بسم الله الرحمن الرحيم

إلى متسوّق
عبداللطيف بن هاجس الغامدي
دار الوطن للنشر
أرسل الموضوع إلى صديق


الحمد لله الذي أحلَّ لنا الطيَّبات، فضلاً منه علينا، وحرَّم علينا الخبائث والسيئات، ورحمةً منه بنا، وهو ذو الفضل العظيم، والصلاة والسلام على رسول الله الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد :

* أخي المتسوق !
أتدري أيُّ أرضٍ أنتَ عليها الآن؟!
إنها من أبغض البِقاع إلى الله تعالى، فلا يطل مكثك فيها، وعجِّل بالخروج منها !
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أحبُّ البلاد إلى اله مساجدها، وأبغضُ البلاد إلى الله أسواقُها" [صحيح مسلم (1/388 رقم : 671)].
وعن جبير بن مطعم – رضي الله عنه – أن رجلاً قال : يا رسول الله، أيُّ البلادان أحبُّ إلى الله؟ وأيُّ البلدان أبغضُ إلى الله؟ قال : "لا أدري، حتى اسألَ جبريل عليه السلام" فأتاه جبريل، فأخبره : "أنَّ أحسنَ البقاع إلى الله المساجدُ، وأبغضَ البقاع إلىا لله الأسواقُ" [رواه أحمد والبزار وأبو يعلى، انظر : "صحيح الترغيب والترهيب" (1/249 رقم : 325)] .
فالأسواق من أبغض البقاع إلى الله تعالى؛ لكثرة ما يقع فيها من معاصٍ وسيئات، وقلَّة ما يُعمل عليها من طاعات وحسنات، ولكثرة ما يحدث فيها من سهو ولهو، وغفلة ولغو، وتدليس وتلبيس، وكذب وزور، وتهتك وسفور، وفواحش وفجور، وغير ذلك مما يندى له الجبين أن يقع متمكنة، والنفوس تذهب بأصحابها في كل اتجاه، والقلوب تتعلق فيها بزينة الدنيا الفانية حتى تغفل عن النعيم المقيم في جنات النعيم في الدار الآخرة .
والسوق مكان نَصَبَ الشيطان عليه رايته، وميدان أطلق فيه زبانيته، وهو بساطه المحبب ومجلسه المقرَّب، لكثرة طائعيه فيه، وقلة مخالفيه عليه، وخصوصاً هذا الزمان الذي شاعت فيه الخيانة وقلَّت الأمانة، فطغى الزيف وأرغى المزيفون !
فعن أم سلمة – رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تكوننَّ إن استطعت أوَّل من يدخل السُّوق، ولا آخر من يخرج منها، فإنَّها معركة الشيطان، وبها نَصَبَ رايته" ["صحيح مسلم" (4/1515 رقم : 2451)] .

* أخي المتسوق !
تعجب – أشدَّ العجب ! من أقوام يدخلون السوق للنزهة والترفيه وتزجية الفراغ وإشغال الوقَّت بما لا ينفع، وكأنما العمر سلعة رخيصة وبضاعة مزجاة لا قيمة لها ولا ثمن..
وليتك تعلم أيُّ إبنٍ هم فيه؟! وأيُّ خسارةٍ فادحة وقعوا فيها ؟!
وأيُّ ندمٍ وألمٍ سيحرق قلوبهم يوم تنتهي أعمارهم، ونتنقضي حياتهم، فيدبرون عن الدنيا وتغلق عليهم أبوابها، ويقبلون على الآخرة وتفتح لهم أبوابها ؟!
قال تعالى : ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) [المؤمنون : 99-100] .
فيتحسَّر المفرِّط على زمانه الضائع وعمره الفائت ودقائقه الغالية التي أرخصها بتفريطه وغفلته وسهوه ولهوه..
فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "نعمتان مقبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس : الصحَّةُ، والفراغُ" ["صحيح البخاري" (7/218 رقم : 6412)] .
ومن المفارقات المدهشات أن ترى بعضهم يقضي الساعات الطويلة في السوق ليشتري له ساعة غالية ثمينة مع أن وقته رخيص لا قيمة له!!
أو تراه يشتري ما يضيِّع وقته به من الألعاب والملاهي والمشغلات الدواهي .
وسيعلم المفرِّطون أيَّ منقلب ينقلبون..
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع [ابن هبيرة]

* أخي المتسوق ..!
لا تأخذ إحدى نساء بيتك معك إلا لحاجة لا بُدَّ منها تستدعي وجودها، فالأصل للمرأة أن تقعد في بيتها وتقرَّ في مملكتها، ولا تُكْثِر الخروج والدخول إلا بقدر معلوم؛ حتى لا تكون فتنةً لغيرها مفتونة مِن سواها .
فالذئاب البشرية والكلاب الشيطانية التي تحوم في السوق تنتظر في لهفةٍ بالغةٍ تلك الفريسة الضائعة التي لا حامي لها ولا مدافع عنها؛ لتنهش لحمها بمخالبها المهلكة وأنيابها المردية .
ورُبَّ منظر تراه المرأة الضعيفة في السوق من بائع ضائع أو شاب صائع يؤثِّر في قلبها، ويُغْرَس في حبَّة فؤادها يصعب عليها مدافعته أو ممانعته .
وربما تضطر أنت لمسايرتها في شراء أمور لا حاجة لها وأنت غير مقتنع بهان أو أنها غالية الثمن باهظة التكاليف، أو أنها تجلب عليك الضرر وتورد بيتك موارد الخطر .
فعن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "... وإيَّاكم وهيشات الأسواق" ["صحيح مسلم" (1/271 رقم : 432)] وهي الفتنة والهيج والاختلاط ["المعلم بفوائد مسلم" المازري (1/267)] .
ويالها من سوءة بالغةٍ لذلك الذي يمشي مع زوجته أو أخته وقد كشفت عن بعض جسدها كوجهها أو عينيها وما حولها أو يديها أو قدميها وشيء من ساقيها في ملبوسات مخزية، تتكلَّم مع الباحة في سماجة باهتة، وتتبادل النظرات الخائنة والضحكات الفاتنة مع جماعة الشهوانيين الذين يجوبون الأسواق أو يبيعون فيها، وذلك المَحرم لا يفعل ما يلزم لصيناتها والمحافظة عليها .
فهل خَبَت غيرته إلى هذا الحد ؟!
وهل تدنَّت رجولته إلى هذا المستوى ؟!
وهل فقد قوامته ليصل لهذا الضعف المقيت والسخف المميت ؟!
وذو الدناءة لو مزَّقت جلدته بشفرة الضَّيم لم يَحسِس لها ألما
عن عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كفى بالمرء إثماً أن يضيِّع مَن يقوت" ["صحيح سنن أبي داود" (1/317 رقم : 1484)] .
لقد غدا الشغل الذي يمارسه بعض السخفاء السفهاء مع زوجته المسترجلة أن يحمل المتاع المشترى لها، أو يحفظ العيال، أو يدفع المال، أو يبقى في المركبة ينتظرها، أو يرسلها مع السائق لوحدها، أما الشراء وما يتبعه من مراجعة ومداولة مع الباعة وغيرهم فهو دور المرأة التي سُلِبَ حياؤها وقلَّ أدبها، فهي تتحدث معهم وهو ساكت لا ينطق، وتضاحكهم وهو أبكم لا يتكلم، وتتملقهم وهو جامد خامد لا يتالم .
فهل يستحق هذا أن يسمَّى رجلاً ؟!

أجبني .. أيها الرجل !
إن الجراح وإن شجَّت لا تخلد تشفى لواعجها ويصقلها الغد
والجرح بالأعراض ليس بمنقض تفنى العصور وعاره يتجدد
قال تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)) [التحريم : 6] .

* أخي المتسوق ..!
كفَّ بصرك عن النظر فيما حرم الله عليك، فلا تنظر إلى امرأة لا تحل لك، فإن النظرة الخائنة تؤثر في القلب وتحرقه كما تحرق النار الهشيم، وتمزقه كل ممزَّق حتى يغدو أشتاتاً في كل وادٍ يهيم، فيقسو القلب، ويحار العقل، ويشتت الفكر، ويذهب الرضا، ويدب الطمع، فيزهد الإنسان فيما عنده، ويمل مما لديه، ويقع في المهلكات.
والقائد لهذه المهلكة نظرة آثمة أرسلت من طرف خفي كسهم خاطف جلب للقلب العطب، وللنفس التعب .
فإن تمادى مع النظرات وقع في الردى، وعرَّض نفسه للمتالف من الوقوع في الزنا والفواحش .
وأخرط من ذلك على القلب وأضر منه على النفس هو التعلُّق بغير الله حبّاً وطعماً وشوقاً وفزعاً .
وإن حاول غض بصره من بعد إطلاقه، عاد إليه قلبه وقد أحرقه العشق الحرام والهوى والغرام ..

وكنتَ متى أرسلتَ طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المنـــاظر
رأيتَ الذي لا كلّه أنتَ قــادرٌ عليهِ ولا عن بعضه أنتَ صابر

فيا أخي ..!
أغلق على إبليس بابه واتق حرابه، وراقب نظرك فإن الله يراقبك وينظر إليك، واستحِ منه، فإنه مطَّلع عليك ولا يخفى عليه شيء من شأنك !
والمراقبة علم القلب بقرب الربِّ، وهو أقرب إليك من حبل الوريد .
قال تعالى : ((قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)) [النور : 30] .
عن جرير بن عبدالله – رضي الله عنه – قال : سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري [صحيح مسلم (3/1355 رقم : 2159)] .
وعن بريدة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا علي، لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى، وليست لك الثانية" ["صحيح سنن أبي داود" (2/403 رقم : 1881)] ..
فإذا أردت أن تنظر إلى امرأة لا تحل لك، فتذكَّر نظر العظيم العليم إليك، وغضَّ الطرف من أجله وأصرف بصرك حياءً منه، ليبدلك حلاوة للإيمان تجدها في قلبك، لو وُزِّعَت على أهل الارض جميعاً لوَسَعَتهم، والأمر يحتاج إلى صدق عزيمة وقوة إرادة، واحتساب لثواب من الكريم الوهَّاب، والمستعان هو الله .
قال تعالى : ((أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)) [التوبة : 78] .

* أخي المتسوق ..!
احذر أن تكون من سُرَّاق الأعراض، تلك الذئاب البشرية التي تدور كالرحى في الأسواق للتحرش ببنات المسلمين، وتتعرض لهن بالأذى والوقيعة .
وتنسى أن انتهاك الأعراض من أعظم البغي الذي يعجِّل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدَّخره لصاحبه من العذاب والعقاب في يوم الحساب .
وهو دَين في ذمة مَن وقع فيه، لابدَّ له من الوفاء به والعقوبة عليه، إلا مَن تاب وأناب، وأدركته رحمة الرحيم الوهَّاب .
مَن يزني يُزنَ به ولو بجداره إن كنتَ يا هذا لبيباً فافهم
وليعلم أنه لا عذر له يوم يقول : هي التي راودتني عن نفسي؛ فتزيَّنت لي، وتحرشت بي، وتبدت أمامي، وحاولت إرائي ..
فأين هو عمَّن نهى نفسه عن هواها ؟
قال تعالى : ((وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)) [النازعات : 40، 41] .
أين هو عمن ترك معصية الله خوفاً منه ومحبةً له، ورجاءً فيما عنده ؟!
قال تعالى : ((قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) [الأنعام : 15] .
أين هو عن أناسٍ لو مُزِّقوا كلَّ ممزَّق على أن يفعلوا هذه الفواحش لما فعلوها، ولو تخطفتهم الطير ونهشتهم السِباع ؟!
أين هو عمن استظل بظلِّ العفَّة في الدنيا ليظلَّه الله في ظلِّ عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظله، في يوم العرض عليه والوقوف بين يديه ؟!
أما يستحي من نظر الله إليه ؟!
أما يخشي من الله أن يفضحه بين الخلائق، ويكشف ستره عند الناس ؟!

يا غافلاً عمَّا يُرادُ به غـداً في موقفٍ صعبٍ على الورادِ
اقرأ كتابكَ كل ما دقمــتَه يُحصى عليك بصيحة الميعاد
كيف النجاةُ لعبدِ سوء عاجز وعلى الجرائمِ قادرٍ معــتادِ
[ابن الجهم الحوقي]

أما يخاف أن يشلَّ الله حركته، ويُعطل أركانه وهو على فِعْلته؟!
وهل يرضيه أن يقبضه الله إليه وهو على تلك الحال ؟
هل يَسُرّه لو بُعِثَ رسو الله صلى الله عليه وسلم من قبره أن يراه وهو يفعل تلك المعصية، ويمارس تلك الخطيئة ؟
وهل يروق له أن يراه أقاربه وهو يغشى تلك الفاحشة ؟
تُرى لو فضحه الله في الدنيا، فماذا كان يصنع ؟!
بل لو فضحه الله على رؤوس الخلائق جميعاً يوم يقوم الأشهاد لربِّ العباد؛ فبماذا يتوارى؟ وإلى مَن يلجأ؟ وبمن يستعين؟ وطالبه ربُّ العالمين !

فمن لي إذا نادى المنادي بمن عصى إلى أين إلجائي؟ إلى أين أهربُ؟
فيا طول حزني ثم يا طول حسـرتي لئن كنت في قعر الجحيم أعذَّبُ

* أخي المتسوق ..!
الأسواق مواطن الغفلة، وأماكن الزلَّة، فالقلوب متعلقة بالدنيا ولمعانها الزائل ومتاعها المنقطع، فلا تكاد تجد لله ذاكراً بين جموع الغافلين .
فأي ثواب عظيم وأجر كريم ينتظر مَن وصل قلبه بربِّه، وتذكَّر مولاه ولم يغفل عن ذكره وشكره في مكان اشتدت به الغفلة، وكثر فيه اللغو، والتفتت القلوب تبعاً للعيون بكل ما يبهر الأنظار ويخطف الأبصار .
فالناس مهتمون بدنياهم وهو مهتم بدينه، والخلق مشغولون بأنفسهم وهو مشتغل بربِّه، والعباد يذكرون ما يشتهون وهو ذاكر شاكر لربِّ العالمين.. فلا تكن من الغافلين !
فعن عبدالله بن عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. كتب الله له ألف الف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، وبنى له بيتاً في الجنة" ["صحيح الترمذي" (3/152 رقم : 2726)] .

* أخي المتسوق ..!
ذهبتَ إلى السوق لتشتري ما تطلبه نفسك منك مما أباحه الله لك، وهذا من حقك، ولكن أليس من حق نفسك عليك أن تشتري رضوان الله والجنة بفعل الطاعات الواجبات والإكثار من الحسنات المستحبات، وبالكفِّ عن المعاصي والموبقات التي تسبب غضب الله وسخطه وعذابه وعقابه ؟!
إن التجارة الرابحة التي لا تكسد ولا تبور لا تكون إلا مع العزيز الغفور الذي له ميراث السموات والارض ..
فهل ستشتري نفسك من الله؟ ذلك ما أرجوه وأتمناه !
والحمد لله .
 

الصفحة الرئيسة      |     الرسائل الدعوية