إياك والغفلة !
اعلم
– يا بني - وفقـك الله للصواب أنه لم يتميز الآدمي بالعقل إلاّ ليعمل
بمقـتضاه ، فاستحضر عـقـلـك ، وأعمل فكرك واخـل بنفـسك ؛ تعـلم بالدليل أنك
مخلوق مكلف ! وأن عـليك فـرائـض أنت مطالب بها ، وأن الملكين يحصيان ألفاظـك
، وأن أنفـاس الحي خطاه إلى أجله 0 ومقدار اللبث في الدنيا قليل والحبس في
القبور طويل ، والعذاب على موافقة الهوى وبيل !
فأين لذة أمس ؟ رحلت وأبقـت ندماً !
و أين شهوة النفـس ؟ كم نكست رأساً وأزلت قدماً !!!
وما سعد من سعد إلا بخلاف هواه، ولا شقي من شقي إلا بإيثار دنياه. فاعتبر بمن
مضى من الملوك والزهاد. أين لذة هؤلاء وأين تعب أولئك ؟
والكسل عن الفضائل بئس الرفيق ، وحب الراحة يورث من الندم ما يربو على كل لذة
فانتبه واتعب لنفسك !
واعلم ن أداء الفرائض واجتناب المحارم لازم ، فمتى تعدى الإنسان فالنار
النار ! ثم اعلم أن طلب الفضائل نهاية مراد المجتهدين، ثم الفضائل تتفاوت ، فمن
الناس من يرى الفضائل الزهد في الدنيا ، ومنهم من يراها التشاغل بالتعبد ،
وعلى الحقيقة فليست الفضائل الكاملة إلا الجمع بين العلم والعمل ، فإذا حصلا
رفعا صاحبهما إلى تحقيق معرفة الخالق سبحانه فتلك الغاية المقصودة . والله
المستعان .
ما يجب عليك معرفته
وأول ما ينبغي النظر فيه: معرفة الله تعالى بالدليل، ومعلوم أن من رأى السماء
مرفوعة، والأرض موضوعة، وشاهد الأبنية المحكمة خصوصاً في جسد نفسه، علم أنه
لابد للصنعة من صانع، وللمبني من بان.
ثم يتأمل دليل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، وأكبر الدلائل القرآن
الذي أعجز الخلق أن يأتوا بسورة من مثله. فإذا ثبت عنده وجود الخالق – جل
وعلا – وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وجب تسليم عنانه إلى الشرع ، فمتى لم
يفعل دل على خلل في اعتقاده . .
ثم يجب عليه أن يعرف ما يجب عليه من الوضوء والصلاة والزكاة - إن كان له مال-
والحج وغير ذلك من الواجبات ، فإذا عرف قدر الواجب قام به .
فينبغي لذي الهمة أن يترقّى إلى الفضائل ، فيتشاغل بحفظ القرآن وتفسيره ،
وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وبعرفة سير أصحابه والعلماء بعدهم ..
ليتخير مرتبة الأعلى فالأعلى ، ولابد من معرفة ما يقيم به لسانه من النحو
واللغة ...
والفقه أصل العلوم ، والتذكير حلواؤها وأعمها نفعاً وقد عرفت بالدليل أن
الهمة مولودة مع الآدمي ، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات فإذا حُثّت
سارت ، ومتى رأيت من نفسك عجزاً فسل المنعم ، أو كسلاً فالجأ إلى الموفِّق ،
فلن تنال خيراً إلا بطاعته ، ولا يفوتك خير إلا بمعصيته ، فمن الذي أقبل عليه
يرد كل مراد ؟ ومن الذي أعرض عنه فمضى بفائدة ، أو حظي بغرض من أغراضه ؟!
أو ما سمعت قول الشاعر :
والله ما جـئـتـكم زائـراً
*** إلا وجدتُ الأرض تطوى لي
ولا ثنيت العزم عن بابكم *** إلا تـعـثـرت بـأذيــالي
اغتنم أوقاتك في الخير
وانتبه يا بني – لنفسك واندم على ما مضى من تفريطك واجتهد في لحاق الكاملين
ما دام في الوقت سعة ، واسق غصنك
، ما دامت فيه رطوبة ، واذكر ساعتك التي ضاعت فكفى بها عظة ، وذهبت لذة الكسل
فيها ، وفاتت مراتب الفضائل .
وقد كان السلف الصالح – رحمهم الله – يحبون جمع كل فضيلة ويبكون على فوت
واحدة منها .
قال إبراهيم بن أدهم – رحمه الله - : دخلنا على عابد مريض ، وهو ينظر إلى
رجليه ويبكي ، فقلنا : مالك تبكي فقال : ما غبرتا في سبيل الله . وبكى آخر ,
فقالوا : ما يبكيك ؟ فقال : على يوم مضى ما صمته وعلى ليلة ذهبت ما قمتها .
واعلم يا بني – أن الأيام تبسط ساعات ، والساعات تنبسط أنفاساً
، وكل نفس
خزانة ، فاحذر أن يذهب نفس بغير شيء فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم .
وقد قال رجل لعامر بن عبد قيس : (( قف أكلمك . فقال : أمسك الشمس )) . وفي
الحديث : (( من قال : سبحان الله العظيم وبحمده ،غرست له بها نخلة في الجنة
)) فانظر إلى مضيع الساعات كم يفوته من النخيل ؟
تفكر في المعاد
ومن تفكر في الدنيا قبل أن يوجد رأى مدة طويلة، فإذا تفكر فيها بعد أن يخرج
منها رأى مدة طويلة ، وعلم أن اللبث في القبر طويل ، فإذا تفكر في يوم
القيامة علم أنه خمسون ألف سنة ، فإذا تفكر في اللبث في الجنة والنار علم أنه
لا نهاية له ، فإذا عاد إلى النظر في مقدار بقائه في الدنيا فرضنا ستين سنة
مثلاً فإنه يمضي منها ثلاثين سنة في النوم ، ونحو حمس عشرة في الصبّا فإذا
حسب الباقي كان أكثره الشهوات والمطاعم والمكاسب ، فإذا أخلص ما للآخرة وجد
فيه من الرياء والغفلة كثيراً ...
فبماذا تشتري الحياة الأبدية ، وإنما الثمن هذه الساعات ؟
كيف تقضي اليوم والليلة ؟
والزم نفسك – يا بني – الانتباه عند طلوع الفجر ولا تتحدث بحديث الدنيا
، فقد كان السلف الصالح – رحمهم الله – لا يتكلمون في ذلك الوقت بشيء من أمور
الدنيا ، وقل عند انتباهك من النوم : (( الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني
وإليه النشور )) ثم قم إلى الطهارة واركع سنة الفجر واخرج إلى المسجد خاشعاً
، واقصد الصلاة إلى يمين الإمام فإذا فرغت من الصلاة فقل : (( أذكار عقب
الصلاة )) ومنها : (( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد
وهو على كل شيء قدير )) عشر مرات [ وأيضاً ] آية الكرسي ، واسأل الله سبحانه
قبول الصلاة فإن صح فاجلس ذاكراً الله تعالى إلى أن تطلع الشمس ، وترتفع ، ثم
صلّ واركع ما كتب لك ، وإن كان ثمان ركعات فهو حسن .
ثم تشاغل بمطالعة أو نسخ إلى وقت العصر ، ثم عُد إلى درسك من بعد العصر إلى
وقت المغرب ، فإذا صليت العشاء فعد على دروسك ثم اضطجع على شقك الأيمن ، فسبح
ثلاثاً وثلاثين ، واحمد ثلاثاً وثلاثين ، وكبر أربعا وثلاثين ، وقل : ((
اللهم قني عذابك يوم تجمع عبادك ))
وإذا فتحت عينيك من النوم فاعلم أن النفس قد أخذت حظها فقم إلى الوضوء وصل في
ظلام الليل ما أمكن ، واستفتح بركعتين خفيفتين ، ثم بعدهما ركعتين بجزأين من
القرآن ، ثم تعود إلى درس العلم ، فإن العلم أفضل من كل نافلة .
اختر جليسك واعلم أن العلم وسام
وعليك بالعزلة فهي أصل كل خير ، واحذر من جليس السوء ، وليكن جلساؤك الكتب
والنظر في سير السلف ، ولا تشتغل بعلم حتى تحكم ما قبله ، وتلمّح سير
الكاملين في العلم والعمل ، ولا تقنع بالدون ، فقد قال الشاعر :
ولم أر في عيوب الناس شيئاً *** كنقص القادرين على التمام
واعلم أن العلم يرفع الأراذل فقد كان خلق كثير من العلماء لا نسب لهم يذكر
ولا صورة تستحسن . وكان عطاء بن أبي رباح،أسود اللون مستوحش الخلقة،وجاء إليه
سليمان بن عبد الملك،وهو خليفة ومعه ولده فجلسوا يسألونه عن المناسك،فحدثهم
وهو معرض عنهم بوجهه. فقال الخليفة لولديه:(( قوماً ولا تنيا ولا تكاسلا في
طلب العلم،فما أنسى ذلّنا بين يدي هذا العبد الأسود ))
وكان الحسن البصري مملوكاً وابن سيرين ومكحول ، وخلق كثير وإنما شرفوا بالعلم
والتقوى .
تحلَّ بالقناعة
واجتهد – يا بني – في صيانة عرضك من التعرض لطلب الدنيا والذلّ لأهلها ،
واقنع تعزّ ، فقد قيل : من قنع بالخبز والبقل لم يستعبده أحد .
ومرَّ أعربي على البصرة فقال : من سيد هذه البلدة ؟ قيل له:الحسن البصري ،
قال:وبما سادهم ؟ قالوا:لأنه استغني عن دنياهم وافتقروا إلى علمه .
احفظ الله يحفظك
يا بني ، متى صحت التقوى ؛ رأيت كل خير،والمتقي لا يرائي الخلق ولا يتعرض لما
يؤذي دينه,ومن حفظ حدود الله حفظه الله .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بن عباس رضي الله عنهما : (( احفظ الله
يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك )) .
واعلم يا بني : أن يونس عليه السلام لما كانت ذخيرته خيراً نجا بها من الشدة
.. قال الله عز وجل : { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ
*
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }
وأما فرعون فلما لم تكن ذخيرته خيراً لم يجد في شدته ملخصاً فقيل له :
{
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}
فاجعل لك ذخائر خير من تقوى تجد تأثيرها .
حذاري من علم لا يعمل به
وإياك أن تقف مع صورة العلم دون العمل به ؛ فإن الداخلين على الأمراء
والمقبلين على أهل الدنيا قد أعرضوا عن العمل بالعلم فمنعوا البركة والنفع به
.
وإياك أن تتشاغل بالتعبد من غير علم ، فإن خلقا كثيراً من المتزهدين
والمتصوفة ضلوا طريق الهدى إذ عملوا بغير علم .
وحاسب نفسك عند كل نظرة وكلمة وخطوة فإنك مسؤول عن ذلك ، وعلى قدر انتفاعك
بالعلم ينتفع السامعون ، ومتى لم يعمل الواعظ بعلمه زلت موعظته عن القلوب ،
كما يزل الماء عن الحجر فلا تعظنّ إلا بنية ، ولا تمشينَّ إلا بنية، ولا
تأكلن لقمة إلا بنية ، ومع مطالعة أخلاق السلف ينكشف لك الأمر .
عليك بالخلق الحسن
وأدّ إلى كل ذي حق حقه ، من زوجة وولد وقرابة ، وانظر إلى كل ساعة من ساعاتك
بماذا تذهب ، فلا تودعها إلى أشرف ما يمكن ، ولا تهمل نفسك وعودها أشرف ما
يكون من العمل ، وأحسنه ، وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك يوم الوصول إليه كما
قيل :
يا من بدنياه انشغل *** وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة *** والقبر صندوق العمل
وراع عواقب الأمور ؛ يهون عليك الصبر عن كل ما تشتهي وما تكره ، وإن وجدت من
نفسك غفلة فاحملها المقابر ، وذكرها قرب الرحيل ، ودبر أمرك – والله المدبر –
في إنفاقك من غير تبذير لئلا تحتاج إلى الناس ، فإن حفظ المال من الدين ،
ولأن تخلف لورثتك خير من أن تحتاج إلى الناس ..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين
مختصر من كتاب لفتة الكبد في نصيحة الولد
إعداد القسم العلمي بدار ابن خزيمة