رحمه الله وهو العليم بحال الخوارج ومذهبهم وما يتميزون فيه من صفات نفسية وفكرية وعقدية وماسطره في ذمهم والتحذير منهم ومن مسلكهم ، بل ومناقشة مسائلهم أن يكون قريباً من منهجهم وفكرهم ، بل لو وصف بأنه عدوهم الأشد لكان هذا الوصف حرياً به .

ثانياً :
أبطل ابن تيمية كل عقائد الخوارج إبطالاً تفصيلياً في مباحث كثيرة في كتبه ، ونقاش ورد وفند مسائلهم بكلام لا يمكن أن يستغني عنه عالم أو طالب علم يريد أن يفهم من هم " الخوارج " ، بل وأتى بأشياء نادرة في الفروقات الدقيقة بينهم وبين البغاة وأحكامهم لم يسبق إليها ، بل وصحح خطأ كثير من الفقهاء الذين تبعوا ابن عقيل الحنبلي في عدم تفريقه بين الخوارج والبغاة وترتيب أحكام هؤلاء على أحكام هؤلاء .

ثالثاً :
كل سمة وصفة في الخوارج الأوائل ومنهجهم نجد عند ابن تيمية نقضها وتفنيدها بينما نجدها حاضرة في الأيدلوجية الداعشية سواء فيما سطره منظروهم من مسائل ، أو في ممارساتهم العملية تجاه خصومهم واستباحة دمائهم واموالهم ، مما يدل على الفوارق الكبرى بين ما يعتقده هؤلاء وما يعتقده ابن تيمية ويؤصله ويؤسسه من مسائل .

رابعاً :
المنهج العملي عند ابن تيمية مع " خصومه " ومخالفيه سواء من الولاة ، أو العلماء ، او العامة والذي يتصف بالرحمة والعطف والحنان ، بل وكان هو الذي يؤلف بين المختلفين ، وينهى الناس عن التكفير والعداوة ، فحين وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشاعرة قال شيخ الإسلام :( والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة وأنا كنت من أعظم الناس تأليفا لقلوب المسلمين وطلبا لاتفاق كلمتهم واتباعا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة ( ، وكان منهجه العلمي غير إقصائي ، بحيث أنه يعتمد في تقرير مسائله على كلام جميع المذاهب السنية وغيرها حيث قال في وصفه لمنهجه في كتابة العقيدة الواسطية : (وكل لفظ ذكر فأنا أذكر به آية أو حديثاً أو إجماعاً سلفياً وأذكر من ينقل الإجماع عن السلف من جميع طوائف المسلمين والفقهاء الأربعة والمتكلمين وأهل الحديث والصوفية) .فأين هذه الروح الموضوعية والمتسامحة من همجية المنتمين إلى هذه الفصائل المتوحشة التكفيرية التي تحصر الإسلام وفهمه في أفكارها المؤاتية البسيطة وتكفر وتستحل دماء من يخالفها حتى من أقرب الناس لها .

بل كيف يمكن مقارنة وابن تيمية لم يحسن فقط لمن يستحق الإحسان ، بل أحسن لمن تآلب عليه ، وكفره ، ودعا السلطان لقتله والبطش به ، وحرض على سجنه ، فحين أخرج السلطان قلوون بعد أن رضي على شيخ الإسلام وأكرمه وغضب على أعدائه من العلماء بسبب موقف سياسي وأخرج رقاعة كتبها الفقهاء بتكفير ابن تيمية واستباحة قتله ، وقد فهم ابن تيمية من هذا أن السلطان يريد أن يحرضه عليهم حتى يفتي بقتلهم قال له شيخ الإسلام " إن قتلت هؤلاء فلن تجد بعدهم مثلهم من العلماء الأفاضل " ، فقال له السلطان : هم آذوك وأرادوا قتلك مراراً ، (من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي ) فلم يزل شيخ الإسلام بالسلطان يستعطفه ويستلين قلبه حتى عفى عن أشد خصومه وأعتاهم مع أنها كانت فرصة سانحة لابن تيمية أن ينتقم ممن آذاه وتسبب بسجنه شهوراً طويلة ، وحين أراد الخروج من السجن لعن أخوه خصومه فقال لا تفعل ولكن قل :( اللهم هب لهم نوراً يهتدون به إلى الحق ) .
ولو أردت أن أستطرد في ذكر نورانيات ابن تيمية في هذا الباب لاحتاج هذا بحثاً طويلاً فهو مدرسة متفردة في هذا الباب في حرصه على الناس موافقه ومخالفيه عامة الناس وخاصتهم ..

وسأعرض هنا بعض التأصيلات والتطبيقات التي عند " داعش " بطوريها القديم ( القاعدة) و الجديد ( دولة الخلافة ) التي لا يمكن بأي حال أن تكون موافقة لتأصيلات شيخ الإسلام لا في الرؤية العقدية النظرية ، ولا في أبواب السياسة الشرعية وتطبيقاتها ، فشتان بين ما قرره شيخ الإسلام وما تقرره هذه الجماعات ، وإن كانت تحاول بطريقة " توظيفية " الاتكاء على نصوص لابن تيمية في تأسيس رؤيتها الأيدلوجية الأمر الذي يفعله مع النصوص التأسيسية الأصلية في الشريعة ، وأقوال الصحابة والعلماء والأئمة ، ولكنها قراءة مختلة منهجياً تقوم على الإسقاط والاجتزاء وعدم الفهم والانتقاء ونزع السياق والإخفاء والاحتفاء ، ومن هذه الفروقات بين المدرستين :


1- إيقاع التكفير على الاعيان بتوسع وجهل :


تنطلق هذه الجماعات البت في ردة وكفر الحكام ومن والاهم وعاونهم ورضي بحكمهم ، وتوجب البراءة منهم ، وقتالهم وتكفيرهم من فكرة " الحاكمية " التي يرون أنها من خصائص الأولوهية وانه لا يحق للبشر الحكم بأي شيئ ، وأن كل الحكم هو من شأن الله تعالى ، وبناء عليه حكموا على كل تشريع ينتجه البشر بأنه كفر أكبر ، وأن هذه الدول التي تحكم بالقانون ، وتشرع من دون الله دول كافرة وانها أصبحت دار كفر ، ولا تقتصر هذه الجماعات على التأسيس النظري، " بل تنتقل إلى إيقاع الأحكام على الأعيان واستباحة دماءهم وقتالهم وقتلهم كما نشاهد منذ اندلاع موجات العنف في العالم الإسلامي وفي بلادنا خاصة ، حيث استهداف رجال الأمن والمسؤولين ، وقتل الأقارب ونحرهم ، والتفجير في المساجد ، واستهداف مراكز الدوريات والشرط ، وابطال العقود والعهود مع غير المسلمين في بلاد المسلمين وقتلهم ، وهذا كله دليل على " استحلال " الدماء وإيقاع الأحكام على الأعيان ، وفي سلوكهم هذا تطبيق للمنهج الخوارجي من عدة أمور :

- التكفير بالمختلف فيه مثل الحكم بغير ما أنزل الله أو تحكيم القوانين الوضعية .


فإن المسألة من الظنيات والخلافيات التي لا يقام عليها قتل ولا قتال ولا تكفير ، بل إن أئمة هذا العصر كالشيخ ابن باز والألباني رحمها الله على اشتراط الاستحلال ، وأنه لا يجوز تكفير من طبق القوانين أو نحى شيئاً من حكم الشريعة إلا أن يكون معتقداً للحل ، وكما سبق وبينت ان ابن تيمية يشترط في ذلك " الاستحلال " وإلايكون ذنباً لا يبلغ الكفر الأكبر حيث قال : (والإنسان متى حَلَّل الحَرامَ المُجْمَعَ عليه، أو حرَّم الحلال المجمع عليه، أو بَدَّلَ الشرع المجمع عليه كان كافرًا مرتدًا باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نَزَلَ قوله على أحد القولين: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ ، أي: المُسْتَحِلُّ للحكم بغير ما أنزل الله ) .

- التكفير بالإجمال بلا تفصيل :


فهذه الجماعات حين تتحدث عن " حاكمية الله " فهي ترى أن كل حكم لابد أن يصدر عن الله ، ومعنى ذلك أن كل حكم يريدون تطبيقه في " دولتهم " هو حكم الله تعالى ، ويكون دورهم التعبير عن مراد الله ، وهذا المفهوم ليس مفهوماً شرعياً ، بل هو عين عقيدة " الخوارج " الذين انكروا على أمير المؤمنين علي والصحابة رضي الله عنهم حين حكموا الرجال ليصلحوا بين الصحابة المتخالفين فقالوا : ( لا حكم إلا لله ) ، فهم يجعلون كل قانون ينتجه البشر مشاركة لله في أولوهيته ومن ثم كفر من يفعل ذلك بلا تفصيل ، ولذلك كان من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمراء الجيش إذا ذهبوا لسرية ان يقول لهم كما في مسلم : (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟ ) فليس كل من اجتهد في أمر صار هو حكم الله وخاصة في القضايا التي ليس فيها أحكام قطعية ظاهرة يقينية في الشرع ، ومنشأ الخطأ عند هذه الجماعات تصورها للقانون بصورة مصادمة في كل حال للشريعة الإسلامية ، وهو ناشيء من عدم التفريق بين القانون كوعاء ومرجعية القانون التي تقوم أحياناً على الحق الطبيعي ، وأحياناً على العرف العام ، وأحياناً على الأساس الديني ، فيكون القانون الوضعي :
ا- إما قائم على الشريعة موافقاً لها
2- أو متعلق بشؤون الدنيا المحضة التي تعتمد على الخبرة والتجربة الإنسانية.
3- أو مخالف لأحكام ثابتة في الشريعة الإسلامية .
وإطلاق التكفير فيه انحراف وغلو وجرأة أوصلت هذه الجماعات إلى التكفير واستحلال الدماء والتوسع فيها وإثارة الفتنةفي الأمة ويقول الظواهري في هذا :( إن الديقراطية تقوم على قاعدة ( حاكمية العباد للعباد ) ورفض حاكمية الله المطلقة للعباد ، وتقوم على أساس ان يقوم هوى الإنسان في أي صورة من صوره هو الإله المتحكم ، ونقوم على رفض أن تكون شريعة الله هي القانون الحاكم ) ثم ينقل عن سيد إمام قوله : ( والذي يقول عن نفسه أنه مسلم ديمقراطي أو مسلم ينادي بالديمقراطية هو كمن يقول عن نفسه إنه مسلم يهودي أو مسلم نصراني سواء بسواء وهو كافر مرتد ) .( الحصاد المر للظواهري ) .

يتبع إن شاء الله .

المعاول التيميّة على القواعد الداعشيّة (4)
 

دعاوى المناوئين

  • ترجمة ابن تيمية
  • دعوى المناوئين
  • مواضيع متفرقة
  • كتب ابن تيمية
  • الصفحة الرئيسية