الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه
أجمعين ..... أما بعد .
فقد طوي عام هجري كامل ، ورحل بما فيه من أعمال ، وحركات , وسكنات ، فهاهو قد
حزم حقائب الأيام الماضية ، ووضع فيها الأعمال ، فلا تفتح هذه الحقائب
والصناديق إلا ّ يوم العرض والحساب .
قال تعالى : { ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون مال هذا
الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم
ربك أحدا } [1] وقال تعالى : { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا
ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } [2] .
إذا ً فالأمر خطير :
لأن انقضى سنة كاملة من عمر الإنسان تعني له عدة أمور من أهمها ، وأبرزها :
أولا ً :
أن هذا العام قد مضى بما استودع فيه ، سواءً كان خيرا ً، أو شرا ً، فصحيفة
عام كامل قد ملئت ، ووضعت في رق ٍ ، فرقم ، ثم ختم ، وطبع ، فلن يكسر إلاّ
يوم القيامة .
فياليت شعري من المسرور حينما يراه ، فنهنيه ، ومن المغبون النادم ، فنعزيه .
قال تعالى : { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ٍ محضرا ً وما عملت من سوء ٍ
تود لو أن بينها وبينه أمدا ً بعيدا ً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد
} . [3]
مضى العام بما فيه فأنت لا تستطيع التغيير ، ولا التبديل ، فلا إمكان لتغيير
عملك الصالح بشكل أفضل مما قدمت ، فلا تقدر على مضاعفته ، ولا تقدر على
زيادته ، فقد قُضيَ الأمر ... فما بالك بالأعمال التي هي دون الأعمال الصالحة
! فقد كتبت .
تذكر معي ذلك اليوم عندما رأيت ذلك المسكين المعدوم ذو الهيئة الرثة ، ذو
العيال قليل المال ، قد انحنى ظهره ، وشاب عارضاه وبدت علي وجهه قسوة الفقر
والحاجة ... هل تذكر عندما أخرجت محفظة نقودك لتعطيه من مال الله الذي
استودعه عندك فأخرجت العشرة بيمينك مخافة أن تراها شمالك ، فتذكرت العيال ،
وطغى عليك حب المال ، فأعدت تلك العشرة ، وأخرجت الريال ... هل تستطيع أن
تعيد ذلك اليوم ، وتخرج العشرة ولو بالشمال .
وهل تذكر عندما هممت بمعصية كذا وكذا ، فجاءك وازع الخوف من الله تعالى ونهاك
، ولكنك قلت : هذه المرة فقط ولا أعود ، فقط أنظر ، استغفر الله بعدها ،
وفعلا ً تجرأت َ، وارتكبتَ تلك المعصية ، ووقعت في الشهوة ، فها قد ذهبت
الشهوات ، وبقيت التبعات .
إذا ً أخي الحبيب فالعام قد انطوى بما فيه .
ثانيا ً:
تذكر أُخيَ قرب الأجل ، فانقضى عام يعني دنوا أجلك .
تأمل هذا التقويم السنوي الذي فتحته في أول يوم من محرم ، وها أنت اليوم
تَقلب أخر ورقة منه . إنما أنت مثل هذا التقويم . قال الحسن البصري - رحمه
الله - : يا ابن أدم إنما أنت أيام كلما مضى منك يوم مضى بعضك .
إنـا لنفـرح بالأيـام نقـطعها *** وكـل يوم
مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا ً *** فإنما الربح والخسران في العمل
جاء
في بعض الكتب السالفة : (إن لله منادياً ينادي كل يوم :أبناء الخمسين زرع دنا
حصاده، أبناء الستين هلموا إلى الحساب ، أبناء السبعين ماذا قدّمتم وماذا
أخرتم ، أبناء الثمانين لا عذر لكم ، ليت الخلق لم يخلقوا ، وليتهم إذ خلقوا
علموا لماذا خلقوا ، وتجالسوا بينهم فتذكروا ما عملوا ، ألا أتتكم الساعة
فخذوا حذركم ..... ياأبناء العشرين كم مات من أقرانكم وتخلفتم ، يا أبناء
الثلاثين أصبتم بالشباب على قرب العهد فما تأسفتم ، يا أبناء الأربعين ذهب
الصبا وانتم على اللهو قد عكفتم ، يا أبناء الخمسين تنصفتم المئة وما أنصفتم
، يا أبناء الستين أنتم على معترك المنايا قد أشرفتم ، أتلهون وتلعبون لقد
أسرفتم )[4] قال تعالى :{ أفرأيت إن متعناهم سنين ثم
جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون }[5]
أنشد
أبو العتاهية للرشيد حين بنى قصره ودعا إليه ندماءه .
عـش ما بدا لك سـالماً
في ظل شاهقة القـصور
يسـعى عليك بما اشتهيـ يت لدى الرواح
والبكـور
فإذا النفـوس تقعـقعـت قي ضيق
حشرجة الصدور
فـهنـاك تعـلم موقـناً ما
كنت إلاّ في غــرورِ
إذاً
آخي الحبيب: لا بد من تصحيح المسار ،
واغتنام ما بقي من الأعمار بالتوبة والاستغفار ، ما دمت في زمن المهلة ،
وأتيحت لك الفرصة . اسأل نفسك ماذا قدمت لها ، واسأل نفسك ماذا قدمت لدينك ،
فالإسلام دين عمل ، ونحن أمة مبعوثة ، بعثها الله لنشر دينه وإعلى كلمته .
اللهم إني أسلك التوفيق والسداد ، اللهم دلنا على ما يرضيك ، وأعنا على فعله
، اللهم إني أسلك حبك ، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك ، اللهم توفنى وأنت راضٍ
عنا ، اللهم إرزقنا التوبة والإنابة وإجعلنا من عبداك الشاكرين الذكرين ،
والحمد لله رب العلمين .
وكـتبـه
أبي عبد الله فهد بن فرج الأحمدي
المدينة النبوية 26/12/1423هـ
Fahad1409@hotmail.com
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - الكهف . آية
49 .
[2] - آل عمران . آية 25 .
[3] - آل عمران . آية 30 .
[4] - لطائف المعارف صفحه 329
[5] - الشعراء آيه 205-207