اطبع هذه الصفحة


إليكم ... أيّها الإعلاميّــون ...

المارقال


منذ حداثة نشأتي وأنا محبّ للتاريخ، مغرمٌ به سماعاً وقراءةً ، استمتع من خلاله بسير الأمم وحوادثها ومشاهير أيامها فأجد فيها بحراً من الحكم والخبرات والتجارب والعلوم والآداب التي لا تجدها في غير كتب التاريخ، غير أنّ ثمة معضلة غرستها تلك القراءة في قلبي، فعاشت معي زمناً وأنا أبحث عن مسلك مريح له فما ظفرت، فتصحّرت هذه المعضلة حتى غدت حجراً ثقيلاً في قلبي، وقد اجتهدت أن أجد دواء لها من هنا وهاهنا فما أزيد على تحريّك الحجر في قلبي يميناً وشمالاً.

مختصرها: أن سير الملوك والخلفاء والأمراء على مدار التاريخ الإسلامي لا تكاد تسلم من سفكٍ للدماء وتعدٍ على حرمات الناس وحرياتهم وأموالهم في حوادث شهيرة تقشعرّ الأبدان من سماعها، ومن الخير لكثير من الناس أن لا يعرفها، ولم يسلم من هذه الفعال حتى كثير ممن عرفوا بالدين والجهاد والعدل ورفع راية الإسلام والسنة.

ومن أراد الأمراء والخلفاء الذين لم يتدنّسوا بشيء من ذلك فلن يسلم له بعد الخلفاء الراشدين إلا معاوية بن أبي سفيان وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز ونور الدين محمود ونحو تلك الهامات السامقة القليلة، وأما كثير ممن تسنّموا الملك والإمرة فقلّما يسلموا من بعض هذه المظالم – من مقلّ ومكثر-، فكان يسوؤني كثيراً أن أعرف عن بعض من أعتزّ بسيرته وجهاده بعض مثل هذه المظالم التي جعلتني متحيّراً في التعامل مع مثل هذه المعضلة.

غير أنّي – وفيما كنتُ أقرأ - وقعت على كلامٍ نفيسٍ لشيخ الإسلام ابن تيمية نزل على قلبي نزول الماء الطهور على الأرض الظمأى، حيث أشار – رحمه الله – إلى أن الملوك حسناتهم كبار وسيئاتهم كبار،

فكانت هذه الإشارة العابرة مفتاحاً كشف لي نوافذاً مغلقة، وولجت منها إلى أفق رحب كنت قد حبست نفسي عنه، ذلك هو ميزان العدل الذي قامت عليه السموات والأرض وقامت عليه شريعة رب العالمين، وأوجبته على الناس أجمعين، حيث لا يحكم على الشخص بما عليه من سيئات فقط، بل ينظر إلى حسناته وفضائله، ولا يحاسب على ما جلب من فساد حتى يقارن بما أتى به من المصالح والمنافع، فلئن وقع بعض الخلفاء في سفك للدم الحرام وهذه جريمة وانحراف عظيم فإنه هو الذي نشر الإسلام وحفظ الثغور وأقام الشريعة وعلّم الناس فهذه المقارنة توصلك إلى عدل تام في التعامل مع التاريخ لا تغفل فيه عن ذكر الأخطاء والتجاوزات، ولا تكون هذه التجاوزات سبباً لأن تسوّد التاريخ كلّه.

إن طبيعة الولايات العامة أن حسناتها عظام وسيئاتها جسام، ويتهيأ لمتوليها من القدرة على الظلم والعدوان ما لا يتهيأ لغيره فإن عصم نفسه عن ذلك كان جزاؤه أن يكون في ظلّ الله يوم القيامة، ولأجل ما في هذه الولايات من السيئات العظام فيمن قصّر فيها وتهاون في أمانتها تنزّه كثير من السلف عنها، وبالغوا في حماية أنفسهم منها ومن تبعاتها،

ولأجل ما فيها من خير عظيم ونفوذ كبير يتمكن المرء من خلالها من إقامة الحق ونشر الخير سعى لها كثير من السلف وطلبوها، بل وطلبها أفاضل الصحابة فتنازعوها يوم السقيفة وتنازعها أهل الشورى بعد خلافة عمر (( فما ردّ عنها طالب وما منع منها راغب)) والدنيا أحقر من أن يتنازع الصحابة الولاية من اجلها، وإنما حرصوا عليها لما فيها من الخير والمعروف الذي لا يحصل في غير الولاية،

ولك أن تتأمل في الخلافة العظمى كيف رتّبت بين الصحابة حسب أفضليتهم فنالها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم، فكان ترتيبهم في نيل الخلافة كترتيبهم في أفضليتهم على الأمّة فحصل لهم من خلال هذه الولاية من الحسنات والدرجات والأعمال العظيمة ما لا يمكن أن يحصّله غيرهم.

ومما يستأنس به هنا: ما حدث بين معاوية بين أبي سفيان والمسور بن مخرمة، حيث دخل المسور – وهو من صغار الصحابة – على معاوية، وكان المسور من المناوئين لمعاوية والناقمين عليه، فقال معاوية للمسور: ماذا تنقم عليّ يا مسور؟
فقال المسور: أموراً وأشياءً، فطلب معاوية منه أن يعدّها فذكرها كلّها.
فقال معاوية: وأنت يا مسور، أما لك ذنوب وأخطاء.
فقال: بلى وأنا أرجو مغفرة الله.
فقال معاوية: وما لك ترجو مغفرة الله، ولا ترجوها لي ، ولي من الأعمال من إقامة الجهاد وحفظ الثغور ونشر الدين وتعليم الناس وحفظ أموالهم وأعراضهم ما ليس لك.
فقال المسور: فكانت هذه الحادثة سبباً لذهاب كلّ ما كنت أجد على معاوية.

ثمّ أما بعد:

فليست الولايات الكبرى هي التي حسناتها وسيئاتها كبار، بل إني أحسب أن الإعلام في عصرنا لا يقلّ عن الولايات الكبرى في هذه الخاصية، فطبيعة الإعلام في انتشاره وقوة تأثيره واهتمام الناس به يجعل من حسنات الإعلام حسنات كبار، ومن سيئاته سيئات كبار.

فإليك – أخي الإعلامي المسلم – دعوة بأن تستشعر هذه المعنى المهم وأنت تمارس عملك الإعلامي، فالعمل الذي تقوم به عملٌ متعدٍ، فإن كان خيراً فهو خير واسع ينالك فيه من الأجر والخير ما لا تحسب، وإن كان شراً فهو شر مستطير يصلك من الإثم والوزر ما لا تقصد ولم ترد.

أيها الإعلامي الموفّق:


إن الأخطاء التي يقع فيها الإنسان فيما بينه وبين ربّه ليست كالأخطاء التي يقع فيها الإعلامي ويسير بها في العالمين، فتهاونك في بعض السلوكيات ووقوعك في بعض المخالفات يجب أن لا يدعوك إلى التهاون في الوقوع بمثلها أو غيرها في الوسيلة الإعلامية التي تعمل بها، فإن السيئة المعلنة والمنتشرة ليست كالخاصّة والمستترة، بل إني أرى أن وقوعك في بعض المخالفات يجب أن يكون دافعاً لك لأن تجتهد في كسب حسنات ومصالح تكون مكفّرة لها ورافعة لمقامك ودرجاتك.

أخي الإعلامي:

إنّ النبي صلى الله عليه وسلم حكم على ابن آدم الذي سنّ القتل بأن عليه وزر جميع القتل الذي يحصل في الأرض لأنه هو أول من بدأ بالقتل، فعليه وزر جميع القتل الذي يحصل مع أنّه لم يدعو إليه، فما بالك بمن يدعو إلى الحرام ويحسّنه وينشره بين الناس!.

إذا سمحت لي – أخي الإعلامي – أن أبثك شيئاً مما في نفسي، فإني - والله – أغبطك على وسيلتك الإعلامية التي أنت عليها، وأتمنى لو يتهيأ لي ما تهيأ لك لأنال بعض الدرجات والحسنات التي لا يمكن لي أن أصل لها من إلا خلال الموقع الذي أنت فيه.

تذكّر – أيها الإعلامي – أنك ومن خلال عملك الإعلامي قد تصل إلى مقامات ودرجات من الخير والبرّ والفضل لا يمكن أن يصل لها العابد الصائم القائم، ولا حتى العالم الذي شابت لحيته في التعليم والخير، لأنه قد تهيأ لك طريق لم يتهيأ لهم، فربّما تكون دونهم في العلم والدين والقدر لكنّه من خلال استغلالك لموقعك الإعلامي قد تنال من الدرجات وتحوز من الخيرات ما لا يقدرون على الوصول إليه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فأرجو أن لا يقعدنّك ما تراه من مخالفات أو قصور في نفسك عن الرقيّ في تلك الدرجات العلى.

استشعر – أخي المسلم - أن الملايين من الناس يستمعون إلى قولك ، ويتابعون ما تدعوهم إليه، ويتأثرون بالرسائل التي ترسلها إليهم، فإن كانت تلك الكلمات والرسائل تدعو إلى الخير، وتحثّ على المعروف، وتعزّز في النفوس القيم والمعاني الشريعة السامية, فهنيئاً لك الأجر والثواب الجزيل عن كلّ عين رأتك أو أذن سمعتك، وعن كلّ فعل أو قول تثمره تلك الرسائل الطاهرة.

وإن كانت تلك الرسائل صوراً محرّمة ودعايات ماجنة وكلمات مخزية ودعوات آثمة، تحارب الفضيلة، وتنفّر الناس عن التدين، وتنشر فيهم الشهوات والشبهات فتعساً لهذه الإعلام البائس كم سيحمّل ظهرك من الأثقال والأوزار التي لا يعلم بها إلا الله، وما أحقر الدنيا وما فيها من جاه ومال حين تكون سبباً لملء صحائف الأعمال من الأثقال التي لم تعملها وربّما لم تعلم عنها.

هي رسالة صادقة مشفقة إليك أخي الإعلامي لأن تكون مفتاح خيرٍ، مغلاق شر، وقد لا تكون موافقاً لي في كثير مما ذكرته لك ، لكنك – قطعاً – لن تخالفني في أنك يجب أن لا تكون بوابةً يدخل منها ما لا يرضي ربّك ولا يتفق مع قيمك ليصل إلى الملايين فتتحمّل أوزارهم وأثقالاً كنتَ في غنىً عنها، وأظنّك أعقل وأفقه من أن تنساق إلى التهاون في الحدود الشرعية في الإعلام بناءً على موقف مسبق من جماعة أو شخص أو فكر.

وتقبّل الله منّي ومنك صالح الأعمال، وتقبّل تحيّة طيبة من أخيك المارقال.
16/9/1428هـ

 

رسائل دعوية

  • رسائل دعوية
  • معا على طريق الجنة
  • الصفحة الرئيسية