اطبع هذه الصفحة


جبر الخواطر ومراعاة المشاعر

عبدالهادي صالح محسن


بسم الله الرحمن الرحيم
 

 

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن من أكرم الخصال، وأرقى الفعال، جبر الخواطر ومراعاة المشاعر، ومواساة المنكسر والحائر، فالإسلام علَّمنا أن نكون عونًا لبعضنا، ننصر المظلوم، ونواسي المكلوم، ونعطي المحروم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وشَبَّكَ أصَابِعَهُ)؛ رواه البخاري في صحيحه.

 

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو، تَدَاعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى)؛ رواه البخاري ومسلم.

 

الإنسان في هذه الحياة يتعرض لظروف شديدة، فكم من حزين بحاجة إلى من يجبر خاطره بكلمة حانية، تضمد جراحات قلبه، وكم من مظلوم بأمس الحاجة إلى يقف معه في مظلمته، ويخفف عنه ألَمَ الظلم والقهر الذي يقطع قلبه، وكم مِن مُبتلى يتمنى أن يجد أخًا صادقًا يصبِّره في بلائه، ويقوِّيه ويشد أزره، ويذكره بجزاء الله العظيم له في بلائه إن صبر واحتسب الأجر، وكم من مهموم قد أثقلته الهموم ينتظر صديقًا، يفتح له باب الأمل، ويبشِّره بقرب الفرج، وكم مريض قد هدَّه المرض ينتظر زائرًا يواسيه ويخفِّف عنه آلامه، ومن فرَّج عن أخيه كربة فرج الله عنه يوم القيامة، فالجزاء من جنس العمل.

 

روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالالمسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كربةً، فرج الله عنه كربةً مِن كربات يوم القيامة، ومَن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة).

 

من أمثلة جبر الخواطر:

أن تشكر من قدَّم لك خدمة ولو كانت واجبة عليه، كأن يشكر الزوج زوجته وتشكر الزوجة زوجها، ويشكر الوالدين أبناءهم، وأن تثني على من بذل جهدًا ولو لم يستطع إتقانه، وتمدح ما قام به من جهد، ولا سيما إذا كنت مسؤولًا عنه كالمدير حين يشكر موظفيه، أو المسؤول حين يثني على المجتهدين من عماله، فإن هذا الثناء سيرفع هِمَّتهم ويُطيب نفوسهم، والهدية ولو لم تكن شيئًا ثمينًا، ففيها جبر للخواطر وتطييبٌ للنفوس، فهي من أسباب زرع المحبة بين الناس، ففي الحديث عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ( تَهادَوا تحابُّوا)؛ أخرجه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي، وصححه الألباني.

 

ومن جبر الخواطر حين تتقصد الشراء من البائع البسيط الذي يكد في طلب لقمة العيش الحلال، ولا تبخسه بضاعته، بل ربما تعطيه أكثر من قيمة بضاعته.

 

وقبول اعتذار المخطئ من جبر الخواطر، فحين يأتيك أخوك متأسفًا على ما بدر منه يرجو عفوك وصفحك، ينبغي عليك ألا تخيب ظنَّه فيك، فاعفُ واصفح واجبُر خاطره، والله يجبر خاطرك ويرفع قدرك؛ لأنك رفعت قدر أخيك.

 

وحين تحزَن مع أخيك الحزين، وتعزِّيه وتواسيه، وتفرح معه إذا كان مسرورًا وتبارك له وتظهر له السرور والبهجة، فإن هذه مواقف راقية مؤثرة تجبر الخواطر، وتراعي المشاعر.

 

وفي ديننا الحنيف أمثلة رائعة لجبر الخواطر، ومراعاة المشاعر، ففي قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [يوسف: 15]، جبر لخاطر نبي الله يوسف عليه السلام، وتثبيت له في هذا الموقف، الذي ظلم فيه من أقرب الناس إليه بغير ذنبٍ اقترفه.

 

قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى ذاكرًا لطفه ورحمته وعائدته، وإنزاله اليسر في حال العسر: إنه أوحى إلى يوسف في ذلك الحال الضيق، تطييبًا لقلبه، وتثبيتًا له: إنك لا تحزن مما أنت فيه، فإن لك من ذلك فرجًا ومخرجًا حسنًا، وسينصرك الله عليهم، ويعليك ويرفع درجتك، وستخبرهم بما فعلوا معك من هذا الصنيع.

 

وقال السعدي رحمه الله: ففيه بشارة له، بأنه سينجو مما وقع فيه، وأن الله سيجمعه بأهله وإخوته على وجه العز والتمكين له في الأرض.

 

وأمر الله تعالى بجبر خواطر أولي القربى واليتامى والمساكين إذا حضروا قسمة الميراث، بأن يُعطَوا شيئًا منه ويتلطف معهم في الكلام، فقال تعالى: ﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء: 8].

 

قال السعدي رحمه الله: (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ)؛ أي: أعطوهم ما تيسَّر من هذا المال الذي جاءكم بغير كد ولا تعب، ولا عناء، ولا نَصَب، فإن نفوسهم متشوِّفة إليه، وقلوبهم متطلعة، فاجبروا خواطرهم بما لا يضركم، وهو نافعه، ويؤخذ من المعنى أن كل من له تطلُّع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان، ينبغي له أن يعطيه منه ما تيسَّر؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه، فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين"؛ أو كما قال..

 

فإن لم يمكن ذلك - لكونه حق سفهاء، أو ثَمَّ أهم من ذلك - فليقولوا لهم: "قَوْلًا مَعْرُوفًا"، يردونهم ردًّا جميلًا، بقول حسن، غير فاحش، ولا قبيح؛ ا.هـ.

 

وإذا تأملنا في قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴾ [الضحى: 9، 10]، وجدنا أرقى صور جبر الخواطر، فلا تقهر أحدًا، ولا سيما من هذا حاله، كاليتيم والسائل.

 

قال ابن قدامه رحمه الله: "وكان من توجيهات ربنا - سبحانه وتعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فكما كنت يتيمًا يا محمد - صلى الله عليه وسلم - فآواك الله، فلا تقهر اليتيم، ولا تذله، بل طيِّب خاطره، وأحسِن إليه، وتلطَّف به، واصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك، فنهى الله عن نهر السائل وتقريعه، بل أمر بالتلطف معه، وتطييب خاطره، حتى لا يذوق ذل النهر مع ذل السؤال؛ ا.هـ.

 

وقد عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم لما عبس في وجه الأعمى، رغم أن ذلك الفعل كان حرصًا من النبي صلى الله عليه وسلم على نشر الدين بصورة أكبر؛ حيث كان يخاطب زعماء قريش وهو يعلم أن بإسلامهم سيُسلم الكثير من الناس، لكن للأعمى حق في أن يجبر خاطره ويلتفت إليه، ويجاب عن سؤاله، قال سبحانه: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [عبس: 1 - 7].

 فتخيل معي كيف كان نزول هذه الآيات مؤثرًا في قلب ذلك الرجل الأعمى الذي عاتب الله نبيه من أجله بآيات تتلى إلى يوم الدين.

 

جبر الخواطر أحيانًا لا يحتاج منك إلى أن تبذل مالًا، أو جهدًا كبيرًا، ولكن ذلك الموقف عادة لا يُنسى، فهذه امرأة من الأنصار دخلت على عائشة رضي الله عنهما في حادثة الإفك وبكت معها؛ رواه الشيخان.

 

فلم تنسَ عائشة رضي الله عنها ما فعلته لأجلها تلك الأنصارية، مع أنها لم تذكر إلا أنها جلست تبكي معها.

 

وكذلك موقف طلحة بن عبيدالله مع كعب بن مالك رضي الله عنهما حين هروَل طلحة لاستقباله في المسجد حين تاب الله عليه، فقال كعب: "والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة!"

 

وكما أن جبر الخواطر له أثرٌ طيب في النفوس، فإن كسر الخواطر قد يحدث أثرًا سيئًا في نفس الإنسان، فرُبَّ كلمة قيلت من شخص كانت سببًا في تدمير سعادة آخرين، فالكلمة قد تجبر وقد تجرح، الكلمة تصل إلى القلب ويحللها العقل، وربما يستمر التأثير حتى يصل إلى جميع الجوارح، فكم من مبدع قتلت إبداعه كلمات المثبِّطين، وكم من مريض تحطمت معنوياته بسبب عبارات بعض الزائرين، وكم من مجتهد في عمله أصبح متكاسلًا بسبب كسر خاطره وعدم تقدير جهده من المسؤولين، ولكن ينبغي على المسلم أن يحرص على ألا تفتَّ عزمه إساءة الآخرين، أو تجاهل الغافلين، وأن يمضي قُدمًا في همة عالية، كعلو الجبال الراسية، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.


 

 
  • رسائل دعوية
  • معا على طريق الجنة
  • الصفحة الرئيسية