اطبع هذه الصفحة


المعاول التيميّة على القواعد الداعشيّة (4)
24/ 9/ 1437 هــ

بدر العامر
@bader_alamer


المعاول التيميّة على القواعد الداعشيّة (3)

تمهيد :

ليس المقصد في هذه السلسلة مناقشة هذه المسائل بتوسع ، ولا نقل أقوال أهل العلم في المسألة الواحدة وبيان أبواب الخلافات فيها ، وإنما المقصد هو عقد المقارنات بين ما يؤصله ابن تيمية وما تناقضه " داعش " في المسائل التي يحاول خصوم ابن تيمية تحميله تبعات غلو وتكفير وتوحش هذه الجماعات التكفيرية .

- التكفير ... وتضييق ابن تيمية :

التكفير هو حكم شرعي نطقت به النصوص من الكتاب والسنة ، وعقيدة أهل السنة والجماعة انهم ( لا يفكرون إلا من كفره الله ورسوله ) ، ومعنى ذلك أنه ليس مسألة " قياسية " ، ولا رأي اجتهادي قابل للتأول ، بل جاءت المسائل التي هي من قبيل " الكفر " سواء بالاعتقادات أو الأقوال أو الأفعال منصوصة في كتاب الله ، وفي سنة نبيه ، فالذي نطق بالحكم بها الشارع الحكيم ، ولم يجعل للناس الخيار في أن يختاروا ما يكون كفراً او يكون إيماناً ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على البكري : (فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك و زني.. ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله لأن الكذب والزنا حرام لحق الله. وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله وأيضا فإن تكفير الشخص المعين موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر) ، وقال : ( إن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجبها فى حق المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع ، والكفر هو من الأحكام الشرعية وليس كل من خالف شيئاً عُلم بنظر العقل يكون كافراً ولو قدر أنه جحد بعض صرائح العقول لم يحكم بكفره حتى يكون قوله كفراً فى الشريعة ، لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده فى النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه ، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله فى ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذى لا معارض له ) ، ولذلك كان تكفير المخالف من شعار الخوارج ومنهجهم لا من منهج أهل الحق .

ومعلوم أن لفظ " الخوارج لم يرد في الكتاب والسنة ، وإنما هو اصطلاح تواضع عليه العلماء من لدن الصحابة إلى هذا الوقت ، وقد قال الإمام أحمد : صح في الخوارج عشرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقصد بهذا " الأوصاف والسمات " ، والمتأمل في مجمل ما ورد في وصف الخوارج يجد أنها " سمات " و " أوصاف " تدل بمجموعها على " الشخصية الخارجية " ، وليس من شرط الوصف بالخارجي أن تنطبق عليه كل صفات الخوارج التاريخية ، فقد كان صنيع المؤلفين من العلماء في " الفرق " أنهم رتبوا صفات الخوارج على العقائد والأفكار التي تبنتها الجماعات الخارجية تاريخياً منذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام ، ولكن الناظر في " نصوص " الخوارج النبوية لا يجد أن تلك الصفات موجودة فيها ، وإنما كانت الممارسات " الخارجية " تطبيقاً لتلك السمات التي ذكرها عليه الصلاة والسلام ، فكان هؤلاء علامة على نبوته وصدقه وصحة ما أخبر به .

ونحتاج في هذا السياق بيان أن قضية " تكفير المسلمين "بغير منهج شرعي و " استباحة دمائهم " و " الخروج على جماعتهم " والغلو " في حمل الدين والإسلام ، و" الاجتماع " على منهج التكفير والقتال عليه ، هي الأوصاف الجامعة للفئة الخارجية ، وهذه الصفات المنهجية هي التي جعلت العلماء يفرقون بين ( الباغي ) الذي يخرج على المسلمين بتأول سائع ، لكنه لا يخرج عليهم تكفيراً لهم واستباحة لدمائهم ، بل للمطالبة بمطالب قد تكون مشروعه وقد تكون غير مشروعه ، وبين الخارجي الذي يخرج عليهم ويضيف مع الخروج والقتال تكفير الناس واستحلال دمائهم وقد يكفرهم ويستبيح دماءهم دون خروج وهم من يسمون بــ( الخوارج القعدة ) ، الذين يحرضون على القتال والتكفير دون أن يمارسوا ذلك بأنفسهم ، وقد يخرج عليهم لمطمع دنيوي محض يقتل ويروع ويفسد في الأرض ويجتمع عندهم سرقة الأموال مع إزهاق الأرواح ، وهم لا ينطلقون من عقيدة دينية وهم الذين يسمون فقهياً بــ" المحاربين " وتنزل عليهم آيات الحرابة .

وقد تتحقق في غير الخارجي المحض صفات من صفات الخوارج إذا صار عنده تشدد وتنطع دون أن يوصف بالخارجي ، وهذه الصفات قد تزيد عن البعض وتنقص عند البعض بناء على مستوى توافر هذه الصفات قوة وضعفاً ،.وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الأمر : ( كثير من النساك والعباد والزهاد قد يكون فيه شعبة من الخوارج وإن كان مخالفاً لهم في شعب أخرى ) .

- التكفير .. وتوسيع داعش


إن مقارنة سريعة بين ما قرره ابن تيمية رحمه الله في التحذير من التكفير ، وتحريمه ، ووضع الضوابط والشروط والموانع التي تحول بين إطلاقه على المعين إلا في حدود ضيقه ، وبين ما تصنعه " داعش " نظرياً وعملياً يجد أنهما يسيران في خطين مفترقين ، وأن الاختلاف بينهما هو كالاختلاف بين الصحابة والخوارج في إصابة الحق والضلالة عنه ، سواء في باب البعد " التأسيسي" المنهجي النظري ، أو من باب البعد " التطبيقي " العملي ، وهذا يشمل المنظرين القدماء للتنظيم الذين يشكلون امتداداً تاريخياً للإيديولوجيا التكفيرية السياسية ابتداء في مصر على يد الهجرة والتكفير والقطبية والجهاد والقاعدة وتفرعاتها ، أو عند القاعدة في "طورها الجديد " التي اصطلح الناس على تسميتها بــ" داعش " ، والذين بلغوا درجة متطرفة من " التوحش " و " الغلو " .
وإذا كان أهل السنة قد ضيقوا التكفير وإيقاعه على الأعيان ، فهم كذلك ضيقوا إيقاعه على الجماعات والمجتمعات ، بينما نجد هذه الجماعات تسير على مبدأ الحكم والمفاصلة ، في توافق تام بين النظرية والتطبيق ، فطردوا احكامهم على أمم من الناس دون تمييز ولا تفريق ولا نظر في الشروط والموانع ، فضلاَ أن يكون ما يفعلونه والذي بسببه يكفرونهم هو من قبيل الكفر الأكبر ، فهم يكفرون بلا مكفر ، بل يكفرون بالمباح أو بالأمر المشروع الجائز .

انظر إلى أبي محمد العدناني كيف يوزع هذه الأحكام المجانية على من يستحق ومن لا يستحق ، دون تمييز بين من " أصله الكفر " وبين من " أصله الإسلام " حيث طرد الحكم عليهم جملة فقال : ( فانهض يا من تحارب الدولة الإسلامية، وَقِفْ مع الله وقفةً وتفكَّر في هذه الواحدة، وانظر إلى أولئك الدعاة لمن يتبعون؟ أولئك السحرة الذين جعلهم الطواغيت لهم أبواقًا تنعق بما تعلم وبما لا تعلم، يزوِّرون الحقائق ويطمسونها ويشوِّهونها، يحرِّفون الكلم عن مواضعه، ويغيِّرون شرع الله نصرةً للطواغيت واسترضاءً لهم، لا يستحون ولا يخجلون، ولم يكتفوا إذ جعلوا كلمة لا إله إلا الله كلمةً للفجور بدلاً أن تكون كلمة التقوى والعروة الوثقى، إذ أباحوا لقائلها فعل أيِّ شيءٍ وعصموا دمه، حتى ولو كان منافقًا في الدرك الأسفل من النار، بل حتى ولو كان بلعام بن باعوراء أو مسيلمة الكذَّاب، لم يكتفوا بعصمة دماء المرتدين إذ قالوا: كيف تقتلون من قال لا إله إلا الله، بل ازدادوا في طغيانهم وازدادوا كذبًا وافتراءً على الله فقالوا بحرمة الدم العراقي، ووقَّعوا بذلك الاتفاقيات وعقدوا المواثيق وجعلوا عصمة الدم بالجنسية العراقية، فعصموا دم اليزيدي الذي يعبد الشيطان، والصابئي الذي يعبد الأوثان، وعصموا دم النصراني عابد الصلبان، وعصموا دم العلماني الكافر والشيوعي الملحد، عصموا دم الرافضي النجس القذر، عصموا دماء من يقاتلون في سبيل الطاغوت من الجيش والشُّرَط والصحوات، عصموا وحرَّموا دماء هؤلاء المجرمين، واستحلُّوا وأباحوا من العراقيين فقط دماء المجاهدين الموحِّدين (قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)، يقتلون الموحِّدين الذين يأمرون بالقسط من الناس، ويعصمون دماء الكفَّار الذين يعتدون على الأمة ويحاربون شريعة الله، فتبًّا لهم تبًّا وسحقًا سحقًا، بأيِّ شريعةٍ عصموا وحرَّموا دماء العراقيين واستثنوا منهم المجاهدين؟! (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( ( .( خطبة الاقتحامات أنجع ) .

وهذا النص يحمل في طياته انحرافات كبرى ، ومجازفات علمية ، وأخطاء عقدية منها :

1- أن مجرد مقاتلة جماعة أو فصيل ليس كفراً بذاته ، فليس قتال عموم الناس مثل قتال النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته ، فقد يكون الصراع من باب السياسة والمطامع لا من باب العداء للدين .
2- أنه لا يجوز أن تدعي جماعة أنها هي " الإسلام " ومن عاداها فهو عدو للدين ، لأن هذه الدعوى هي أشهر دعاوى الخوارج الأوائل حيث يجعلون عداءهم هو عداء للشريعة ، فقد يقاتلهم الناس لأنهم يرون فيهم انحرافاً وجنوحاً عن الشريعة والإسلام وليس عداوة للدين وأحكامه .
3- أنهم يجعلون " الكفر " وصفاً مبيحاً للقتال والقتال بمجرده ، وهذا خلاف قول أئمة أهل السنة ، فالمقاتلة والحراب هو الذي يبيح القتال وليس مجرد الكفر ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (والكفار إنما يُقاتَلون بشرط الحِراب، كما ذهب إليه جمهور العلماء، وكما دلَّ عليه الكتاب والسنَّة ) ، وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله : (ولأن القتل إنما وجب في مقابلة الحراب لا في مقابلة الكفر ولذلك لا يقتل النساء ولا الصبيان ولا الزمني والعميان ولا الرهبان الذين لا يقاتلون، بل نقاتل من حاربنا ) .
4- القتل على الهوية وهو شعار الخوارج ، فيقتلون طوائف من أهل العراق والشام وهم لم يقاتلوهم ، بل لمجرد أنهم غير مسلمين ، أو أنهم مسلمون يرونهم من أهل الردة كالشيعة الإمامية و يبيحون قتلهم وقتالهم وسبي نسائهم ، وهذا مخالف مخالفة صريحة للجهاد الشرعي عند المسلمين ، والنبي عليه السلام قد نهانا عن دماء " أهل القبلة " حتى ولو كان فيهم بدع وضلالة وكفر فقال : ( من صلى صلاتنا ، وأكل ذبيحتنا ، واستقبل قبلتنا ، فهو المسلم الذي له ذمة الله ورسوله فلا تخفروا الله في ذمته ) ، وإنما كان منهج الخوارج استحلال دماء أهل القبلة بالحكم عليهم بالردة وقتلهم ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (الْخَوَارِج دِينُهُمْ الْمُعَظَّمُ: مُفَارَقَةُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِحْلَالُ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ( وقال: )فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِلُّونَ مِنْ دِمَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُرْتَدِّينَ ) .

- دولة خارجية .. أم دولة حكم وسلطان ؟

كتب الأستاذ إبراهيم السكران عدة مقالات في مخالفات داعش وتكفيريتهم ، إلا أنه خلص في المقال الأول إلى عدم وصفهم بالدولة " الخارجية " ، ولكنه اعتبرهم دولة " ملك وسلطان " ، لا دولة خوارج ولا دولة خلافة شرعية ، ، فمع كل الأدلة والبواقع التي ذكرها عنهم من استحلال للدماء ، وتكفير للمخالفين ، واعتبار من يقاتلهم مرتد ، والفضائع التي فعلوها في الشام لم يطلق عليهم الوصف اللائق بهم ، وخاصة أن كل الشرائط والسمات والصفات والمناهج الخارجية قد تحققت في هذه الجماعة ، وخاصة اجتماع التنظيم على مبدأ " تكفير المخالف " فقال : (والأرجح في نظري أن هذه الطائفة ليست دولة خلافة، ولا دولة خوارج، بل هي دولة "ملك وسلطان"، توظف الغلو بحسب أغراض الرياسة، وتستعمل خصال الملك الجبري، وتحكّم بعض الشريعة تحكيم الملوك وسلاطين الجبر )

والحقيقة أنه لا فرق بين من " يوظف " الغلو والتكفير لتحقيق مقاصد ، أم من ينطلق من عقيدة ، فهذا فرق غير مؤثر في الحكم الظاهر ، إذ التوظيف هو أمر متعلق بالمرادات ، بينما ما يظهرونه يعتقدونه ويدافعون عنه ، ، فكثير من "دول " الخوارج التي ظهرت في التاريخ كانت تمارس الشيء نفسه التي تمارسه الدولة ، حيث يظل المنهج الخارجي في أصله منهج " سياسي " يعتمد على التكفير للمخالف بالباطل ، ويمارسون المراوحة السياسية مع خصومهم ، ويتحالفون مع من يكفرونه إن رأوا في ذلك مصلحة ، وقصة فروة بن نوفل الأشجعي وهو أول الخارجين على بني أمية حيث خرج سنة 41هـ، و"كان هذا الرجل ممن اعتزل قتال علي وانحاز معه خمسمائة فارس من الخوارج إلى شهرزور قائلا: " والله ما أدري على أي شيء نقاتل عليا أرى أن أنصرف حتى تتضح لي بصيرتي في قتاله أو أتابعه " . أي أنه كان شاكا في قتال علي، أما معاوية فقد بين موقفه منه بقوله: " قد جاء الآن ما لا شك فيه فسيروا إلى معاوية فجاهدوه " ..

ثم ذهبوا إلى النخيلة فعسكروا بها وهي مكان قريب من الكوفة، فأرسل لهم معاوية جيشا من أهل الشام ولكن الخوارج هزموه، فلجأ معاوية إلى حيلة يرمي فيها عصفورين بحجر فقال لأهل الكوفة: " والله لا أمان لكم عندي حتى تكفوهم " ، فوقع هذا التهديد منهم موقعا عظيما، فخرجوا لقتالهم وكفهم عن الخروج وعندما رآهم الخوارج قالوا لهم: " أليس معاوية عدونا وعدوكم دعونا نقاتله فإن أصبنا كنا قد كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا "؛ فلم يقتنعوا بقولهم هذا، فقالت الخوارج: رحم الله إخواننا من أهل النهر هم كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة، ثم اختطف أشجع صاحبهم وأدخلوه مقهورا إلى الكوفة.

ثم مكنته الفرصة فيما بعد فخرج على المغيرة بن شعبة فأرسل له المغيرة شبث بن ربعي أو معقل بن قيس مع فرسان، فلما التقوا قتل فروة بشهرزور أو ببعض سواد العراق" . ( حركات الخوارج الثورية ضد الحكم الأموي - موقع الدرر)
ففي هذه القصة نلحظ كيف يعامل الخوارج الأحداث تعاملاً سياسياً مع حملهم لأصل " التكفير " للمخالفين من بني امية ومن كان معهم ، والهدف السياسي واضح في سيرتهم التاريخية في كل الدول التي قامت لهم سواء بالشرق الإسلامي أم بالمغرب ، فهم كثيرو الاختلاف والتفرق ، وكلما خرج منهم عشرة سموا لهم خليفة ، وهذا الأمر الذي يجري في الشام والعراق من استباحة دماء خصومهم ممن كان معهم في مدرسة واحدة بمجرد أن خالفوهم في " إعلان الدولة " وقتلوا من خصومهم مئات ، بالكواتم ، والسيارات المفخخة ممن كانوا يعتبرونهم من المجاهدين التاريخيين ، وهم يعالجون الغلو والتكفير والقتل بغلو وتكفير وقتل ، فالقاضي الذي حكم في " عشيرة الشعيطات " بعد أن قتلوا منهم مئات في مجزرة رهيبة حكموا عليه بالقتل .

وقد حاول بعض منظريهم إزالة هذه الصفة عن " تنظيم الدولة " بأن الدولة لا تعتقد جواز التكفير بغير مكفر ، وجعل هذا شرطاً للوصف بالخارجي وهو من أعجب المسائل وأغربها فقال في تفريقه بين الخوارج والعلماء الذين تأولوا وكفروا ببعض الأفعال والأقوال وبين داعش : (لو قالت طائفة نحن نعتقد بتكفير الناس بغير مكفر , فهذا يعني أنهم يرون كفر أي شخص حسب هواهم , ففي أي لحظة قالوا فلان كافر فإذا سئلوا لماذا كفرتموه قالوا نحن نعتقد تكفير الناس بغير مكفر , فهذا يعتبر موافق لعقيدة الخوارج في تكفيرهم مرتكب الكبيرة وزاد عليها( ( مقال شبهة تكفير الدولة بغير مكفر للدكتور الطرهوني ) ، وقد نسي أن الخوارج الأوائل لم يكونوا يعتقدون بالتكفير بلا مكفر، بل يرون الأفعال التي كفروا بها المسلمين مكفرات تخرج من الإسلام ، فهم يكفرون بغير مكفر ولا يقرون أنه غير مكفر ، ثم يطردون هذا التكفير على عموم المخالفين أو بعضهم ، ثم يستحلون دماءهم جراء ذلك .
ومن العجيب أن تركي البنعلي المنظر الشرعي لداعش قد كتب رداً على أبي قتادة الفلسطيني سماه ( الإفادة في الرد على أبي قتادة ) الذي يعتبر المنظر الشرعي والفكري لتنظيم القاعدة ، وهو مع غلوه وإفراطه في التكفير إلا أنه يرى أن تنظيم الدولة من الخوارج ، فقال : ( إن إنزال الأحاديث على الأعيان أمر اجتهادي لا قطعي ، أضف إلى ذلك إمكانية توبة قيادة الدولة الإسلامية العسكرية والشرعية إن سلمنا جدلاً أنهم خوارج ... وأن إناطته مصطلح الخوارج ببعض صفاتهم لا أصولهم وهذا قول غاية في الجهل والبطلان ) .

- التكفير محرم في أصل الشريعة :


من الأخطاء الفادحة التي تقع فيها الجماعات التكفيرية جعل التكفير من " المأمورات " ، بينما هو في الشريعة من " المحرمات " ، ويجعلون ذلك من مقتضيات " الولاء والبراء " ، والمسلم منهي عن الحكم على الآخرين بالكفر أو بالنفاق ، وجاءت في ذلك نصوص كثيرة في غاية الصحة والاستقامة ، وهي واضحة في غاية البيان والصراحة في عد ذلك ذنباً بل كبيرة من كبائر الذنوب ، وقد يشكل على البعض هذا الأمر فيقول : كيف يكون محرماً في الشريعة ثم نجد العلماء يتكلمون عن شروطه وموانعه وأحكامه ؟ والجواب على هذا أن يقال مثل هذا في " القذف "فهو في الشريعة محرم بدلالة القرآن والسنة كما قال تعالى : (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم) ، وقال عليه السلام في عد السبع الموبقات ( وقذف المؤمنات الغافلات المحصنات ) ، ومع ذلك إذا وقع المسلم بالقذف فله أحكام فقهية قضائية يحتاج العلماء لدراستها حتى ينظرون ثبوت الشروط وانتفاء الموانع ثم الحكم على القاذف وعقوبته المنصوصة شرعاً .

ومن الأدلة على تحريم التكفير قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم من حديث ثابت بن الضحاك عن النبي صلى الله عليه وسلم :( ..ومن رمى مسلم بكفر فهو كقتله ) رواه البخاري ، وقوله عليه الصلاة والسلام كما في مسلم : ( من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه ) وقال : ( من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) ، وغيرها من الأدلة الصحيحة الصريحة في تحريم رمي المسلم بالكفر والنفاق .

وقد حذر شيخ الإسلام في مواضع لا تحصى من التكفير ، وجعل هذا من شعار الخوارج وأن رمي المسلمين بالكفر هو أول بدعة ظهرت في الإسلام ففال : (يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذنوب والخطايا، فإنه أول بدعة ظهرت فى الإسلام) وقال أيضاً: ( لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه؛ كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة فإن الله تعالى قال: ﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ ، وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء، وغفر للمؤمنين خطأهم ) .

ومن يقرأ في باب ( شروط التكفير وموانعه ) التي اعتنى بها ابن تيمية رحمه الله يجد أنها " تضيق " باب التكفير وتضع بين الإنسان المسلم وبين الحكم على معين بالكفر خنادق وعقبات كبرى تحول بينه وبين إيقاع الحكم إلا في حدود ضيقة جداً تكون من قاض أو عالم يمتلك أدوات الاجتهاد الشرعي الذي يخوله للنظر في القضية والحكم فيها ، ولذلك سك قاعدة عظيمة في هذا الباب فقال : (ليْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ. وَمَنْ ثَبَتَ إيمَانُهُ بِيَقِينِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ؛ بَلْ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ ) .

- التكفير .. الدمغة الخارجية في التاريخ :


إن تكفير المخالفين هو أظهر شعارات الخوارج ، والمقصود بتكفير المخالف أن يكون التكفير بسبب المخالفة لا بوقوع المخالف بكفر ظاهر ثم يكون التكفير عن طريق " اللوازم والتسلسل " ، وهذا المنهج عندهم قائم على خطأ مركب من أمرين :
الأمر الأول : أن الأفعال التي يكفرون بها ليست من المكفرات ، بل قد تكون من المشروعات أو المباحات ، وقد نبه ابن تيمية لهذا المزلق الذي تقع فيه الجماعات فقال : (والكفر إنما يكون بإنكار ما عُلِم من الدين ضرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة، والمجمع عليها، ونحو ذلك ) ، وعند التتبع لا تجد أي قضية يكفر بها الغلاة خصومهم وهي من هذه الأصناف التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله .

الثاني :
التسلسل بالتكفير والأخذ بلوازم تأتي على غير المكفر الأصلي ، فيتوسع إطار التكفير ليشمل كل المخالفين ، والتسلسل في التكفير هو طريقة الفرق التكفيرية في التاريخ الإسلامي كالخوارج والمعتزلة ، فقد جاء في كتاب الملطي قال : (أما الذي يكفر فيه معتزلة بغداد معتزلة البصرة فالقول في الشاك والشاك في الشاك ومعنى ذلك أن معتزلة بغداد والبصرة وجميع أهل القبلة لا اختلاف بينهم أن من شك في كافر فهو كافر لأن الشاك في الكفر لا إيمان له لأنه لا يعرف كفرا من إيمان فليس بين الأمة كلها المعتزلة ومن دونهم خلاف أن الشاك في الكافر كافر ثم زاد معتزلة بغداد على معتزلة البصرة أن الشاك في الشاك والشاك في الشاك إلى الأبد إلى ما لا نهاية له كلهم كفار وسبيلهم سبيل الشاك الأول وقال معتزلة البصرة الشاك الأول كافر لأنه شك في الكفر والشاك الثاني الذي هو شاك في الشك ليس بكافر بل هو فاسق لأنه لم يشك في الكفر إنما شك في هذا الشاك أيكفر بشكه أم لا فليس سبيله في الكفر سبيل الشاك الأول وكذلك عندهم الشاك في الشاك والشاك في الشاك إلى ما لا نهاية له كلهم فساق إلا الشاك الأول فإنه كافر وقولهم أحسن من قول أهل بغداد ) .كتاب التنبيه والرد .

وهذا الأمر نجده عند الجماعات التكفيرية المعاصرة التي تبدأ من تكفير الحكام ، ومن ثم تكفير من ناصرهم وأعانهم ، ثم تكفير من عمل معهم من القضاة والجند والعسكر ، وقد وصل ببعض الجماعات القتالية أن كفرت الزوجات والذراري للعساكر واستباحت دماءهم كما حصل من هذا فضائع في الجزائر في التسعينات ، وهذه القضية محسومة عند " داعش " بصورة لا لبس فيها ، فهم يعتبرون كل جيوش وعساكر العالم الإسلامي أهل ردة وكفر ، وأن قتالهم واجب ،فقد أعلنوا ذلك في بيان رسمي باسم المتحدث الرسمي لهم أبو محمد العدناني إذ يقول (لابد لنا أن نصدع بحقيقة مرة لطالما كتمها العلماء واكتفى بالتلميح لها الفقهاء ألا وهي: كفر الجيوش الحامية لأنظمة الطواغيت، لابد لنا أن نصرح بهذه الحقيقة المُرّة ونصدع بها, ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة، إن جيوش الطواغيت من حكام ديار المسلمين هي بعمومها جيوش ردة وكفر، وإن القول اليوم بكفر هذه الجيوش وردتها وخروجها من الدين بل ووجوب قتالها لهوَ القول الذي لا يصح في دين الله خلافه) ، وهم بهذا لا يتكلمون عن أفعال مجردة عن قائليها ، بل يقصدون الأعيان بدليلين ظاهرين ، فالأول : نصهم على عدم التفريق بين الحكم على الطائفة والحكم على العين ، والثاني : تطبيقهم العملي الواقعي حيث يستهدفون الجنود المسلمين ويقتلونهم استحلالاً لدمائهم ويسمونه بالمرتدين ، ولذلك يكفرون كل " الصحوات " ويهدرون دماءهم وأموالهم .

وفي مشهد من مشاهد الاستهانة بالدماء التي تقشعر منها الأبدان ، والجراة على التكفير يظهر في شريط فيديو داعشي تونسي ينحر أحد المسلمين في " دير الزور " ، فيقول المسلم : ( وحياة الله ) ، فيرد عليه الداعشي وهو ينحره : ( الله ما عندوش حياة لم يلد ولم يولد ) ، فانظر كيف يقتل المسلم بدم بارد ولا رحمة ، ومع ذلك يجهل صفة ( الحياة ) لله تعالى التي لا يجعلها كل المسلمين متعلميهم وغير متعلميهم ، فجمع بين صفتين ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج ( حدثاء الأسنان ، سفهاء الأحلام ) .

ولذلك فهم يطرحون المسألة على النحو التالي :

نحن في جهاد إسلامي ، ومخالفنا يقف في صف عدونا ، ومن لم يكن معنا فهو ضدنا ، ويترتب على ذلك امتحان الناس بهذا الأمر ومفاصلتهم لأجله وتكفيرهم واستباحة دمائهم ، وهذا الفعل ظاهر يقيناً في " تنظيم الدولة " الذي كفر المخالفين والمناوئين ، وقد كان الخوارج قديماً يخلعون على انفسهم ألفاظ الجهاد ويسمون أنفسهم بــ( الشراة ) ، وغيرهم يسمونهم " القعدة " حتى قال قائلهم :

سلام على القوم الشراة نفوسهم ** وليس على القوم القعود سلام

لقد حذر شيخ الإسلام رحمه الله من هذه الطريقة الولائية التي يحصل فيها مفاصلة المسلمين بسبب حزب أو تنظيم أو جماعة وعقد الولاء والبراء عليها فقال : ( ومن حالف شخصا على أن يوالي من والاه ويعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى، ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين، بل هؤلاء من عسكر الشيطان ) .

إن الخطورة في فكر التنظيم أنه لا يفرق بين الحكم على الطائفة - حتى ولو كان منحرفاً - وبين الحكم على الأعيان ، بل يرى أن هذا التفريق بدعة وانحراف ، ومعنى ذلك أن الوصف ينطبق على الأعيان مباشرة ، ويقول تأصيلاً لهذه القضية أن هناك من : (فرِّق بين الطائفة وأعيانها في اسم الكفر وبعض أحكامه، وهذا التفريق مخالف لإجماع السلف في حق الطوائف التي اجتمعت على كفر، كنصرة القباب والقانون) مجلةدابق .

و الحديث عن استباحة " تنظيم الدولة " لدماء مخالفيهم لا يحتاج إلى كثرة إطالة ، فالذي لا يبينه لسان " المقال " يوضحه لسان " الحال" ، فكيف إذا كانوا بعد كل جريمة يرتكبونها في قتل المسلمين من المصلين ، أو العساكر والجنود ، أو الأقارب يكتبون البيانات التي يتبنون فيها هذه العمليات ، ويفخرون بها بقلوب باردة ، ويسمون قتلاهم بــ( المرتدين ) ، ويجعلون ذلك باباً من أبواب الجهاد ضد الطواغيت وأعوانهم ، وقد سبق نصهم على ردة كل هؤلاء وحل دمائهم ووجوب قتالهم .

إن مقارنة بسيطة بين هذه الجرأة في " التكفير " عند هؤلاء في مسائل وأوصاف ابتدعوها وأجروا على أصحابها مسائل الكفر والردة واستباحة الدماء وبين منهج شيخ الإسلام العلمي والعملي يجد الإنسان المسافات الشاسعات بين الفريقين ، ولو انهم عقلوا ما يقرره شيخ الإسلام لما وقعوا فيما وقعوا فيه من القتل والاستباحة ، فهاهو يذكر أنه يناقش ويناظر الحلولية والنفاة المعطلة فهو يقول : (لهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية و النفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم أنا لو وافقتكم كنت كافرا لأني أعلم أن قولكم كفر وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال وكان هذا خطابا لعلمائهم و قضاتهم و شيوخهم وأمرائهم. و أصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح و المعقول الصريح الموافق له، وكان هذا خطابنا، فلهذا لم نقابل جهله و افتراءه بالتكفير بمثله ) ، فهذا النص منه رحمه الله يبين " الإعذار " للمخالف في مسائل هو يعتقد في نفسه أنه من الكفر ، ومع ذلك لم يكفرهم للقصور والجهل الذي عندهم في مسائل المنقول والمعقول ، ولم يكفر كذلك من كفره منهم لأنه لا يستخدم التكفير سبيلاً للنكاية بخصومه أو الانتقام منهم .

وإلى لقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله .

المعاول التيميّة على القواعد الداعشيّة (5)
 

دعاوى المناوئين

  • ترجمة ابن تيمية
  • دعوى المناوئين
  • مواضيع متفرقة
  • كتب ابن تيمية
  • الصفحة الرئيسية