كان العرب في الجاهلية يعدون المرأة ذروة شرفهم وعنوان عرضهم ، ولذلك فقد
تفننوا في حمايتها والحفاظ عليها ، والدفاع عنها ، زوجة وأما ، ابنة وأختا ،
قريبة وجارة ، حتى يظل شرفهم سليما من الدنس ، ويبقى عرضهم بعيدا من أن يحس .
ولم يكن شئ يثير القوم كالاعتداء على نسائهم أو المساس بهن ، ولذلك فقد كانوا
يقتحمون في الدفاع عنهن كل صعب ولا يضنون بأي غال ، لقد كانت الغيرة تولد مع
القوم وكأنهم أرضعوها فعلا مع لبان الامهات .
وفي بيئة ومجتمع العرب الذي قام على الاباء والاعتزاز بالشرف كان لابد للرجال
والنساء من العفة والتعفف لأن العدوان على الاعراض يجل الويلات والحروب ،
وكان لابد من الغيرة على العرض حتى لا يخدش ، والعفة شرط من شروط السيادة
عندهم ، فهي كالشجاعة والكرم .
ولقد جاوزت بهم جاهليتهم الحد في ذلك حتى كانوا يئدون بناتهم مخافة لحوق
العار بهم من أجلهن . وأول قبيلة وأدت من العرب ( ربيعة ) نهبت بنتا لأمير
لهم فاستردها بعد الصلح ، فخيرت رضا منها بين أبيها ومن هي عنده ، فاختارت من
هي عنده ، فغضب والدها وسن لقومه الوأد ففعلوه غيرة منهم ، وشاع الوأد في
العرب بعد ذلك ، حتى جاء الاسلام فمنع ذلك الظلم ، ( وإذا الموؤدة سئلت ، بأي
ذنب قتلت ) وكان العربي يتمعر وجهه إذا بشر بالأنثى كما قال الله ( واذا بشر
أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ...)
ومن نخوة العرب وغيرتهم انهم كانوا يكنون عن حرائر النساء بالبيض وقد جاء
القران الكريم بذلك فقال ( كأنهن بيض مكنون ) وقال امرؤ القيس : ( وبيضة خدر
لا يرام خباؤها ) ، ويكنون عنها بالنخلة حتى قال شاعرهم :
ألا يانخلة في ذات عرق .....عليك ورحمة الله
السلام
ومن نخوة العرب وغيرتهم أنه كان من عادتهم إذا وردوا الماء أن
يتقدم الرجال والرعاء ثم النساء إذا ذهبت كل الفرق المتقدمة ، حيث يغسلن
أنفسهن وثيابهن ويتطهرن آمنات ممن يزعجهن ، فمن تأخر من الرجال عند الماء حتى
يأتي النساء فهو الغاية في الذل والمهانة وبها يعير بينهم .
وكان من مظاهر الغيرة عند العرب حبهم لعفة النساء وحيائهن وتسترهن ووفائهن
ووقارهن .
حتى أشاد الشعراء بعفة النساء وتمنعهن ووفائهن ، قال علقمة بن عبدة :
منعمة مايستطاع كلامها ...على بابها من أن
تزار رقيبُ
إذا غاب فيها البعل لم تفش سره ....وترضي إياب البعل حين يئوب
ومن أجمل ماقيل في حفظ النساء وعفتهن قول الشنفرى الأزدي في
غزله – وهو من الصعاليك الفتاك - :
لقد أعجبتني لا سقوطا قناعها ...اذا مامشت
ولا بذا تلفتِ
أميمة لا يخزي فتاها حليلها ...اذا ذكر النسوان عفت وجلتِ
اذا هو امسى آب قرة عينه ...فبات السعيد لم يسل أين ظلتِ
وكان من مظاهر الغيرة عنهم ستر النساء ومنعهن من الظهور أمام
الرجال ، يقول الأفوه الأودي :
نقاتل أقواما فنسبي نساءهم ...ولم ير ذو عز لنسوتنا حجلا .
على أنهم كانوا يفخرون بغض البصر عن الجارات ويعتبرون ذلك من العفة والغيرة
على الأعراض .
فكان كشف الستر بجارح النظرات ، وهتك الأعراض بخائنة الأعين ، وفضح الأسرار
باستراق السمع لا يترفع عنه إلا كل عفيف وما أجمل قول عروة بن الورد :
وإن جارتي ألوت رياح ببيتها .... تثاقلت حتى يستر البيت جانبه
وقول عنترة :
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري
جارتي مأواها
عبدا الله ، فأين من هؤلاء بعض الشباب اليوم الذين يتسكعون في
الاسواق أو يتلصصون حول الحرمات ، وبعض وسائل الاعلام يعرض المسلسلات الماجنة
التي تدرب الشباب على التحلل والعدوان ؟!!
وقد كانت عند العرب أخلاق كريمة ، بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتممها
ويقوّم ما انحرف منها ويسمو بها وبأمثالها .
ولقد حَمد الإسلام الغيرة وشجّع المسلمين عليها ، ذلك أنها إذا تمكنت في
النفوس كان المجتمع كالطود الشامخ حمية ودفاعا عن الأعراض ، وقد قيل : كل أمة
وضعت الغيرة في رجالها ، وضعت الصيانة في نسائها ، وقال ابن القيم رحمه الله
: إذا ترحلت الغيرة من القلب فقد ترحل الدين كله .
والمؤمن الحق غيور بلا تعد ولا ظلم للنساء ، يغار على محارم الله أن تنتهك ،
وفي الحديث الذي رواه البخاري أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال كلاماً بين
يدي رسول الله دل على غيرته الشديدة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (
اتعجبون من غيرة سعد ؟ لأنا أغير منه ، والله أغير مني ) .
هذه هي غيرة الإسلام على المحارم والأعراض المنبثقة من غيرة رب العباد ،
والمتمثلة في خاتم المرسلين ، وهي ليست بخافية على أحدٍ من الناس ، قال الله
تعالى : ( قل إنما حرّم ربي الفواحش ماظهر منها وما بطن ) الآية 33 / الأعراف
ويقول صلى الله عليه وسلم : ( ولا أحد أغير من الله ولذلك حرّم الفواحش ماظهر
منها ومابطن ) متفق عليه .
ومن أجل أن يكون المجتمع نظيفا أمر الإسلام بعدد من الأوامر والنواهي ، ليحفظ
هذا المجتمع طاهرا نقيا ، وتصبح مظاهر الغيرة فيه جلية واضحة ومن ذلك مايلي :
أولا : فرض الله على المسلمات ستر مفاتنهن وعدم
إبداء زينتهن ، يقول تعالى : ( ولا يبدين زينتهن إلا ماظهر منها وليضربن
بخمرهن على جيوبهن ) إلى قوله ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم مايخفين من زينتهن )
وقال : ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى )
ثانيا : حرم الإسلام كذلك الدخول على النساء
لغير محارمهن كما حرم الخلوة بهن ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والدخول
على النساء ، فقال رجل من الأنصار ، يارسول الله ، أفرأيت الحمو ؟ قال الحمو
الموت ) والحمو أخو الزوج وما أشبهه من الأقارب .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم / فقام رجل
فقال : يارسول الله ، امرأتي خرجت حاجة ، واكتتبت في غزوة كذا وكذا ، قال :
ارجع فحج مع امرأتك ) رواه البخاري .
تطهيرا لهذا المجتمع الفاضل ، فلا خلوة ولا ريبة ، حتى الجهاد يؤمر الرجل
بتأجيله من أجل أن يحج مع امرأته .
ثالثا : أوصى بالحياء فقال : ( الحياء من
الإيمان والإيمان في الجنة ) وقال ( الحياء كله خير ) وقال الله : ( فجاءت
إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ماسقيت لنا )
رابعا : الأمر بغض البصر ، قال تعالى ( قل
للؤمنين يغضوا ....)
خامسا : أمر المرأة بخفض الصوت وغضه حتى لا
يفتن به ضعيف الإيمان ( ولا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض )
سادسا : حرص المجتمع على محاصرة أصحاب الشهوات
، ناشري الفساد في المجتمعات فقال تعالى : ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك
...) الآية 59 / الأحزاب
سابعا : حفظ سمع الرجال والنساء من سماع الغناء
ثامنا : أقام الحدود وشرع التعزيرات لحفظ
الاعراض وصيانة الانساب وجعل حفظ الاعراض مقصدا من مقاصد هذه الشريعة الغراء
.
إن الغيرة خلق عربي أصيل ، ارتفع به الإسلام آفاقا عالية سامية ، وقمماً
شامخة في ظل مجتمعات محافظة على كرامتها وشرفها وصيانة أعراضها .
ثم بدأت الأخلاق تتغير عند الكثيرين ، مع ضعف الوازع الديني وهجمة الغرب
الشرسة ، حتى بدت المظاهر المنحرفة عجيبة في العلاقات الإجتماعية والأخلاقية
.
ابتعد كثيرون عن الواقع النظيف وحتى غيرة أهل الجاهلية انحدرت وتلاشت في كثير
من المجتمعات ، إذ أصبح الإختلاط شائعاً لا يُستغرب ولا يُستنكر .
كتب أحد المتأثرين بثقافة الإنحلال
الغربي الأوروبي عن نفسه أنه زار إحدى الجامعات الألمانية ، ورأى هناك
الأولاد والبنات مستلقين على الحشائش في فناء الجامعة . قال : " فقلت في نفسي
: متى أرى ذلك المنظر في جامعة أسيوط ؟ لكي تراه عيون أهل الصعيد وتتعود عليه
!!! اهـ
أهل الصعيد لماذا ؟ لأنه لا يزال لديهم من أخلاق المسلمين
وحيائهم .
واليوم ياعباد الله ، في عصر التمدن والتقدم الحضاري المزعوم لدينا ، أين
الغيرة على محارم الله ؟
وأين الغيرة على الأغراض ممانراه في المطارات والطائرات ، والممرضات في
المستشفى ، وصور النساء الفاتنات على الشاشات وأغلفة الصحف والمجلات ؟!
بل يتناقل الناس في مجالسهم أن رجالا يذهبون بنسائهم وهن متنقبات إلى مدرجات
الملاعب والمسارح وميادين الفروسية ومعارض التسوق بلا حياء ولا خجل ولا خوف
من الله أو من رقابة المجتمع الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر !!
هذا ماجاء به الأعلام بأفلامه الخبيثة على مجتمعنا ، وهذا ما أعده ونسقه قوم
لا خلاق لهم ولا دين ، من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا فعلوا بمجتمعنا مالم
يستطع العدو الصليبي أن يصل إليه إلا من ريقهم .
فاتقوا الله في محارم الله ..
واتقوا الله في الأعراض ..
وتناصحوا وتناصروا على حفظ القيم والشيم ، وصيانة مكارم الأخلاق .
إن أملنا كبير في الأجيال المؤمنة أن تقاوم الإنحراف ، وتزرع الفضيلة ، وتكون
قدوة حسنة وواقعا حياً لما كان عليه سلف الأمة عليهم رحمة الله .
ورحم الله القائل : ( إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف ، لا تهاج منه
الشهوات في كل لحظة ولا تستثار الغرائز في كل حين ، والنظرة الخائنة والحركة
المثيرة والزينة المتبرجة والجسم العاري ، كلها لا تصنع شيئا إلا أنها تهيج
ذلك السعار الحيواني المجنون .. ) اهـ