الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :
فهذه قصة رجوعي من مذهب الإباضية ، إلى مذهب أهل الحق ، وطريقة أهل الاستقامة
،
وقد سبق لي أن ذكرت شيئا من هذا في السبلة الإباضية ، ولكن تعجل بعض من هناك
بالتكذيب ، وكأنهم لا يعلمون أن كثيرا من الإباضية في عمان وخارجها قد تركوا
مذهب آبائهم إلى مذهب أهل السنة والجماعة ،
وهذا أمر معلوم لكل من يعيش في عمان تقريبا ، بل لا أظن أحدا من أهل عمان إلا
ويعرف واحدا أو أكثر ممن ترك المذهب الإباضي ورجع إلى مذهب الحق ،
ثم إن الله – عز وجل – أراد أن يكشف تسرع أولئك المكذبين ، فدخل السبلة بعض
من يعرفني شخصيا ، وهو من الإباضية ، فصرح بأني كنت إباضيا ، ثم رجعت إلى
مذهب أهل السنة والجماعة ، فالحمد لله أن جعل لي من يصدقني .
على أية حال ، فليس المراد من سياق هذه القصة أن يصدق الناس أني كنت إباضيا
أولا ،
ولكن المراد أن يطلع المنصف على السبب الذي جعلني أترك مذهب الآباء والأجداد
، لعله إن سلك طريقي أن يصل إلى نفس القناعة التي وصلت إليها .
وأول ذلك أني كنت يوما من الأيام أصلي في مسجد حينا على الهيئة الإباضية ،
فجاءني رجل من أهل المسجد وقال : " يا أخي لم لا تكبر تكبيرة الإحرام ،
فالصلاة لا تصح إلا بتكبيرة الإحرام " ،
طبعا أنا كنت أكبر تكبيرة الإحرام ، لكني لم أكن أرفع يدي مع التكبير لأن هذا
هو المذهب الإباضي ،
مع أن أحاديث الرفع كثيرة وكثيرة جدا ، منها في الصحيحين وغيرها ، بل هي
متواترة ،
على أية حال قلت له : " بل أنا أكبر تكبيرة الإحرام ، ولكن سرا " ،
فقال لي : " إذن لا أراك ترفع يديك ! " ،
قلت له : " نحن الإباضية لا نرفع أيدينا في تكبيرة الإحرام " ، وظننت أن هذا
الجواب كاف له ليتركني وشأني ،
ولكنه قال : " أنت إباضي ! " ،
قلت : " نعم " ،
قال : " لا يمكن أن أتركك على هذا المذهب ، هذا من المذاهب الضالة " ،
فكبرت هذه الكلمة عليَ ، واستعظمتها جدا ، ولذلك ينبغي الرفق في الدعوة ،
خاصة مع الذين لا يعلمون شيئا
فذكر لي كلاما يستدل به على ذلك ، لكني لا أذكر منه شيئا الآن ، لأني لم أكن
أفهم ما يقول ،
على أية حال ، أحدث هذا عندي شكا ، فلما ذهبت إلى عمان جئت أحد أخوالي فقصصت
له ما سبق ، فأعطاني كتاب الحق الدامغ ، ولكني أيضا لم أفهم منه شيئا ، لأنه
كان فوق المستوى ،
ولكن رأى أحد طلبة العلم عندي الكتاب ، فأخذه وقرأه ، ثم أعطاني محاضرة حوله
، لكني أيضا لم أفهم شيئا ، لأن ذلك كله كان فوق المستوى ، وفي هذا فائدة
مهمة للداعية ، وهي أن يحدث الناس على قدر عقولهم ، لأن المراد هداية الناس ،
فلو كلم الناس بما لا يفهمونه لم يستفد الناس من فعله شيئا .
ثم إني في أحد سفراتي إلى عمان جلست مع خال لي فسألته عن الخلاف بين أهل
السنة والإباضية ، حيث كنت أظن سابقا أن الخلاف إنما هو في الصلاة فقط ،
الإباضية يسدلون أيديهم وأهل السنة يكفتونها ، يضعونها على صدورهم ،
فأعلمني أن الخلاف أوسع من ذلك ، وأن أهل السنة مشبهة ،
فقلت له : " وما معنى مشبهة ؟ " ،
قال : " أي أنهم يشبهون الله بعباده ، فيقولون : الله له يد كيد البشر " ،
فاستعظمت هذا ورأيت أن مذهب أهل السنة من أبطل ما يكون ، وطبعا فرحت بهذا من
قرارة نفسي ،
لأني كنت أريد أن يكون الإباضية هم على الحق ، لأنه المذهب الذي ولدت عليه ،
والذي رأيت كل أهلي عليه ، بل كنت إذا جاءنا ضيف فصلى على مذهب أهل السنة
استنكرت فعله جدا ،
فذهبت إلى أهل السنة ، وعرضت على أحد طلبة العلم ما علمته من خالي ،
وقلت له : " أنتم مشبهة ، لأنكم تقولون : إن لله يدا كأيدي الناس " ،
فقال لي : " أعوذ بالله ، بل نحن نقول : الله له يد تليق به ، كما أن للمخلوق
يدا تليق به " ،
ثم طرح علي هذا السؤال : " هل الله يسمع ؟ " ،
قلت : " نعم " ،
قال : " يسمع كسمعنا ؟ "
قلت له : " لا "
قال : " كذلك الله له يد لا كأيدنا " ،
وأعطاني الدليل على ذلك وهو قوله تعالى : " بل يداه مبسوطتان " ، وقوله تعالى
لإبليس : " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " .
فاطمأنت نفسي لذلك جدا ، ووقع كلامه في قلبي موقعا عظيما ، ورأيت أنه كلام
سلس مفهوم واضح موافق للفطرة ،
فقنعت به ، وصرت من يومها أصلي على مذهب أهل السنة ،
ثم إني ذهبت إلى عمان مرة أخرى ، فقلت لخالي : " أهل السنة ليسوا مشبهة ، بل
يقولون : الله له صفات تليق به ، كما أن للمخلوق صفات تليق به ، وصفة الله لا
تشبه صفة المخلوق " ،
فلم يعرف ما يقول ، لأنه كان مبتدئا في العلم ،
ولكنه حول مجرى الكلام فقال : " هل تعلم أن ابن تيمية يقول : إن الله يستوي
على جناح بعوضة ؟ " ،
فقلت : له : " وما معنى يستوي ؟ " ،
قال : " يجلس " ،
قلت : " ومن ابن تيمية هذا ؟ " ،
قال : " عالم من علماء السنة " ،
فانقدح في نفسي أن هذا الرجل يتبرأ منه أهل السنة ، لأنه لا يمكن لأحد أن
يقبل مثل هذه المقولة ،
فرجعت إلى طلاب العلم من أهل السنة فسألتهم عن ذلك ،
فقال لي أحدهم : " ليس بصحيح ، ابن تيمية لا يقول ذلك ، ومن زعم أن ابن تيمية
يقوله فليأت بكلامه " ،
وفهمني أن ابن تيمية إمام عظيم ، وأن العلماء اتفقوا على توثيقه [ طبعا إلا
من شذ ] ،
ثم إني بعد أن قرأت كتب ابن تيمية عرفت أصل المسألة ، وهو أن ابن تيمية نقل
عن عثمان بن سعيد الدارمي في رده على المريسي أنه – أي المريسي – أنكر أن
يكون الله فوق العرش ،
فقال الدارمي : " ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف
ربوبيته " [ انظر نقض تأسيس الجهمية (1/568) ] ،
وهذا أولا : ليس من كلام ابن تيمية ، بل نقله عن الدارمي ،
وثانيا : هذا من باب فرض ما لم يكن ، كقوله تعالى : " لو كان فيهما آلهة إلا
الله لفسدتا " ، وكقوله : " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب
كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض " ، وكقوله : " قل إن كان للرحمن ولد
فأنا أول العابدين " ، ونحوها من الآيات ،
فكل هذا من باب التنزل وفرض المستحيل ، فهذا كما ترى ليس فيه غضاضة على
الإطلاق ، والله قد استوى على العرش وهو مخلوق من مخلوقاته جل وعلا ، فهو لا
يسأل عما يفعل وهم يسألون .
على أية حال هذه كان بداية سلسة كذبات سمعتها على هذا الإمام العظيم ، ليس من
خالي ، إنما من غيره فيما بعد ، وكثير منها تولى كبرها بعض من يكتب في السبلة
العمانية ،
وفي النية إن يسر الله أن أجمع بعض ذلك وأرد عليه ، ذبا عن عرض هذا الإمام
العظيم ، فيعلم الله كم له من فضل علي خاصة ، وعلى المسلمين عامة ، اللهم
اجزه عنا خير الجزاء ، اللهم اجمعنا به في دار كرامتك .
بعد ذلك ما زلت أتردد بين الفريقين ، فأسمع حجة هؤلاء ، وحجة هؤلاء ، ثم
أقارن ،
وأذكر أن من الأمور التي استوقفتني مسألة نزول الرب – عز وجل – إلى السماء
الدنيا ،
فإن خالي قال لي مرة : " إن أهل السنة يثبتون أن الله ينزل كل ليلة إلى
السماء الدنيا " ،
وكنت قد حضرت محاضرة لأحد أهل السنة تكلم فيها عن هذه المسألة ، ووضح أنهم
يؤمنون بأن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ، وأن هذا هو نص كلام النبي
– صلى الله عليه وسلم – كما ثبت في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم
عن أبي هريرة – رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "
ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر
، يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له "
.
فقلت لخالي : " نعم أهل السنة يثبتون ذلك على ما جاء به الحديث " ،
فقال لي : " ولكن قال الشيخ أحمد الخليلي : إن ثلث الليل يدور حول العالم ،
فحين ينتهي ثلث من منطقة يذهب إلى التي تليها من جهة الغرب ، وهكذا ، فثلث
الليل لا يزال حول العالم يدور ، فهل معنى هذا أن الله يبقى نازلا إلى الأبد
؟ "
فرأيت أن هذا الدليل قوي جدا ، ولم أستطع الانفكاك عنه ،
فغيرت مذهبي على الفور إلى مذهب الإباضية ،
وصرت أصلي مسبلا يدي ، وصرت على يقين أن هذا الدليل لا مدفع له ، وشعرت حينها
أني قوي ، كالجندي الذي معه سلاح يجزم أن عدوه لا يمكنه أن يمتلك سلاحا
يقاومه ، فصرت كلما لقيت أحدا شرحت له هذا الدليل الذي وصلني من قبل الخليلي
، من شدة فرحي بما سمعت .
حتى قابلت مرة أحد أهل السنة العوام فأخبرته بما قاله الخليلي ، فقال : " أنا
لا أعرف الجواب ، ولكن سآخذك إلى من هو أعلم مني " ،
فقلت : " نعم " ،
وكنت على يقين أنه سيفاجأ بهذا الجواب ، وكنت أظن أن هذه الحجة من عند
الخليلي لم يسبقه إليها أحد ، فلما ذهبنا عند الرجل ، وكان من طلبة العلم
الحريصين ، شرح له صاحبي المسألة ، وسمع الرجل الدليل مني ،
إلا أنه فاجأني بأن قال : " هذه شبهة قديمة معروفة ، وقد أجاب عليها الشيخ
ابن عثيمين في فتاواه ، وسأهديك منها نسخة " ،
وواعدني أن آتيه بالغد ،
وفي اليوم التالي حضر إلى المسجد فعلا ، وأعطاني نسخة من فتاوى الشيخ ابن
عثيمين ، وكتبا أخرى ،
ويعلم الله ، كم كانت فرحتي بتلك الهدية ،
وهذه لفتة مهمة إلى الدعاة ، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : "
تهادوا تحابوا " ،
فكم أثرت هديته في نفسي ، ولما شعرت أنها تخصني زاد اهتمامي بالكتاب ، وكنت
أول مرة أسمع فيها بالشيخ ابن عثيمين ، فأراني الرجل مكان الفتوى المطلوبة ،
ثم قال لي : " اقرأ الكتاب فسيفيدك جدا " ،
وفعلا قرأت الكتاب من أوله إلى آخره ، واستفدت منه أمورا عظيمة ،
منها : تعريف أهل السنة والجماعة ،
ومنها : تقسيم التوحيد ومعاني كل قسم ،
ومنها : طريقة أهل السنة في الإثبات ، والأدلة على ذلك ، وأنهم غير مشبهة ،
بل ينكرون على المشبهة ،
ومنها : تحريم التصوير ، وأنه وسيلة إلى الشرك ،
ومنها : تحريم البناء على القبور ، والغلو فيها ،
إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة ،
ومما كان يزيدني اهتماما بالكتاب تمكن صاحبه ، وسهولة عبارته ، وقوة أدلته ،
ولم أكن أتصور حينها أن يقدر الله لي التتلمذ علي يدي هذا الرجل العظيم ،
وأني سأكون ممن يجلس في حلقاته ، ويسمع منه مباشرة ،
ولكن لله على عباده ألطاف كثيرة ،
ويعلم الله أني من يومها لم أحب عالما من العلماء الذين التقيت بهم كما أحببت
ذلك الشيخ العظيم ، الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله رحمة واسعة - .
وهنا لفتة مهمة أيضا إلى الدعاة : وهي أن نشر كتب أمثال هؤلاء العلماء فيه من
الخير الشيء الكثير ، وخاصة كتب الفتاوى ، لأنها تتناول أسئلة الناس التي
تدور بينهم ، والتي يكثر السؤال عنها ، ولأنها تراعي مستوى العوام ، أو
المبتدئين ، وفيها تعليق الناس بأهل العلم الكبار ، فيعلم الله كم لذلك الرجل
الذي أعطاني كتاب الشيخ ابن عثيمين من فضل علي بما أهداني .
والمقصود ، أني قرأت فتوى الشيخ حول الشبهة المذكورة ، وإليكم نص السؤال ،
وجوابه :
جاء في مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين (1/102) سؤال رقم (102) ما نصه :
" سئل الشيخ – أعلى الله درجته في الهديين - : من المعلوم أن الليل يدور على
الكرة الأرضية ، والله – عز وجل – يزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل
الآخر ، فمقتضى ضلك أن يكون كل الليل في السماء الدنيا ، فما الجواب عن ذلك ؟
فأجاب بقوله : الواجب علينا أن نؤمن بما وصف الله وسمى به نفسه في كتابه وعلى
لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم – من غير تحرف ، ولا تعطيل ، ولا تكييف ،
ولا تمثيل ،
فالتحريف في النصوص ،
والتعطيل في المعتقد ،
والتكييف في الصفة ،
والتمثيل أيضا في الصفة ، إلا أنه أخص من التكييف ؛ لأنه تكييف مقيد بمماثلة
،
فيجب أن تبرأ عقيدتنا من هذه المحاذير الأربعة ،
ويجب على الإنسان أن يمنع نفسه عن السؤال بـ ( لم ) ؟ وكيف ؟ فيما يتعلق
بأسماء الله وصفاته ، وكذا يمنع نفسه عن التفكير في الكيفية ،
وهذا الطريق إذا سلكه الإنسان استراح كثيرا ، وهذه حال السلف – رحمهم الله -
، ولهذا جاء رجل إلى مالك بن أنس – رحمه الله – قال : يا أبا عبد الله "
الرحمن على العرش استوى " ، كيف استوى ؟ ، فأطرق برأسه وعلته الرحضاء ، وقال
: " الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه
بدعة ، وما أراك إلا مبتدعا " ،
وهذا الذي يقول : إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر
كل ليلة ، فيلزم من هذا أن يكون كل الليل في السماء الدينا ؛ لأن الليل يدور
على جميع الأرض ، فالثلث ينتقل من هذا المكان إلى هذا المكان الآخر ؟ .
جوابنا عليه أن نقول : هذا سؤال لم يسأله الصحابة – رضوان الله عليهم - ، ولو
كان هذا يرد على قلب المؤمن المستسلم لبينه الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم
- ،
ونقول : ما دام ثلث الليل الأخير في هذه الجهة باقيا فالنزول فيها محقق ،
ومتى انتهى الليل انتفى النزول ، ونحن لا ندرك كيفية نزول الله ، ولا نحيط به
علما ، ونعلم أنه سبحانه ليس كمثله شيء ، وعلينا أن نستسلم ، وأن نقول :
سمعنا ، وآمنا ، واتبعنا ، وأطعنا ، هذه وظيفتنا " اهـ .
وهذا الجواب كاف شاف كما ترى ، فالله – عز وجل – أخبرنا على لسان نبيه ، أنه
ينزل في الثلث الأخير من الليل ، فنحن نؤمن بهذا ،
فأينما كان الثلث الأخير فهنالك النزول ،
ثم إنه من المتفق عليه بيننا وبين الإباضية أنه لا ينبغي للإنسان أن يخوض في
صفات الله – عز وجل – بالتفكير ، والتكييف ،
بل ينبغي عليه أن يكف عن هذا ، فما بال علماء الإباضية يعرضون مثل هذه الشبه
، مع أننا جميعا متفقون أنه ينبغي عدم الخوض فيها ؟!!
على أية حال عرفت حينها أن أهل السنة يقولون إزاء النصوص : سمعنا وأطعنا ،
فإذا لم تتقبل عقولهم شيء اتهموها ، وآمنوا بالنص ، ولم يردوا النص لأجل شيء
يقوم في عقولهم ،
وأن هذه الطريقة أسلم ، وأحكم ، وأعلم ، وهي طريقة الصحابة ، ومن بعدهم من
علماء الأمة ، ومن سلكها نجا ، ومن تنكبها هلك ،
فلو عرضنا نصوص الكتاب والسنة على عقولنا لرددنا الكثير مما لا يقبله عقل
كثير من الناس ، والواجب عدم معارضة النصوص إذا ثبتت .
ومن يومها استفدت درسا عظيما ، وهو التسليم لكتاب الله ، وسنة رسوله - عليه
الصلاة والسلام - ، وعدم الاعتراض عليهما ، فصار عندي قناعة تامة بمذهب أهل
السنة في صفات الله – عز و جل - ، وذلك بفضل قراءتي لفتاوى الشيخ محمد بن
صالح العثيمين – رحمه الله تعالى - .
ورجعت بعدها أصلي صلاة أهل السنة ، أكفت يدي ، كما يكفتون .
بعدها تزايد حضوري لحلقات طلاب العلم من أهل السنة والجماعة عندنا في
الإمارات ، وصرت أواظب على الدروس في أيام معينة من الأسبوع ، فدرست كتاب
الأصول الثلاثة ، وبعض كتاب التوحيد ، كلاهما للشيخ محمد بن عبد الوهاب –
رحمه الله - ،
وحضرت بعض حلقات العقيدة ، وأظن أنها كانت حول كتاب العقيدة الواسطية لشيخ
الإسلام ابن تيمية ، فعرفت الكثير من مبادئ أهل السنة والجماعة في الصفات ،
ومن القواعد المفيدة التي درستها : ( أن القول في الصفات كالقول في الذات ) ،
فالصفات تابعة للذات ، فمن أثبت لله ذاتا لا تشبه الذوات فليثبت له صفات لا
تشبه الصفات ،
فلله – عز وجل – يد لا كيدنا ، وله وجه لا كوجهنا ، وله سمع لا كسمعنا ، وله
بصر لا كبصرنا ، وله علم لا كعلمنا ، وله عزة لا كعزتنا ، كما أن له ذاتا
ليست كذواتنا ، كل ذلك سواء .
ومن القواعد المفيدة التي درستها : ( أن كل معطل مشبه ) ، فكل من عطل صفة من
صفات الله إنما عطلها لأنه فهم منها التشبيه ، ولو أنه ما فهم التشبيه من تلك
الصفة لأثبتها ،
فهو حين يقرأ قوله تعالى : " ما منعك أن تسجد لما خلقت يدي " ، يفهم أن هاتين
اليدين كيدي المخلوق ، فلأجل هذا يضطر إلى أن يؤول ، ويقول : ليست اليد هنا
على معناها الحقيقي ، بل هي بمعنى المباشرة ، أو بمعنى القوة ، أو غير ذلك من
المعاني ، والذي جعله يتؤل الآية أنه فهم منها التشبيه ، وليس كذلك ، فليس
الأمر على ما ذكر ، بل القرآن ليس ظاهره تشبها ، حاشا وكلا ،
قال نعيم بن حماد الخزاعى شيخ البخارى : " من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن
جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله
تشبيها " .
على أية حال : كانت هذه المرحلة مرحلة تعلم لمبادئ أهل السنة والجماعة عموما
، ولعقيدتهم في الصفات خصوصا .
فكنت إذا ذهبت إلى عمان عند أخوالي أناقشهم في بعض ما تعلمته يعجزون عن
مجاراتي ، لأنهم لم يكونوا بدرجة عالية من الدراية بمذهبهم ، وهذا زادني
تثبيتا على ما أنا عليه .
ثم إنني ذهبت مرة لزيارة أحد طلاب العلم من أهل السنة والجماعة ، فذكرت له
قصتي ، وبعض ما كان يجري بيني وبين أخوالي وغيرهم من أهلي ،
وقلت له : " أريد أن أذهب إلى الشيخ أحمد الخليلي " ، لعلي أجد عنده شيئا
زائدا ،
فنصحني ألا أذهب إليه ، ولكني لم أقنع بكلامه ، لأني كنت أرى أنه من تمام
الإنصاف أن أسمع حججهم كاملة ،
ثم في نهاية المجلس أعارني كتابا نفيسا بعنوان : " إثبات علو الرحمن ، من قول
فرعون لهامان " ، لأسامة القصاص ، وهو كتاب نفيس في بابه ، فزدت قناعة بما
توصلت إليه من الحق ، والحمد لله .
ثم إنه لم يتيسر لي أن أذهب إلى الشيخ أحمد الخليلي – مفتي عمان - ، ولكني
كنت أقرأ بعض كتب الإباضية كلما ذهبت إلى عمان ، وأذكر أني كنت إذا أمسكت
بكتاب من كتبهم أقول قبل أن أفتحه : " اللهم إن كان الحق في هذا الكتاب فأرني
إياه " ، ولكني لم أكن أرى إلا ما يزيد ثقتي بصدق مذهب أهل السنة والجماعة .
كل ذلك كان وأنا في مرحلة الثانوية العامة ، وما بعدها بقليل ، وبعد مرحلة
الثانوية العامة صرت على مفترق الطرق ، إما أن أذهب إلى إحدى شركات الطيران
لأدرس وأتخرج طيارا ، وإما أن أذهب إلى الجامعة الإسلامية ، ولله الحمد قبلت
في الجامعة الإسلامية قبل استدعائي إلى معهد الطيران للدراسة ، فلما بدأت
بالجامعة ودخل حبها قلبي استدعيت للطيران ، ولكن هيهات وقد تعلق القلب
بالمدينة النبوية ، ومسجدها ، وجامعتها ، فلم أبغ بذلك بدلا ، ولله الحمد .
مع أن قلبي كان أميل إلى الذهاب للطيران قبل ذلك ، بل كنت أعد ذهابي للجامعة
الإسلامية لما ذهبت استغلال وقت فراغ قبل أن أحزم حقائبي وأتوجه إلى الطيران
، ولكن أعان الله بكرمه ، ولطف رحمته بأن نشبت بالجامعة ، فلم أبغ بها بدلا ،
ولله الحمد والمنة .
وفي الجامعة الإسلامية حصل لي تحول كبير في حياتي ،
فهنالك عاشرت علماء أهل السنة ، وتعلمت منهم ، ونهلت من آدابهم ، وكان أخي في
الإمارات إذا أشكل عليه شيء كلمني في الهاتف،
وسألت له العلماء عن إشكاله فكشفوه لي ،
وأذكر أن من أول الإشكالات التي عرضت علي هناك مسألة الحد وإثباتها لله – عز
وجل - ، فسألت عنها العلماء ، فكان أول من سألت من أهل العلم الشيخ : ( محمد
أمان الجامي – رحمه الله - ) وكان متخصصا في العقيدة ،
وكنا قد انتهينا لتونا من صلاة الفجر في المسجد النبوي الشريف ، وكانت للشيخ
حلقة في العقيدة بعد صلاة الفجر ، فسألته قبل أن يجلس على كرسيه ،
قلت : " يا شيخ هل أهل السنة يثبتون الحد لله – عز وجل - ؟ " ،
فقال : " وما الذي تعنيه بالحد ؟ " ،
فارتبكت ، فلما رأى مني الارتباك قال لي : " يا ولدي ! اذهب وادرس العقيدة "
،
وأمرني أن أركز على الأصول وأن لا أهتم بالمسائل العارضة الآن ،
فانصرفت من عنده مهموما ؛ لأني كنت أريد الجواب حالا ، ولكني عرفت أن تلك
الكلمة من الشيخ أراد بها أن يربيني ، وخاصة لما رأى عدم فقهي للسؤال الذي
سألت عنه ، فما فائدة جواب لإنسان لا يدري معنى السؤال الذي يسأله ؟ ،
ولكني لم أدرك ذلك في حينه ، فما زلت أفتش حتى علمت قاعدة أهل السنة في مثل
هذا ، وهو ما ذكره ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية (ص218، ط .
المكتب الإسلامي ، تخريج الألباني )
قال – عند شرحه لقول الطحاوي : " وتعالى عن الحدود والغايات " -
: " أن الناس في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال :
فطائفة تنفيها ، وطائفة تثبتها ،
وطائفة تفصل ، وهم المتبعون للسلف ، فلا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا
تبين ما أثبت بها فهو ثابت ، وما نفي بها فهو منفي ؛
لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إحمال وإبهام ، كغيرها
من الألفاظ الاصطلاحية ، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي ،
ولهذا كان النفاة ينفون بها حقا وباطلا ، ويذكرون عن مثبتيها مالا يقولون به
،
وبعض المثبتين لها يدخل لها معنى باطلا مخالفا لقول السلف ، ولما دل عليه
الكتاب والميزان ،
ولم يرد نص من الكتاب ولا من السنة بنفيها ولا إثباتها ، وليس لنا أن نصف
الله تعالى بما لم يصف به نفسه ، ولا وصفه به رسوله نفيا ولا إثباتا ، وإنما
نحن متبعون لا مبتدعون ،
فالواجب أن يُنظر في هذا الباب – أعني باب الصفات – فما أثبته الله ورسوله
أثبتناه ، وما نفاه الله ورسوله نفيناه ، والألفاظ التي ورد بها النص يُعتصم
بها في الإثبات والنفي ، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني ،
وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تطلق حتى يُنظر في مقصود
قائلها ، فإن كان معنى صحيحا قبل ،
لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص ، دون الألفاظ المجملة ، إلا عند الحاجة
مع قرائن تبين المراد ، والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه
إن لم يخاطب بها ، ونحو ذلك " اهـ كلامه رحمه الله .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – [ مجموع الفتاوى (3/308) ] :
" والسلف والأئمة الذين ذموا وبدعوا الكلام في الجوهر ، والجسم ، والعرض تضمن
كلامهم ذم من يُدخل المعاني التي يقصدها هؤلاء بهذه الألفاظ في أصول الدين ،
في دلائله وفي مسائله نفيا وإثباتا ،
فأما إذا عرف المعاني الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة ، وعبر عنها لمن يفهم
بهذه الألفاظ ؛ ليتبين ما وافق الحق من معاني هؤلاء وما خالفه ؛ فهذا عظيم
المنفعة ، وهو من الحكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه " اهـ كلامه –
رحمه الله - .
فلفظة الحد كما ترى ليست من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة ، فيُستفصل
فيها ،
فإن كان مراد قائلها حقا فإن الحق يقبل ، ولكن الأولى التعبير به تعبيرا
شرعيا ، وإن كان مراد قائلها أمرا باطلا فإنها ترد ،
فإن أراد بالحد أن الله مستو على عرشه ، بائن من خلقه ، منفصل عنهم ، كان
كلامه حقا ، وإن أراد بالحد أن الله محدود ، وأنه محشور في مكان يحده ، فهذا
باطل ولا شك ،
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ،
وما أحسن ما نقله الذهبي في السير في ترجمة أبي القاسم التيمي [ السير
(20/85) ] قال :
" سئل أبو القاسم التيمي - رحمه الله - هل يجوز أن يقال لله حد أو لا ؟ ، وهل
جرى هذا الخلاف في السلف ؟
فأجاب : هذه مسألة أستعفي من الجواب عنها لغموضها وقلة وقوفي على غرض السائل
منها ، لكني أشير إلى بعض ما بلغني ،
تكلَّم أهل الحقائق في تفسير الحد بعبارات مختلفة محصولها :
أن حد كل شيء موضع بينونته عن غيره ،
فإن كان غرض القائل ليس لله حد : ( لا يحيط علم الحقائق به ) ، فهو مصيب ،
وإن كان غرضه بذلك : ( لا يحيط علمه تعالى بنفسه ) ، فهو ضال ،
أو كان غرضه أن الله بذاته في كل مكان فهو أيضا ضال .
قلت [ والقائل هو الذهبي ] : الصواب الكف عن إطلاق ذلك ؛
إذ لم يأت فيه نص ، ولو فرضنا أن المعنى صحيح ، فليس لنا أن نتفوه بشيء لم
يأذن به الله خوفا من أن يدخل القلب شيء من البدعة ، اللهم احفظ علينا
إيماننا " اهـ .
وهذا كما ترى أمر واضح جلي ، وحقا : " إنما شفاء العي السؤال " .
وهكذا استمرت الفوائد تنهال علي من علماء أهل السنة في المدينة ، ومن طلابها
،
وأذكر ذات مرة أني قابلت رجلا من أهل عمان إباضيا يصلي في المسجد النبوي
الشريف ،
فتعرفت عليه ، وتعرف علي ، فلما عرف أني سني جرى بيني وبينه حوار حول استواء
الله على العرش ،
فقلت له : " يا أخي الكريم الاستواء بمعنى الارتفاع والعلو ، كما قال تعالى :
" وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ، لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة
ربكم إذا استويتم عليه ... " ، وقوله تعالى عن سفينة نوح : " واستوت على
الجودي " ،
فالاستواء العلو والاستقرار ، والله يقول في سبع مواضع من القرآن إنه استوى
على العرش منها
قوله تعالى : " الرحمن على العرش استوى " ، وقوله : " ... ثم استوى على العرش
الرحمن فاسأل به خبيرا " ،
ويثبت أنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض " يدبر الأمر من السماء إلى الأرض
في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون " ،
وأذكر أني استوقفته عند هذه الآية ، فقلت له تأمل سياق الآيات في سورة السجدة
، وشدة وضوحها على استواء الله – عز وجل - ،
ففتحت معه المصحف – لأني لم أكن أحفظها – وقرأتها عليه ،
يقول تعالى : " الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم
استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ، يدبر الأمر
من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون " .
فقلت له : تأمل هذه الآيات كيف هي صريحة في إثبات علو الله ، واستوائه على
عرشه ،
ففي أولها أثبت لنفسه الاستواء على العرش ، ثم أخبر أنه يدبر الأمر من السماء
إلى الأرض ، ثم أخبر أن الأمر يرفع إليه ، فإن كانت هذه الآية يجوز أن يسلط
عليها التأويل فليست هناك آية لا يمكن أن تأول ،
وعلى هذا يعود القرآن كله مؤولا ، وعليه فلا يستفاد الهدى منه ، بل يتوقف
استفادة الهدى من القرآن على أقوال الناس من المشايخ المتبوعين ،
ثم الله قد وصف قرآنه بأنه مبين ، كما قال تعالى : " والكتاب المبين " ، وقال
: " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " ، فالقرآن ميسر ،
والذي يقول : إن هذه الآيات على خلاف ظاهرها – مع أنها نص في علو الله ،
واستوائه – فهذا يزعم أن القرآن غير مبين .
واستطرادا هنا أقول : إن الشيخ أحمد الخليلي اشتد نكيره على عبد الرحيم
الطحان لما قال : " لا قرآن بلا سنة " ، مع أنه يقصد أن من أخذ القرآن وترك
السنة فإنه يضل ، وسياق كلامه كله في هذا المعنى ،
فأنكر الشيخ أحمد عليه ، وساق في إنكاره عليه الآيتين التين ذكرت وأمثالها من
الآيات التي تدل على أن القرآن فيه الهدى ، وقوله حق لا مرية فيه ،
ولكن العجب أنه أيد قول الباحثة التي قدم لرسالتها الموسومة بـ " رؤية الله
بين المثبتين والنافين " حيث تقول المؤلفة في (ص26) :
" وقد يقول قائل : إنه إذا كان الله تعالى غير مستقر على العرش ، وغير جسمه [
هكذا ] فما معنى الآيات ، والأحاديث التي جاءت في القرآن الكريم ، وعلى لسان
سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – والتي ظاهرها يوهم ذلك ؟
ولعل أبلغ رد على هذا السؤال أن نقول : إن المقصود من ذكر هذه الآيات
والأحاديث هو الامتحان ، والاختبار ،
هل يفهمها الناس على حقيقتها فيقعون في تشبيه الله بالحوادث فيضلون بذلك ، أو
يفهمونها بما يتفق مع النصوص الصريحة الدالة على أن الله منزه عن صفات
الحوادث ، وأنه ليس كمثله شيء ، ومع دلالة العقل السليم على أن الله وهو
القديم الباقي لو اتصف بالحادث يكون حادثا ، لأن الحادث له أول ، والقديم لا
أول له ... " الخ كلامها .
وهذا يدل على أن الإباضية يرون أن أكثر آيات القرآن يدل ظاهرها على الضلال ،
لأنك لا تكاد تمر على آية من آيات القرآن إلا وفيها صفة من صفات الله ، بل
القرآن كله كلام الله ،
فإذا كان أكثر أو كثير من آيات القرآن يدل ظاهرها على الضلال فهل يجوز أن
يوصف مع هذا بأنه مبين ؟
ثم إن كنا نحتاج إلى تأويل تلكم الآيات الكثيرة فمن يؤلها لنا ؟
لا شك أنهم المشايخ – أعني مشائخ الإباضية – وعلى هذا فلا يؤخذ الهدى من
القرآن ، إنما يؤخذ من المشائخ ،
فلم ينكر الخليلي إذا على من قال : " لا قرآن بلا سنة " ، وهو أحسن حالا ممن
يدل كلامه على أنه ( لا قرآن بلا قول المشائخ ) ؟ .
كل هذا استطراد ، ولنرجع إلى صاحبنا ،
فإني لما سقت له الآيات التي تدل على العلو ، لم يجد لها مدفعا ، قال لي "
أنا لا أسلم بهذا الكلام ، ولا أقول : إن الله فوق السماء " ،
قلت له : فأين الله ؟ ،
قال : " في كل مكان " ،
وهو يظن أن هذه عقيدة الإباضية ، وليست كذلك ، بل عقيدتهم أن الله ليس داخل
العالم ولا خارجه ، ولكنه اعتقدها لأنه يظن أنها عقيدة الآباء ، وليس معه في
ذلك دليل ، وهذا من العجب !!،
أن يتعصب الإنسان لشيء لا دليل عليه ، وهذا حال أكثر الإباضية ، بل أكثر
البشر إنما يتعصبون لما ألفوه ، ولما أخذوه من آبائهم ، وإن لم يكن معهم دليل
،
وأذكر مرة أن أحد أخوال كان يظن أن أهل السنة يقولون : " إن الله في كل مكان
" ، وأن الإباضية يقولون : " إن الله فوق السماء " ،
فأنكر علي اعتقادي أن الله في كل مكان ،
فقلت له : " أهل السنة لا يعتقدون أن الله في كل مكان ، بل يعتقدون أن الله
فوق السماء " ،
فقال : " لا ، أنتم تعتقدون أن الله في كل مكان " ،
قلت له : " نحن نرد هذه العقيدة " ،
فلما تأكد أننا نعتقد أن الله فوق السماء ، وأن الإباضية لا يعتقدون ذلك غير
عقيدته على الفور ،
وقال لي : " نعم الله في كل مكان ، وهذا هو الحق " ، قلت له : " قبل قليل كنت
تقول خلاف هذا " ، قال : " كنت أظنها عقيدة الإباضية " .
وهذا حال أكثر الناس ، مجرد أن يعرف أن عقيدتهم كذا يسارع إلى الدفاع عنها من
غير بينة ، والله المستعان .
نعود إلى صاحبنا الإباضي ،
قال لي : " إن الله في كل مكان " ،
فقلت له : " هل تعتقد أن الله في الحمام ؟!! " – تعالى الله عما يقول الله
الظالمون علوا كبيرا - .
فسكت هنيهة ثم قال – كالمعترض على كلامي – : " إن لم يكن الله في الحمام فإني
سأذهب إلى الحمام وأشرب الخمر " .
فقلت له : " هداك الله ، إن الله فوق سماواته ، مستو على عرشه ، ومع ذلك قريب
من خلقه ، يعلم كل ما يكون على الأرض ، ولأجل هذا يقرن الله – عز وجل – دائما
علوه بالعلم ،
قال تعالى : " الرحمن على العرش استوى ، له ما في السماوات وما في الأرض وما
بينهما وما تحت الثرى ، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى " ،
وقال تعالى : " هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش
، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو
معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير " ،
ومثلها قوله تعالى : " هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم " ،
فقرن بين اسمه الظاهر وبين اسمه الباطن ، وقد فسر النبي – صلى الله عليه وسلم
– معنى الظاهر بقوله : " أنت الظاهر فليس فوقك شيء " ، وفسر معنى الباطن
بقوله : " أنت الباطن فليس دونك شيء " ، أي فليس أقرب منك شيء ، فالله قريب
في علوه ، بمعنى أنه يعلم كل شيء مع علوه " .
فلما سمع هذا مني لم يحر الرجل جوابا ، [ طبعا أنا أسوق ما جرى بيني وبين
الرجل بالمعنى ، وإلا فهذه القصة قد مر عليها ما يقارب العشر سنين ] .
فقال لي : " أنا لا أعرف الرد عليك ، ولكن معنا شيخ في الحملة لو تأتي وتكلمه
" ،
فقلت له : " إنني مشغول والله ، وكانت الأيام أيام امتحانات " ،
ومع إصراره خفت أن يظن أنني أتهرب فذهبت معه إلى مقر سكنه ، وهناك التقيت
بالشيخ المذكور ، فبدأ الحديث وتكلم بكلام لا أذكره الآن ، وأظنه كان يعظ
القوم ، ولكنه أثناء كلامه أنكر سنة المسح على الخفين إلا في السفر ،
فقلت له : قد ثبتت السنة في البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، وأحاديث المسح
متواترة ،
فجاوز الكلام عن هذه المسألة وأقحمنا في مسألة الصفات ،
فقلت له : " الرحمن على العرش استوى " ،
فقال : " استوى بمعنى استولى " ،
فقلت له : " هذا خلاف الظاهر ، ولا يجوز تفسير الاستواء هنا بالاستيلاء ، لأن
الله قال : " ثم استوى على العرش " ، والعطف بـ " ثم " يقتضي التعقيب مع
التراخي ، فيكون معنى هذا أن الله لم يكن مستوليا على العرش ، ثم استولى عليه
" ،
فقال لي : " إذا قلت إنه مستو على العرش لزم منه التحيز والجهة " ،
وكنت يومها ما زلت مبتدأ ، وليست لي القوة العلمية الكافية ، ولا الدراية
بأساليب المناظرة ، ولكني ولله الحمد جاوبته بما لدي من أصول سنية سلفية ،
فقلت له : " أنا لا أدري ما تقول ، أنا أقول بما قال الله – عز وجل - ، ولا
أتدخل بعقلي في شيء من ذلك " ،
وهذه قاعدة نافعة جدا ، ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – في
كتابه كشف الشبهات ،
حيث يقول : " جواب أهل الباطل من طريقين : مجمل ومفصل ،
أما المجمل : فهو الأمر العظيم ، والفائدة الكبيرة لمن عقلها ، وذلك قوله
تعالى : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر
متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة
وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله " ،
وقد صح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : " إذا رأيتم الذين
يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله ، فاحذروهم " ،
مثال ذلك : إذا قال لك بعض المشركين : " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا
هم يحزنون " ، وأن الشفاعة حق ، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله ، أو ذكر
كلاما للنبي – صلى الله عليه وسلم – يستدل به على شيء من باطله ، وأنت لا
تفهم معنى الكلام الذي ذكره ،
فجاوبه بقولك : إن الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم
ويتبعون المتشابه ، وما ذكرته لك من أن الله تعالى ذكر أن المشركين يقرون
بالربوبية ، وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء ، مع قولهم
: " هؤلاء شفعاؤنا عند الله " ،
هذا أمر محكم بيّن لا يقدر أحد أن يغير معناه ، وما ذكرت لي أيها المشرك من
القرآن أو كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – لا أعرف معناه ،
ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض ، وأن كلام النبي – صلى الله عليه وسلم –
لا يخالف كلام الله .
وهذا كلام جيد سديد ، ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله ، فلا تستهن به ، فإنه
كما قال تعالى : " وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " .
" اهـ كلامه رحمه الله .
فهداني الله ساعتها إلى الجواب المجمل ، مع أني ما كنت ساعتها مطلعا على كلام
الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى - ،
فلما أتاني بكلام مجمل لا أعرف معناه ، رجعت إلى المحكم الذي معي ، وهو أن
الله تعالى لا يشبهه شيء ، وأنه تعالى لا يلحقه النقص من وجه من الوجوه ،
وأنه أعلم بنفسه من غيره ، وأنه يجب علينا أن نسلم للآيات والأحاديث الصحيحة
، فالله قد أثبت لنفسه العلو ، والاستواء في آيات كثيرة جدا ، ونفى عن نفسه
مشابهة خلقه ، فمن فهم من بعض الآيات ما يوهم التشبيه ، أو النقص فالخطأ منه
لا من الآيات ،
فأنا أثبت ما أثبتته الآيات ، وأتوقف فيما لا أعلم ،
فلما قال لي ذلك الشيخ : " إثبات العلو يلزم منه إثبات التحيز ، والجهة " ،
قلت له : أنا لا أعلم ما تقول ، ولكني أقول كما قال الله تعالى : " الرحمن
على العرش استوى " ، ونحو ذلك من الآيات التي تدل على الاستواء والعلو .
فلما رآني قد جاوبته بهذا الجواب استغل الموقف ، وجعل يستطرد في الكلام في
صفات الله – عز وجل – بكلام لا أذكره الآن ، وظهر أمام الناس أنه المنتصر ،
وأني قد انقطعت حجتي ، مع أني أعلم أنه يعارض القرآن الكريم برأيه ، لأنه فهم
من آيات العلو التشبيه ، فأولها ، ولو لم يفهم التشبيه ما أولها .
ثم دخل في مسائل كثيرة لا أذكرها ، حتى تكلم في مسألة الصفات هل هي عين الذات
أم غيرها ، فقال : " الحق أنها عين الذات " ، قال لي : " وما تقول فيها ؟ " ،
قلت : " الله أعلم " ،
قال : " الحق أن الصفات عين الذات " ،
ثم تكلم بكلام لم أفهمه ساعتها ، ولكني دريت فيما بعد أنه كان يقرر نفي
الصفات بناء على تلك القاعدة ، وأقطع أن العوام الذين كانوا في المجلس لم
يكونوا يفهمون أكثر كلامه ، لأنه ما كان يتكلم بالآيات والأحاديث ، إنما كان
يتكلم بكلام أكثره فلسفي ، ويظهر بذلك أنه منتصر ، وأنه العالم المحرر .
ثم خرجت من عنده وأنا مهزوم أمام الحاضرين – ولم يكونوا كثرا - ، ولكنهم
فرحوا بشيخهم ، ورأوني مهزوما ،
ولذلك نهى العلماء عن مثل هذه المناظرات ، ووضعوا لها شروطا خاصة ، منها : أن
يكون عالما بمذهبه ، عالما بمذهب الخصم ، واضح البيان ، وأن تكون المناظرة
عند إمام يلزم الطرفين بالقول الحق ، ويشهره ، وأن يكون هذا الإمام الحاكم
عالما باللغة ، مريدا للحق .
إلى غير ذلك من الشروط في المناظرة ، التي تطلب من مظانها .
فمن أخل بمثل هذه الشروط فإنه قد ينتج من فعله شر أكثر من الذي يريد من الخير
.
والله أعلم ،
ثم لما انفض ذلك المجلس أصاب قلبي ما لا يعلمه إلا الله من الحزن والغم ،
لأني شعرت أن القوم غير صادقين في طلب الحق ،
الله أعلم أكان ذلك حقا أم لا ، لكن شعوري بذلك سبب لي انقباضا وحزنا في صدري
.
ثم بحثت في بعض المسائل التي جرى النقاش فيها ،
ومنها مسألة : هل الصفات عين الذات أم غيرها ؟
فعلمت أن هذه المسألة أراد بها الإباضية أن ينفوا الصفات عن الله – عز وجل -
،
فقالوا : الصفات الواردة في الكتاب والسنة لا يراد بها أن ذات الله متصفة بها
،
ولكن المراد أنها عين الذات ، أي نفسها ،
فمعنى قولهم : الصفات عين الذات ، أي الصفات هي الذات ،
وعليه فقدرة الله – عز وجل – هي الله ، وسمع الله هو الله ، وعلمه هو نفسه ،
كل ذلك لا فرق بينه ،
ومرادهم بهذا نفي جميع الصفات عن الله – عز وجل - ،
قال أبو مسلم البهلاني في كتابه نثار الجوهر (1/62)
[ ناقلا عن الخليلي أبي محمد سعيد بن خلفان ، ومقرا له ] :
" والأصل الذي ذهب إليه أصحابنا في هذا أن صفاته تعالى هي عين ذاته الأزلية ،
ولا ينكشف هذا إلا بتجريد الذات المقدسة عن الصفات بالكلية " اهـ المراد منه
.
وهذا النص موجود في كتاب تمهيد قواعد الإيمان للخليلي نفسه في (1/195)
لكن سقط منه قوله : " هي عين ذاته الأزلية ،
ولا ينكشف هذا إلا بتجريد الذات المقدسة عن الصفات بالكلية " .
وفي تمهيد قواعد الإيمان (1/196) ما نصه :
" والحق الذي لا مرية فيه ما قاله أصحابنا من تجريد الصفات عن الذات المقدسة
مع اتصافها بها ،
فقالوا : إنه يعلم بذاته ، ويقدر بنفسه ، وكذا في يسمع ، ويبصر ، ويقدر ،
ويشاء ، ويريد ، وغير هذا ،
فهو عالم بذاته ، وقدير بها ، وهكذا ،
وهو معنى قولهم في صفاته : إنها عين ذاته ،
فليس مرادهم به إلا سلب الصفات عن ذاته الكريمة مع اتصافها بها ،
بمعنى : أنه ليس ثم من صفة زائدة على ذاته المقدسة أبدا " اهـ كلامه ،
وقد نقله بنصه مقرا له أبو مسلم البهلاني في نثار الجوهر (1/63) .
وهذا الكلام – كما يرى القارئ الكريم – خطير جدا ، إذا معناه :
أن الله – عز وجل – ليست له صفة أزلية مطلقا ،
لا صفة القدرة ، ولا السمع ، ولا البصر ، ولا العلم ... الخ ،
إنما صفاته – جل وعلا – كلها وهمية اعتبارية ،
وقد نص على هذا الخليلي نفسه [ وهو طبعا غير المفتي ]
في كتابه آنف الذكر في (1/197) حيث يقول :
" لكن قولك : عليم بذاته فيه مزيد إيضاح ، وكشف للحقيقة ،
ودفع للأغاليط الوهمية من العقيدة الأشعرية في قولهم :
إنه تعالى يعلم بعلم ، ويقدر بقدرة ، وإثباتهم له صفات قديمة قائمة بذاته
العظيمة ،
وبطلان هذا واضح بما سبق " . اهـ .
وأقول : بل كلامك هو الذي يتضح بطلانه بمجرد قراءته ،
فسبحان الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى ،
لا كما يقوله المبطلون الذين يزعمون أنه ليست له صفات إطلاقا .
وأنقل هنا كلاما نفيسا لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -
في بيان عقيدة السلفيين أهل السنة والجماعة في هذه المسألة
حيث يقول – رحمه الله – [ الفتاوى (6/96) ] :
" فإنا لا نطلق على صفاته أنها غيره ، ولا أنها ليست غيره ،
على ما عليه أئمة السلف كالإمام أحمد بن حنبل وغيره " .
وقال – رحمه الله – في الجواب الصحيح (5/16) :
" وقد تنازع المثبتة : هل يقال : الصفات عين الذات ؟ ، أم يقال : ليست عين
الذات ؟ ،
أم يقال : لا يقال هن غير الذات ولا يقال ليست غير الذات؟ ،
وتنازعوا في مسمى الغيرين : هل هما ما جاز مفارقة أحدهما الآخر مطلقا ؟ ،
أو ما جاز مفارقته بوجود أو زمان أو مكان ؟ ،
أو هما ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر ؟ ،
وغاية ذلك منازعات لفظية ، وكثير منهم فرق في الصفات اللازمة بين بعضها وبعض
،
فجعل بعضها زائدا على الذات ، وبعضها ليس بزائد على الذات ،
وكان الفرق بحسب ما يتصوره لا بحسب ما الأمر عليه في نفسه ،
فإذا أمكنهم تصور الذات بدون صفة قالوا : هذه زائدة ،
وإلا قالوا : ليست زائدة ،
وهذا يقتضي أنها زائدة على ما تصوروه هم من الذات
لا أنه في الخارج ذات مجردة عن تلك الصفة ، وصفة زائدة عليها ،
بل ليس إلا الذات المتصفة بتلك الصفات ،
ولكن يجب الفرق بين أن يقال : إن الصفات غير الذات ،
وبين أن يقال : إنها غير الله ، فإن اسم الله متناول لذاته المتصفة بصفاته ،
فإذا قال القائل : دعوت الله ، وعبدت الله ، فلم يدع ذاتا مجردة ، ولا صفات
مجردة ،
بل دعا الذات المتصفة بصفاتها ، فاسمه تعالى يتناول ذلك ،
فليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه ولا زائدة على ذلك ،
وإن قيل إنها زائدة على الذات المجردة ،
ومن ظن أنها زائدة على الذات المتصفة بصفاتها التي تدخل صفاتها في مسماها فقد
غلط ،
ولكن الأذهان والألسنة تزلق في هذا الموضع كثيرا ،
فإذا قيل : الصفات مغايرة للذات ، لم يكن في هذا من المحذور ما في قولنا :
إن صفات الله غير الله ، فإن اسم الله يتناول صفاته ،
فإذا قيل : إنها غيره فُهم من ذلك أنها مباينة له ، وهذا باطل ،
ولهذا كان النفاة إذا ناظروا أئمة المسلمين
كما ناظروا الإمام حمد بن حنبل في محنته المشهورة
فقالوا له : " ما تقول في القرآن وكلام الله ؟ أهو الله أم غير الله ؟ "
عارضهم بالعلم
وقال لهم : " ما تقولون في علم الله ؟ أهو الله أم غير الله ؟ " ،
أجاب أيضا : " أن الرسل لم تنطق بواحد من الأمرين ،
فلا حجة لهم في كلام الله ورسوله ، فإن الله لم يقل لكلامه هو أنا ولا قال
إنه غيري
حتى يقول القائل : إذا كان قد جعل كلامه غيره وسواه فقد أخبر أنه خالق لكل ما
سواه " ،
فإن كان الاحتجاج بالسمع فلا حجة فيه ،
وإن كان الاحتجاج بالعقل فالمرجع في ذلك إلى المعاني لا إلى العبارات ،
فإن أراد المريد بقوله : هل كلامه وعلمه غيره أنه مباين له فليس هو غيرا له
بهذا الاعتبار ،
وإن أراد بذلك أن نفس الكلام والعلم ليس هو العالم المتكلم فهو غير له بهذا
الاعتبار ،
وإذا كان اللفظ مجملا لم يجز إطلاقه على الوجه الذي يُفهِم المعنى الفاسد ،
وأما الذين جعلوا الأعيان القائمة بأنفسها صفات
فهم هؤلاء المتفلسفة النفاة للصفات ومن أشبههم " اهـ كلامه – رحمه الله - .
وأنت ترى أن أهل السنة سلكوا في هذا مسلكا سليما واضحا ،
فإن قول الإباضية ومن وافقهم : " صفات الله – عز وجل – عين ذاته "
قول لم يرد في الكتاب ولا السنة ،
فأهل السنة يسلكون في هذا مسلك السلامة ، فيقولون :
نثبت لله ما أثبته لنفسه ، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه ،
وما لم يرد في الكتاب والسنة نستفسر عن مراد قائله ،
فإن أراد حقا أثبتنا الحق ، وعبرنا عنه بالعبارة الشرعية ،
وإن أراد باطلا نفينا الباطل ،
وهذا قد سبق بيانه في هذه القصة في مسألة إثبات الحد لله – عز وجل –
ومسلك أهل السنة والجماعة في ذلك ، والله أعلم .