بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين
أما بعد , أحبتي الكرام :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا أحب التصنيف , وبالذات تصنيف الناس , فأنا ممن يؤمن أن الحق باق , وأن
المسلمين وإن اختلفوا , فلا بد من التقارب , والإتفاق على النقاط المتفقة ,
وترك ما اختلفوا فيه أو ما أشكل جانباً , فنحن (بحاجة) للتودد والتلطف , أكثر
من حاجتنا للتحزّب والتعدد !! .
ولكن , هذه المرة سأخوض في هذا الأمر , ولعله في خير - إن شاء الله - سائلاً
ربي توفيقه وسداده , وسأتكلم بشأن العلماء - وليس لمثلي - أن يتكلم في هذا
الشأن الرفيع . ولكن عذري أنه جرت العادة من قديم العهد , أن المفضول قد ينفع
الفاضل في شيء يوفقه الله , ويجريه على لسانه , والمتأمل لسيرة النبي صلى
الله عليه وسلم , ومن بعده من سيرة سلفنا الصالح , يدرك هذا الأمر جيداً .
فأقول مستعيناً بالله :
000 أصنـــاف النـــاس مع العلمــــاء 000
الصنف الأول :
محب لهم مشفق عليهم . منتبه لزللهم يدعو لهم , يتحاشى الوقوع في أعراضهم .
يحاول جاهداً , عدم المساس بهم , لا كرامة لهم فقط , وإنما كرامة لمكانتهم
التي في قلوب الناس جميعاً . مطيعهم وعاصيهم . ويبذل النصيحة الواجبة لهم ,
بأدب يليق بمكانتهم . سالكاً طرائقها الشرعية . ولا شك أن هذا مسلك صواب لا
غبار عليه .
الصنف الثاني :
مبالغ في حبهم , لا يرى خطأً
عليهم , أو تقصيراً في جانبهم , لذا لا يرى نصحهم أو بمعنى آخر , تبيين الأمر
وتجليته لهم . وفي المقابل يشنّع على من بذل النصيحة لهم . ويرى الصواب
دائماً في كل ما يقولون أو يسكتون عنه , وكأنهم معصومين من الزلل والخطأ .
ولا شك أن هذا مسلك خطأ كثير فساده .
الصنف الثالث :
صنف تحامل على العلماء , وحملهم
كل المسئولية , وبلغ به السيل الزبى , لشدّة ما _ يرى - أنهم قصروا عن أداء
ما كلفهم الله , وتقاعسوا عن بذل الوسع , في الصدع بالحق وعدم الخوف والملامة
إلا من الله .
فهؤلاء أرخوا العنان لأقلامهم , وفتحوا الأثغر لألسنتهم , ووسعوا دائرة سبهم
, وتناولوا أعراضهم في كل شاردة وواردة , وفي كل صغيرة وكبيرة , وحمّلوهم وزر
الأمة والوقوع في الغُمـّة !!
وأخذوا - هؤلاء - على متابعتهم وتتبعهم ومناقشة طرحهم , ورد كلامهم وتسفيه
عقولهم , بل لا أبالغ إذا وصل الأمر إلى .... تكذيبهم .
وهذا
الصنف الأخيــر , محقٌ في غضبه , وزيادة ألمـــه , ولكنــــه , غير محق _
ثلاثـــــا _ في إسقاط مكانتهم ، شعر , أم لم يشعر , بسبب موقف أو إثنين أو
عشرة , وذلك لأسباب كثيرة , أختصرها في الآتي .
أولاً :
أن هؤلاء , مجتهدون , وغيرهم كذلك ,
وكل يدين الله بما قال أو كتب , فلا داعي للدخول في النوايا - ولا يعلمها إلا
الله - وهو منزلق خطير , قد يهوي بصاحبه إلى دركات جهنم , أعاذنا الله وإياكم
منها .
وقد
قال ابن ناصر الدين : لحوم العلماء مسمومة , وعادة الله في هتك أعراض
منتقصيهم معلومة , ومن وقع فيهم بالثلب , ابتلاه الله قبل موته بموت القلب .
ثانياً :
أننا في تخطئتنا للغير , والتجاوز
معهم حدود الأدب , فيه تزكية للمخَطِّيء بطريق غير مباشر , وهذا منهج يخالف
الآيات والنصوص النبوية , الحاثّة على عدم تزكية النفس , وأن الله أعلم بمن
أتقى .
وقد
قال الحافظ بن رجب : وأما بيان خطأ من أخطأ من العلماء قبله , إذا تأدب في
الخطاب وأحسن في الرد والجواب , فلا حرج عليه ولا لوم يتوجه إليه .
ثالثاً :
أننا وبالمداومة على هذا المسار ,
وتبني هذا المنهج , نقف صفاً واحداً مع أعداء الدين , من رافضة , ومنافقين ,
وعلمانيين, وغيرهم , في خندق واحد !!
ولا
أدلّ على ذلك , لو سلك أصحاب هذا الصنف هذا المسلك , بدافع الغيرة , وسلك
غيرهم هذا المسلك بهدف الإطاحة بهذا الدين وإذلال أهله , لما تبين الدخن في
الدخلاء , بل يتفق الجميع وبغير علم من الأغيار , على رمي العلماء أهل الفضل
والإحسان , بقوس واحدة !! وهنا أمر جلل , يجب على كل غيور أن لا يكون عوناً
لعدوه المتربص , وإلا فقد وضع نفسه في موقف حرج , ومكان شبهة هو في غنى عنه .
وقد قال تعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا
تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة:2)
وقد
قال الإمام الذهبي - رحمه الله - : ونحب السنة وأهلها ونحب العالم على ما فيه
من الإتباع والصفات الحميدة , ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ , وإنما
العبرة بكثرة المحاسن .
رابعاً :
أن كثيراً من الأحبة , لا يفرق بين
العالم الذي باع دينه بعرض من الدنيا , وبين العالم الضعيف في الصدع بالحق أو
بالجهاد أو غير ذلك , فكلا الصنفين عنده بدرجة واحدة , وهذا حكم جائر , وبعيد
عن العدل والله تعالى يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8)
خامساً :
جرأة كثير من الأحبة على العلماء ,
والخوض في نياتهم , وتفسير أقوالهم وأفعالهم , بناء على فهم المفسر أو الكاتب
, وهنا مخالفة منهجية للباحث الناصح والمريد للحق .
ورحم
الله إبراهيم بن أدهم إذ يقول : كنا إذا رأينا الشاب يتكلم مع المشايخ في
المسجد أيسنا من كل خير عنده . أي يناظرهم ويجادلهم , فإذا كان اليهود
والنصارى والبوذيون يجلون ويقدرون علماءهم إلى درجة التقديس .
أفلا
يليق بنا أن نحترم علماءنا وهم ورثة الأنبياء ؟ !!!
سادساً :
عدم الواقعية في فهم النصوص الكثيرة ,
الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي ثابتة صحيحة , لا تقبل التأويل ولا
التحريف , في تغير الزمان , وكثرة الفتن , حتى يصبح الحليم فيها حيراناً .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه"
وهذا الشر يكون في كل شيء .
فنحن
في دورة زمنية لا بد أن تأخذ مجراها , ليميز الله الخبيث من الطيب , ولحكمة
أرادها سبحانه , حتى يأذن الله ويأتي بالفرج من عنده .
سابعاً :
مخالفة المنهج الرباني , في سنة
التغيير , وقد قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً
فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد:11) , لا شك
أن العلماء عليهم دور كبير ومهم في حياة الأمة , ولكن هل غيرنا نحن من
أفعالنا وتصرفاتنا , بحيث نكون قريبين من الله ؟ لا أظن عاقلاً يخالف أن
حالنا جميعاً وللأسف في بعد عن الله وعن مرضاته - إلا من رحم الله - وقليل ما
هم , بل إننا وللأسف نسير نحو السوء أكثر من الخير , وما على المستغرب من هذا
الكلام , إلا النظر لحال الناس اليوم نساءً ورجالاً , وكيف تعلقت القلوب
بالماديات والمحسوسات , ليدرك صحة هذا الكلام .
ثامناً :
إلقاء اللوم على العلماء وحدهم فيما
يجري للأمة , هو نوع من الهروب الغريب , الذي نسلكه لنلقي عن عواتقنا تحمل
المسئولية في القيام بما أوجب الله علينا جميعاً , وكل بحسبه ووسعه .
تاسعاً :
إن مسلك , تلمس العذر من المسلم لأخيه
المسلم , مسلك إسلامي , ومطلب شرعي , يثاب عليه العبد , ولا شك أن نصيب
العلماء من هذا الواجب أكبر وأوسع , فما بالنا اليوم نسينا المنهج الصحيح .
عاشراً :
إن وقوع العالم في الخطأ , لا يعني
ذلك جواز غمزه ولمزه, بل يسلك معه مسلك الناصح المشفق إن كان صادقاً في توجهه
, ويبين له خطأه , والعالم أكثر المحبين للنقاش إذا كان بدليل شرعي , أما
إثارة الغير عليه , وتأليب الناس عليه , فيه خطر عظيم على المرء ودينه . فكيف
بمن يعمم الخطأ على العلماء جميعاً , ويقحم نفسه في دهاليز مظلمة .
والخطأ طبيعة بشرية , ولكن من الناس يكون خطؤه قليلاً أو غير مقصود بالنسبة
لصوابه , كما قال ابن عبدالبر : " لا يسلم العالم من الخطأ فمن أخطأ قليلاً
وأصاب كثيراً فهو عالم , ومن أصاب قليلاً وأخطأ كثيراً فهو جاهل " .
وكما
قال سفيان الثوري : " ليس يكاد يفلت من الغلط أحد , إذا كان الغالب على الرجل
الحفظ فهو حافظ وإن غلط , وإن كان الغالب عليه الغلط ترك " .
وهذا
الصنف هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " أقيلوا ذوي الهيئات
عثراتهم إلا الحدود " . وقد قال الشافعي : ذوو الهيئات الذين ليسوا يعرفون
بالشر فيزل أحدهم الزلة .
قبل الختــام :
يجب أن نحسن الظن بالعلماء , وأن
لا نبخسهم حقهم , فلا نعلم لعل الله أراد لنا ولهم بهذه الإبتلاءات خيراً ,
في أن تتوحد الصفوف , ويتميز الخبيث من الطيب , وتتقوى العزائم , ويتهييء
الجميع علماء وعامة , لأحداث جسام قادمة , ولازلنا نؤمل فيهم خيراً - بإذن
الله - .
فلنصبر ولنلزم الغرز , ولنعضّ على المنهج الصحيح .
وأخيــــراً , لعلي أختم بهذا الأثر الصحيح , متستخرجاً منه بعض الفوائد :
قال
البخاري - رحمه الله - ( باب عزم الإمام على الناس فيما يطيقون)
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير
عن منصور عن أبي وائل قال : قال عبدالله (ابن مسعود) رضي الله عنه : " لقد
أتاني اليوم رجل فسألني عن أمر ما دريت ما أرد عليه , فقال :
أرأيت رجلاً مُؤدِياً (أي أدى ما عليه) نشيطاً يخرج مع أمرائنا في المغازي ,
فيعزم علينا في أشياء لا نحصيها (أي يأمرهم بأشياء لا تطاق) , فقلت له :
والله لا أدري ما أقول لك , إلا أنا كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم , فعسى
أن لا يعزم علينا في أمر إلا مرة حتى نفعله , وإن أحدكم لن يزال بخير ما اتقى
الله . وإذا شكّ في نفسه شيء سأل رجلاً فشفاه منه , وأوشك أن لا تجدوه .
والذي لا إله إلا هو , ما أذكر ما غبر من الدنيا إلا كالثغب شُرب صفوه , وبقي
كدره " .
من الفوائـــــــــد :
أولاً :
عدم علم ابن مسعود الصحابي العالم الجليل رضي الله عنه , وعدم إفتاء من سأله
. بمعنى أن العالم ولو كان بلغ من العلم ما بلغ قد تشكل عليه مسألة أو أكثر
من مسائل العلم . فيتوقف . ولا يعتبر ذلك خوفاً أو مداهنة أو غير ذلك .
ثانياً : أن الإشكال قد يحصل للعالم
وفي أي وقت , ولا يلزم أن يفتي في كل مسألة .
ثالثاً : حب الصحابة للنبي صلى الله
عليه وسلم , وفعل ما يأمرهم به .
رابعاً : إن الخير والديمومة عليه ,
تكون في تقوى الله , وترك ما يغضبه سبحانه .
خامساً : إن مجرد الشك في أمر من أمور
الدين يوجب الرجوع إلى أهل العلم والراسخين فيه , وسؤالهم , حتى يزول الإشكال
. ويسير المرء على بينة من أمره .
سادساً : في قوله : وأشك أن لا تجدوه
. فائدة عظيمة , وهي ما يخص موضوعي هذا , وهي أنه إذا كان يوشك أن لا يوجد في
القرن الأول العالم الذي إذا سؤل أشفى , وهو أفضل القرون , فكيف بزماننا هذا
.. القرن الخامس عشر !! وقد كثرت الفتن حتى أصبح الحليم فيها حيراناً !! فلا
شك أن علماء هذا القرن , أقل بكثير من علماء القرن الأول . وبالتالي يجب أن
نفهم واقعنا اليوم فهما صحيحاً متأنياً . وأن نتلمس الأعذار تلو الأعذار
لعلمائنا لهول خطب ما يحصل اليوم من فتن متتابعة , كقطع الليل المظلم .
*** وتقبلوا تحية محبكم في الله : أسد الغابه
,,,
شبكة أنا المسلم
========================
يقول الإمام الذهبي - رحمه الله - في
ترجمة محمد بن نصر المروزي : ولو أنّا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد
المسائل خطأ مغفوراً له , قمنا عليه وبدعناه , وهجرناه , لما سلم معنا لا ابن
نصر , ولا ابن منده , ولا من هو أكبر منهما , والله هو هادي الخلق وهو أرحم
الراحمين , فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة .