(( الموضوع ....... بحث في مسألة رؤية المؤمنين لربهم في الدار الآخرة
....... الجزء الأول ... )) ..
سأتناول في هذا البحث إنشاء الله مسألة عظيمة من أشرف مسائل أصول الدين
وأجلها .. وهي
الغاية التي شمر إليها المشمرون .. وتنافس فيها المتنافسون .. وحرمها الذين
هم عن ربهم محجوبون .. وعن بابه مطرودون .. ألا وهي .. رؤية الباري في جنات
النعيم ..
وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في
الدين وأهل الحديث وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة ..
وأنكرها وجحد بها الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الإمامية والخوارج
كالإباضية وغيرهم ..
والطريقة التي اتبعتها في كتابة هذا البحث .. أني قسمته إلى خمسة مباحث ..
وكل مبحث منها يشتمل على مجموعة من الأدلة والأقوال الواردة في هذه المسألة
.. كما أورد تحت كل دليل منها الشبه والاعتراضات والتأويلات الفاسدة التي
اشتبهت على أهل التعطيل والتأويل من المعتزلة والجهمية وأذنابهم الإباضية
والإمامية في فهمهم لتلك الأدلة .. وأردها رداً علمياً شافياً معتمداً في ذلك
على أقوال وآراء وتوجيهات أهل الفقه والعلم والصلاح من سلف الأمة الصالح ..
ونظراً لأن الإباضية اليوم هم أشد وأشرس من دافع وحمل ومازال يحمل لواء عقيدة
إنكار رؤية الباري جل وعلا في الآخرة ... فإني أهدي بحثي هذا للإباضية
الباحثون عن الحق والهداية والذين اختلط عليهم الحق من الصواب جراء ما فعلته
بهم عقول وأهواء وتأويلات مشائخهم وأئمتهم الضلال طوال القرون الماضية ..
والله تعالى الهادي لسواء السبيل ..
************************************
المبحث الأول : الأدلة من كتاب الله
الكريم في إثبات الرؤية ... ورد شبه المبطلين عليها ..
الدليل الأول :
قوله تعالى (( وجوه يومئذ ناضرة ... إلى ربها ناظرة )) القيامة 22-23 ..
هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى بالأبصار .. وهذا هو قول أهل السنة
والجماعة
بل تعد هذه الآية من أظهر الأدلة على ثبوت الرؤية ... فالآية واضحة وصريحة من
رب
العالمين ويفقهها كل مؤمن .. ولا تحتاج إلى تأويل المتأولين وإبطال المبطلين
..
وهذه جملة يسيرة من تفاسير وأقوال أهل العلم حول المعنى المراد من الآية
الكريمة ..
قال أبو صالح : عن ابن عباس رضي الله عنهما (( إلى ربها ناظرة )) قال : تنظر
إلى وجه ربها عز وجل ..
وقال السدي : وهو أحسن ما قيل لدلالة التنزيل والأخبار الواردة برؤية الله في
الجنة..
وقال عكرمة : (( وجوه يومئذ ناضرة )) قال : من النعيم ، (( إلى ربها ناظرة ))
قال : تنظر إلى ربها نظراً ، ثم حكى عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله .
وعن الحسن قال : نظرت إلى ربها فنضرت بنوره .
وعن عطية العوفي في قوله تعالى (( وجوه يومئذ ناضرة .. إلى ربها ناظرة )) قال
: هم ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته .. وبصره يحيط بهم ..
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره : (( وجوه يومئذ ناضرة )) من النضارة ..
أي : حسنة بهية مشرقة مسرورة ..
(( إلى ربها ناظرة )) أي : تراه عياناً ..
ويقول القرطبي في تفسيره : قوله تعالى : (( وجوه يومئذ ناضرة .. إلى ربها
ناظرة ))
الأول : من النضرة التي هي الحسن والنعمة..
والثاني : من النظر أي وجوه المؤمنين مشرقة حسنة ناعمة .. يقال : نضرهم الله
ينضرهم نضرة ونضارة وهو الإشراق والعيش والغنى .. ومنه الحديث ( نضر الله
امرأ سمع مقالتي فوعاها ) ..
" إلى ربها " إلى خالقها ومالكها " ناظرة " من النظر أي تنظر إلى ربها.. على
هذا جمهور العلماء..
ويقول أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتابه الإبانة : قال الله تعالى :
(( وجوه يومئذ ناضرة )) يعني مشرقة (( إلى ربها ناظرة )) يعني رائية ..
وجاء في تفسير الجلالين : (( إلى ربها ناظرة )) أي : يرون الله سبحانه وتعالى
في الآخرة ..
إلى غير ذلك من التفاسير الكثيرة التي اتفق أهل العلم على إثبات الرؤية من
خلالها في المعنى المراد من هذه الآية الكريمة ..
** أما الشبه والتأويلات الفاسدة التي جاءت على لسان منكروا الرؤية من أهل
الباطل والخذلان من المعتزلة والجهمية والإباضية والإمامية حول معنى الآية
الكريمة .. فجميعها باطلة ومردودة بالكتاب والسنة .. لأنها قائمة أساساً على
التحريف والتأويل ... ..... ... وفي ذلك يقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله
في شرح العقيدة الطحاوية ..
(( ... وأما من أبى إلا تحريفها بما يسميه تأويلاً .. فتأويل نصوص المعاد
والجنة والنار والحساب أسهل من تأويلها على أرباب التأويل .. ولا يشاء مبطل
أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول
هذه النصوص .. وهذا الذي أفسد الدنيا والدين .. وهكذا فعلت اليهود والنصارى
في نصوص التوراة والإنجيل .. وحذرنا الله أن نفعل مثلهم .. وأبى المبطلون إلا
سلوك سبيلهم .. وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية .. فهل قتل
عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد ! .. وكذا ما جرى في يوم الجمل ..
وصفين .. ومقتل الحسين رضي الله عنه .. والحرة .. وهل خرجت الخوارج ..
واعتزلت المعتزلة .. ورفضت الرافضة .. وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة
إلا بالتأويل الفاسد ؟! ... )) ..
والآن إليك أخي الكريم تلك الشبه والرد عليها بما يبين زيفها ومغالطة مدعيها
..
الشبهة الأولى :
أن الرؤية المقصودة في الآية عبارة عن كمال اليقين ..
الرد عليها : هذا قول باطل مخالف للأدلة .. ويكذبه الواقع .. لأن كمال اليقين
موجود في الدنيا أيضاً .. حيث قال النبي صلى صلى الله عليه وسلم في تفسير
الإحسان (( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )) ..
وعبادتك لله كأنك تراه .. هذا هو كمال اليقين .. فدعوى أن النصوص الواردة في
الرؤية تعني كمال اليقين لأن المتيقن يقيناً كاملاً كالذي يشاهد بالعين دعوى
باطلة وتحريف للنصوص .. وليس بتأويل .. بل هو تحريف باطل يجب رده على من قال
به ..
الشبهة الثانية :
قالوا : أن المعنى المراد بقوله تعالى (( إلى ربها ناظرة )) أي : منتظرة
لرحمة الله !
الرد عليها : هذا قول باطل وتأويل فاسد لا يستقيم مع المعنى الظاهر من الآية
.. فالنظر له عدة معان ... وليس محصوراً في معنى الانتظار ..
وإليك تلك المعاني ..
1-
إما أن يكون الله عز وجل عنى نظر التفكر والاعتبار كقوله تعالى (( أفلا
ينظرون إلى الإبل كيف خلقت )) ..
وهذا لا يجوز ... لأن الآخرة ليست بدار اعتبار ..
2-
أو يكون عنى نظر التعطف ... كقوله تعالى : (( ولا ينظر إليهم يوم القيامة ))
..
وهذا لا يجوز أيضاً ... لأن الخلق لا يجوز أن يتعطفوا على خالقهم ..
3-
أو يكون عنى نظر الانتظار ... كقوله تعالى (( ما ينظرون إلا صيحة واحدة )) ..
وهذا لا يجوز أيضاً ... للأمور الآتية :
أولاً :
أن النظر هنا ذكر مع الوجه ... وإذا ذكر النظر مع الوجه .. فمعناه نظر
العينين اللتين في الوجه... كما إذا ذكر أهل اللسان نظر القلب .. فقالوا :
انظر في هذا الأمر بقلبك .. لم يكن معناه نظر العينين .. ولذلك إذا ذكر النظر
مع الوجه لم يكن معناه نظر الانتظار الذي بالقلب ..
قال أبو منصور الأزهري في كتابه تهذيب اللغة : (( ومن قال : إن معنى قوله ((
إلى ربها ناظرة ))
بمعنى منتظرة فقد أخطأ ... لأن العرب لا تقول : نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرته
.. إنما تقول : نظرت فلاناً .. أي : انتظرته ... ومنه قول الحطيئة ..
وقد نظرتكم أبنــــــــاء صادرة ................................... للورد
طال بها جوزي وتنساسي
فإذا قلت : نظرت إليه .. لم يكن إلا بالعين .. وإذا قلت : نظرت في الأمر ..
احتمل أن يكون تفكراً وتدبراً بالقلب )) ..
ثانياً :
مما يبطل القول بأن المراد من معنى الآية الانتظار قوله تعالى (( وجوه يومئذ
ناضرة ))
أي : مشرقة وبهية وحسنة ... فمن أين لتلك الوجوه ذلك الاشراق والحسن والجمال
إن لم تكن ترى الله عز وجل ... ؟!!!
لقد نظرت تلك الوجوه إلى وجه ربها وخالقها فنضرت وتهللت وأشرقت بنور وجه الله
العظيم سبحانه وتعالى .. وازدادت جمالاً إلى جمالها ... أما تلك الوجوه
الأخرى فإنها محجوبة عن رؤية الله فمن أين لها النضارة والنور والجمال ؟؟
يقول الحسن رحمه الله : نظرت إلى ربها فنضرت بنوره ..
ثالثاً :
أن الفرق بين الانتظار والنظر لا خلاف فيه عند العقلاء .. فإن الانتظار تنغيص
.. والنظر إكرام من الله تعالى لعباده المؤمنين ..
رابعاً :
أن نظر الانتظار لا يكون مقروناً بقوله (( إلى )) لأنه لا يجوز عند العرب أن
يقولوا في نظر الانتظار إلى ... ألا ترى أن الله عز وجل لما قال (( ما ينظرون
إلا صيحة واحدة )) لم يقل
" إلى " إذ كان معناه الانتظار .
وقال عز وجل مخبرا عن بلقيس : (( فناظرة بم يرجع المرسلون )) فلما أرادت
الانتظار لم
تقل " إلى " .
وقال امرؤ القيس:
فإنكما إن تنظراني ساعــــــــــــة ................................. من
الدهر تنفعني لدى أم جندب
فلما أراد الانتظار لم يقل " إلى " فلما قال سبحانه (( إلى ربها ناظرة ))
علمنا أنه لم يرد الانتظار وإنما أراد نظر الرؤية .
أما ما يستشهدون به من شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه من كون النظر جاء معدى
بإلى ولم يفد حقيقة النظر ..
وجوه يـــــــــوم بدر ناظرات ................................... إلى
الرحمن يأتي بالفلاح
فيجاب عنه بالآتي :
أ-
يتحقق في المعنى المراد بهذا البيت معنيين كلاهما صحيح هما النظر والإنتظار
.. فتلك الوجوه كانت تتطلع إلى السماء لكأنها تنظر إلى الله ليأتي بالنصر
والفلاح . . . وهذه هي الفطرة التي فطر الله العباد عليها. . . أنهم ما أن
تحل بهم الأزمات والمصائب إلا رفعوا وجوههم وأيديهم نحو السماء لكأنهم ينظرون
إلى الله تعالى ويسألونه النجاة والفرج . . . إذاً فعلامة النظر هي تتطلع
الوجوه والأبصار إلى السماء لكأنها ترى الله سبحانه وتعالى من فوقها . . .
وعلامة الإنتظار هي الشوق إلى نزول الرحمة والفلاح . . . . . ولكن تلك الوجوه
والأبصار لا ترى الله سبحانه وتعالى على الحقيقة . . . لأن رؤيته سبحانه في
الدنيا منفية إذ لا طاقة للحادث الفاني أن يرى الأزلي الأبدي
أما في الآخرة فيتبدل ويتغير كل شيء بحيث يصبح الإنسان المؤمن مهيأ بقدرة
الله عز وجل لرؤية ولقاء ربه جل شأنه في جنات النعيم . . . وليس أدل على ذلك
من صريح الكتاب وصحيح السنة .
ب-
فإن أصررتم على قولكم بأن المعنى المراد به هو الانتظار ... قلنا لكم لا بأس
ولا حرج في ذلك
فإن النظر إذا عدي بإلى ولم تكن هناك قرينة تصرفه عن معناه كما هو ظاهر وبين
من قوله تعالى (( إلى ربها ناظرة )) أفاد المعنى المراد به من غير أدنى شك
... أما في البيت المذكور فهناك قرينة قوية تصرف المعنى عن ظاهره المراد (
الرؤية ) وهي : ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة من نفي
حصول الرؤية في الدنيا ... فيسقط بذلك استدلالكم بهذا البيت ..
ج-
أنتم مطالبون بإثبات صحة سند هذا البيت .. لأن الأمر متعلق بقضية إيمانية
عظيمة .. والسند
لا بد منه في قضايا الدين والعقيدة ... ونحن لا نترك كلام ربنا وسنة نبينا
لأشعار ضعيفة الحجة والسند ..
4-
أو يكون عنى نظر الرؤية .. كقوله تعالى (( انظروا إلى ثمره إذا أثمر )) ..
وهذا القسم هو الصحيح .. وبقية الأقسام الثلاثة المتقدمة فاسدة .. وعلى ذلك
يحمل النظر في الآية الكريمة على الرؤية لما يأتي :
- تعديه بإلى ..
- إسناده للوجوه ..
- انتفاء القرينة التي تصرفه عن معناه ..
الشبهة الثالثة :
قالوا : أن المراد من قوله تعالى (( إلى ربها ناظرة )) أي : إلى ثواب ربها
ناظرة !
الرد عليها : ثواب الله عز وجل غيره تعالى .. والله تعالى قال (( إلى ربها
ناظرة )) ولم يقل : إلى غيره ناظرة ..
والقرآن العزيز على ظاهره .. وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلا بحجة .. وإلا
فهو على ظاهره ..
ألا ترى أن الله عز وجل لما قال : صلوا لي واعبدوني .. لم يجز أن يقول قائل :
إنه أراد غيره ويزيل الكلام عن ظاهره .. فلذلك لما قال (( إلى ربها ناظرة ))
لم يجز لنا أن نزيل القرآن عن ظاهره بغير حجة ..
ثم يقال لهم : إن جاز لكم أن تزعموا أن قول الله تعالى (( إلى ربها ناظرة ))
إنما أراد به أنها إلى غيره ناظرة .. فلم لا جاز لغيركم أن يقول : إن قول
الله سبحانه وتعالى (( لا تدركه الأبصار )) أراد بها لا تدرك غيره .. ولم يرد
أنها لا تدركه ؟
وهذا مما لا يقدرون على الفرق فيه .
الشبهة الرابعة :
قالوا : إن الآية أسندت النظر للوجوه .. فهل تكون الرؤية بالوجه ؟! إن هذا لم
يثبت في كلام العرب على الإطلاق .. إنما تكون الرؤية بالعين ..!
الرد عليها :
أولاً :
هذه مغالطة مضحكة لسخافتها .. وتضليل لمن قل نصيبه من العلم .. !
لأن أحداً مهما بلغ من الغباوة لا يفهم هذا الفهم .. وإنما يفهم كل أحد أن
الوجوه تنظر بأعينها ..
فإذا قال القائل : رأيت المسجد الحرام .. فلا يفهم السامع من العرب والعجم
إلا أنه رآه بعيني رأسه التي يعتبر الوجه محلاً لها ..
ثانياً :
يقول الحق تبارك وتعالى (( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها
)) فلماذا قال سبحانه (( وجهك )) ولم يقل " بصرك " أو (( عينيك )) ؟؟
الجواب : لأن تقليب الوجه مستلزم لتقليب البصر ... فكذلك في هذه الآية التي
معنا هنا حيث أن نظر الوجه مستلزم لنظر العين .. وخير ما يفسر القرآن هو
القرآن حسب ما تقولون .. !
الشبهة الخامسة :
قالوا : إن هذا التأويل هو الذي يتفق مع ما في خاتمة عبس .. وهو قوله تعالى
(( وجوه يومئذ مسفرة . ضاحكة مستبشرة . ووجوه يومئذ عليها غبرة . ترهقها قترة
)) وأنه لا فرق بين ما وصفت به وجوه المؤمنين هنا من الاستبشار .. وما وصفت
به في آية القيامة بمعنى الانتظار .. !
الرد عليها :
أولاً :
أن المناسبة بين قوله تعالى (( وجوه يومئذ ناضرة .. إلى ربها ناظرة )) وبين
الآية التي بعدها (( ووجوه يومئذ باسرة )) أنه سبحانه لما ذكر ما يكرم به
أولياؤه من نضرة الوجوه وحسنها وما تنعم به زيادة على ذلك من النظر إلى وجهه
الكريم .. ذكر حالة أعدائه وما يلقونه من العذاب الأليم الذي يظهر أثره على
وجوههم .. وأعظم ذلك حرمانهم من رؤية ربهم عز وجل كما قال تعالى
(( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون )) ..
وكثيراً ما يقارن الله سبحانه في كتابه بين حال أهل السعادة وحال أهل الشقاوة
في الآخرة ليذكرعباده حتى يأخذوا بأسباب السعادة ويتركوا أسباب الشقاوة ..
ثانياً :
أن آية عبس (( وجوه يومئذ مسفرة )) ليست مفسرة لقوله تعالى (( إلى ربها ناظرة
))
لأن النظر غير الإسفار .. فالنظر يكون بالعين .. والإسفار لون يظهر على الوجه
وربما يكون نتيجة للنظر إلى الشيء السار المفرح أو للخبر السار أو غير ذلك ..
فالمؤمنون يجمع الله لهم بين نضرة الوجوه وإسفارها ونظر العيون إلى وجهه
الكريمة ..
الشبهة السادسة :
أن ابن جرير الطبري أورد روايات بأسانيد صحيحة عن الحسن وعكرمة ومجاهد جاء
فيها تفسير النظر في الآية بالانتظار ..
الرد عليها ..
أولاً :
ابن جرير الطبري رحمه الله أورد في تفسيره أيضاً وبأسانيد صحيحة روايات أخرى
عن الحسن وعكرمة ومجاهد فسروا فيها النظر بالرؤية .. وذلك حسب ما تقتضيه
الأمانة العلمية ..
ثانياً :
ابن جرير رحمه الله بعد أن أورد تلك الروايات المختلفة عن هؤلاء الأئمة ..
اختار الصواب من القولين لموافقته للدليل ... حيث قال ..
الأولى عندي بالصواب : ما ذكرناه عن الحسن البصري وعكرمة وهو ثبوت الرؤية
لموافقته الأحاديث الصحيحة ..
ورواية مجاهد عن ابن عمر التي أوردها ابن جرير باسناده هي ..
عن ابن عمر قال : إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه وسرره وخدمه
مسيرة ألف سنة
يرى أقصاه كما يرى أدناه .. وإن أرفع أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى وجه الله
غدوة وعشية ..
ثالثاً : لو سلمنا لكم بصحة رواية مجاهد التي فسر فيها النظر بالانتظار ..
فهو قول مردود لمخالفته صريح القرآن وصحيح السنة المتواترة في إثبات رؤية
المؤمنين لربهم يوم القيامة ..
رابعاً :
اعتراض الكثير من أهل العلم والتفسير على مجاهد رحمه الله في تفسيره النظر
بالانتظار
حيث قال القرطبي رداً على تأويل مجاهد النظر بالانتظار ..
وهذا القول ضعيف جدا.. خارج عن مقتضى ظاهر الآية والأخبار ..
وقال الثعلبي : وقول مجاهد إنها بمعنى تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من
خلقه .. فتأويل مدخول .. لأن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا نظرته ..
كما قال تعالى : "هل ينظرون إلا الساعة" .. "هل ينظرون إلا تأويله" .. "ما
ينظرون إلا صيحة واحدة" .. وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا : نظرت فيه ..
فأما إذا كان النظر مقرونا بذكر إلى وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية
والعيان ..
وقال الأزهري : إن قول مجاهد تنتظر ثواب ربها خطأ .. لأنه لا يقال نظر إلى
كذا بمعنى الانتظار وإن قول القائل : نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين .. كذلك
تقوله العرب ..
لأنهم يقولون نظرت إليه : إذا أرادوا نظر العين ..
فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته .. قال :
فإنكما إن تنظراني ساعة من .................. الدهر تنفعني لدى أم جندب
لما أراد الانتظار قال تنظراني .. ولم يقل تنظران إلي ..
وإذا أرادوا نظر العين قالوا : نظرت إليه .. قال :
نظرت إليها والنجوم كأنها ....................... مصابيح رهبان تشب لقفال
وقال آخر:
نظرت إليها بالمحصب من منى ..................... ولي نظر لولا التحرج عارم
وقال آخر:
إني إليك لما وعدت لناظر ............................ نظر الفقير إلى الغني
الموسر
أي : إني أنظر إليك بذل .. لأن نظر الذل والخضوع أرق لقلب المسؤول ..
الدليل الثاني :
قوله تعالى (( على الآرائك ينظرون )) .. المطففين 23 ..
وجه الاستشهاد من الآية : ... قوله (( ينظرون )) ... حيث لم يذكر المنظور
إليه .. فيكون عاماً لكل ما يتنعمون بالنظر إليه ..
وأعظمه وأنعمه النظر إلى الله تعالى .... لقوله تعالى (( تعرف في وجوههم نظرة
النعيم )) .. فسياق الآية يشبه قوله
(( وجوه يومئذ ناضرة ... إلى ربها ناظرة )) ... فهم ينظرون إلى كل ما يتنعمون
بالنظر إليه ..
إذاً ... فقوله تعالى (( ينظرون )) ... عامة .. ينظرون إلى الله عز وجل ...
وينظرون ما لهم من النعيم ... وينظرون ما يحصل لأهل النار من العذاب ..
أما الشبهة التي وردت على هذا الدليل من أهل التعطيل ... فهي قولهم ..
أن هذا استدلال بما لا يدل فيه .. فإن غاية ما في الآية وصفهم بالنظر إلى غير
ذكر للمنظور إليه
وأن المراد بالنظر هنا هو : التمتع بالنظر إلى أصناف النعم ..
الرد عليها ..
هذه الآية كما ذكرنا عامة لكل ما يتنعمون بالنظر إليه .. والنظر إلى وجه الله
تعالى من جملتها
بل هو أعظم النظر وأنعمه ..
الدليل الثالث :
قوله تعالى (( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون )) المطففين 15 ..
ومما جاء في تفسير هذه الآية الكريمة على لسان أهل العلم والتفسير ..
قال الربيع بن سليمان : حضرت محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد
فيها : ما تقول في قول الله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) ؟
قال الشافعي : " فلما أن حجبوا هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أنهم
يرونه في الرضا .." قال الربيع : قلت يا أبا عبد الله ، وبه تقول ؟ قال : "
نعم ، وبه أدين الله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى الله لما عبد الله
تعالى " ..
وذكر المزني عن ابن وهب قال : سمعت الشافعي يقول في قوله تعالى : ( كلا إنهم
عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) دليل على أن أولياء الله يرونه في الآخرة " ..
قال أبو حفص : سمعت مالك بن أنس قيل له : يا أبا عبد الله قول الله تعالى : (
وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) قوم يقولون : إلى ثوابه .. قال مالك :
كذبوا .. فأين هم عن قول الله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) ؟
..
قال الزجاج : في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى في القيامة ولولا ذلك
لما كان في هذه الآية فائدة ولا خست منزلة الكفار بأنهم يحجبون وقال جل ثناؤه
: ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) فأعلم الله جل ثناؤه أن المؤمنين
ينظرون إليه وأعلم أن الكفار محجوبون عنه ..
قال مقاتل : يعنى أنهم بعد العرض والحساب لا ينظرون إليه نظر المؤمنين إلى
ربهم ..
قال الحسين بن الفضل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن
رؤيته ..
عن الحسن في قوله تعالى ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) قال : يكشف
الحجاب فينظر إليه المؤمنون والكافرون ثم يحجب عنه الكافرون وينظر إليه
المؤمنون كل يوم غدوة وعشية ..
قال أبو الحسن الأشعري في قوله تعالى ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) :
فحجبهم عن رؤيته .. ولا يحجب عنها المؤمنين ..
وجاء في تفسير ابن كثير قوله ..
قوله تعالى ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) أي لهم يوم القيامة منزل
ونزل سجين ثم هم يوم القيامة مع ذلك محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم ..
وجاء في تفسير البيضاوي قوله ..
( كلا ) ردع عن الكسب الرائن ( إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) فلا يرونه
بخلاف المؤمنين ..
وجاء في تفسير الجلالين ..
(( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون )) .. ( كلا ) حقاً ( إنهم عن ربهم
يومئذ ) يوم القيامة
( لمحجوبون فلا يرونه..
أما الشبه التي اعترض بها جاحدوا
الرؤية على هذا الدليل ... فهي قولهم ..
الشبهة الأولى :
أن كشف الحجاب يجوز أن يكون كناية عن مزيد الإكرام ..
الرد عليها ...
هذا التأويل الخاطىء مدحوض ومردود بالآتي ..
أولاً :
أن هذا التفسير الذي قلناه وقررناه يوضحه ويؤيده ويعضده ما ورد عن سيد
المرسلين وأعلم الخلق بالله أجمعين .. رسول رب العالمين محمد صلى الله عليه
وسلم ...
حيث روى مسلم في صحيحه بإسناده عن صهيب رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه
وسلم قال ( إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا
أزيدكم فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال:
فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظرإلى ربهم عز وجل ) ..
ثانياً:
أن هذا التفسير قال به كثير من أهل العلم والتفسير .. وقد تقدم ذكر عدد من
تلك التفاسير الواردة عنهم ......منها ما أخرجه ابن جرير بإسناده عن الحسن في
تفسير الآية قال : يكشف الحجاب .. فينظر إليه المؤمنون والكافرون .. ثم يحجب
عنه الكفار .. وينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية ..
وقال الإمام الشافعي : هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل ......
وهذا الذي قاله الشافعي رحمه الله في غاية الحسن .. وهو استدلال بمفهوم هذه
الآية كما دل عليه منطوق آية القيامة وكما دلت الأحاديث المتواترة ..
الشبهة الثانية :
أن هذا استدلال بمفهوم المخالفة .. وهو حجة ظنية اختلف العلماء في الأخذ بها
في الأمور العملية الفرعية فكيف بالقضايا الاعتقادية الأصلية ..
الرد عليها ..
أولاً :
أن مفهوم هذه الآية الكريمة دل عليه منطوق آية القيامة (( إلى ربها ناظرة ))
..
ثانياً :
أن استدلالنا بمفهوم هذه الآية .. هو استدلال قوي جداً .. لأنه لو كان الكل
محجوبين عن الله .. لم يكن هناك مزية لذكر هؤلاء ..
ثالثاً :
هذه الشبهة ساقطة وضعيفة جداً في دلالتها ... لأن هذا الاستدلال الذي استدل
به أهل السنة على تفسير هذه الآية مأخوذ قبل كل شيء من تفسير رسول الله صلى
الله عليه وسلم .. والذي جاء موافقاً ومنسجماً مع مفهوم هذه الآية .. وخير من
يفسر كلام الله عز وجل هو رسول الله عليه الصلاة والسلام ..
رابعاً :
أهل السنة المثبتين للرؤية ليس دليلهم على إثبات الرؤية هو مفهوم الآية الذي
دل عليه منطوق آية القيامة فقط ... وإنما دلت عليها آيات أخرى .. وأحاديث
كثيرة بلغت حد التواتر كما سيأتي ذكرها لاحقاً إنشاء الله ..
الشبهة الثالثة :
قالوا : أن هذه الآية تتعارض مع مفهوم حديث صهيب .. فأنتم مضطربون في الرؤية
.. مرة تقولون بحصولها في عرصات القيامة ومرة في الجنة .. ومرة تقولون أن
الكفار يرونه ومرة تقولون أنهم لا يرونه ويحجبون عنه ... وهذا دليل على سقوط
حجتكم في إثبات الرؤية ..
الرد عليها ..
أولاً :
علماء السلف لا يضربون النصوص بعضها ببعض .. وإنما يجمعون بينها إذا وجدوا
تعارضاً في الظاهر .. ولكن بحمد الله لم يوجد تعارض بين هذه النصوص .. بل هي
موافقة ومفسرة لبعضها البعض ..
ثانياً :
رؤية الله عز وجل بالأبصار تكون في عرصات القيامة .. وفي روضات الجنان
الفاخرة
وذلك إن دل على شيء .. فإنه يدل على فضل الله العظيم سبحانه .. فهو سبحانه
يمن على عباده المؤمنين برؤيته في عرصات القيامة .. ويمن عليهم برؤيته في
جنات النعيم .. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ..
ثالثاً :
رؤية المؤمنين ربهم وهم في جنات النعيم .. هذه المسألة لا خلاف فيها ولا
اضطراب ولا أقوال متعددة .. بل المؤمنون جميعاً على قول واحد فيها .. وهو
إثباتها كما وردت بها النصوص من الكتاب والسنة ... وأما الخلاف الحادث فهو في
( رؤية الكفار ربهم ) .. ولم يحدث ذلك إلا بعد ثلاثمائة سنة من الهجرة ..
وهذا الخلاف الحاصل عبارة عن أقوال في المسألة وليست اضطراباً
وكما يذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الأمر في ذلك خفيف .. وإنما المهم الذي
يجب على المسلم اعتقاده أن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة .. وفي عرصة
القيامة .. وبعدما يدخلون الجنة على ما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله
عليه وسلم عند العلماء بالحديث ..