بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحكمة العظمى من خلق الإنس والجن عبادة الله وحده لا شريك له , ولذلك
فقد جعل الله – تعالى - الدنيا مكاناً للابتلاء والاختبار ليميز الخبيث من
الطيب , إلى أن ينتهي الأمر بمفارقة الروح للبدن في مشهد حقيقي عظيم ذُكرت
تفاصيله في القرآن الكريم , ثم تبدأ الرحلة الحقيقية للإنسان إلى دار
الآخرة التي تبدأ بحياة البرزخ والتي تفصل بين الدنيا والآخرة.
ثم يأتي اليوم العظيم المهيب ألا وهو يوم القيامة , ذلك اليوم الذي تقشعر
منه الجلود , وتشيب منه الرؤوس , ولِـمَ لا ؟ فهو اليوم الذي تتبدل فيه
الأرض غير الأرض , وتضطرب السماء , وتتشقق الأرض , وتندك الجبال , وينخسف
القمر , وتتكور الشمس , وتنتثر الكواكب , وتسجَّر البحار وتشتعل ناراً.
ذلك اليوم يشهده الأولون والآخرون , ويحشر فيه الملوك والفقراء وغيرهم
حُفاة عُراة غُرلاً ، لا ينفعهم مالهم ولا جاههم ولا سلطانهم , وتستوي
الخلائق وليس بينهم وضيع الكل عبادٌ لله – تعالى - كما قال سبحانه : ((إِنْ
كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ
عَبْدًا)) , وقد وصف رسول الله – صلى الله عليه وسلم - حشر العباد في يوم
المعاد بقوله : ((يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حُفاة عُراة غُرلاً
كما قال تعالى :كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا
عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)) , فقالت عائشة – رضي الله تعالى عنها
- يا رسول الله : النساء والرجال فقال : ((يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر
بعضهم بعضاً)) , وتكون أرض المحشر في بلاد الشام كما وصفها رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – بقوله : ((يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء
كقرصة النقي ليس فيها علمٌ لأحد)) , وتكون الشمس قريبة من أهل المحشر كما
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ((تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق
حتى تكون منهم كمقدار ميل)) , ويكون عرق الناس في هذا الموقف على قدر
الأعمال كما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ((فيكون الناس على قدر
أعمالهم من العرق فمنهم ما يكون إلى كعبيه , ومنهم ما يكون إلى ركبتيه ,
ومنهم ما يكون إلى حقويه , ومنهم ما يكون العرق يلجمه إلجاماً)).
ويبدأ الحساب والجزاء بين الخلائق بالعدل والحق , يقول جل وعلا :
((وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكِتَابُ وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ)) , فلا تخفى صغيرةٌ ولا كبيرةٌ إلا أحصاها الله – تبارك
وتعالى - ويحاسب عليها العبد بين يدي أحكم الحاكمين.
وينصرف الخلق بعد الحساب والجزاء بالعدل والحق إلى الجنة أو النار اللتان
جاء وصفهما في كتاب الله العظيم وسنة رسوله – عليه الصلاة والسلام – فدعا
سبحانه إلى المسارعة إلى دار النعيم بقوله : ((وَسَارِعُوا إِلَى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)) , ووصفها رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
بقوله : ((قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن
سمعت ولا خطر على قلب بشر , قال تعالى : فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا
أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ)).
فالجنة أبوابها ثمانية فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة , ومن كان
من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد , ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب
الصدقة , ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريَّان , وقد يُدعى الإنسان
من جميع الأبواب التي بين مصراعي أحدها كما بين مكة وهجر.
والجنة فيها درجات فأعلاها الفردوس الأعلى الذي سقفه عرش الرحمن , وبناؤها
لبنة من فضة ولبنة من ذهب ومُلاطها المسك , وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ,
وترابها الزعفران , وفيها غُرف يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها ,
للمؤمن فيها خيمة من لؤلؤة مجوفة طولها ستون ميلاً في السماء , وفيها شجرة
يسير الراكب بجواده في ظلها مائة عام لا يقطعها , وفيها من الفواكة المنوعة
, وتذلل أغصان الأشجار للمؤمن إذا قعد أو اضطجع ويأكل من ثمارها وإذا قطع
ثمرة خرجت غيرها.
أهل الجنة آمنون من الموت والنوم والهرم والمرض والخوف , آمنون من كل ما
يُنغِّص وينقص نعيمهم , وفي الجنة أنهار من ماء غير آسن , وأنهار من لبن لم
يتغير طعمه , وأنهار من خمر لذة للشاربين , وأنهار من عسل مصفى , وفيها
ولدان مخلدون بجمالهم وانتشارهم في خدمة المؤمنين كأنهم اللؤلؤ المنثور.
والحور العين من نعيم المؤمن في الجنة فيُعطى قوة مائة رجُل في الجماع ,
وطوله وعرضه ستون ذراعاً , وجماله كجمال يوسف - عليه السلام - , وخُلقه
كخُلق محمد – صلى الله عليه وسلم – , وطوله كطول آدم - عليه السلام - ,
وعُمره كعُمر عيسى - عليه السلام – , وجمال الحورية وحُسنها لا يوصف
فيجامعها المؤمن فتعود بكراً , ومن صفاتها أنها متحببةً لزوجها , والحوريات
متساويات في الأعمار , ونصيف إحداهن من على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها
, ويُرى مُخ ساقها من سبعين حُلة , ولعابها لو قطرةٌ منه تسقط في الأبحر
المالحة لكانت عذبة زلالاً , وغيرها من صفات الحور التي اشتاق إليها
العُبَّاد والصالحون والمجاهدون والأولياء , وعلى هذا ينادي منادٍٍٍٍِ في
الجنة يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت , وأن لكم فيها أن تصحوا ولا تسقموا ,
وأن تحيوا فيها ولا تموتوا , وأن تشبُّوا فيها ولا تهرموا أبداً , وعلى هذا
فإن لأهل الجنة موعد في يوم الجمعة عندما تُعد لهم النجائب فيُحملون عليها
إلى مكان الموعد في الوادي الأفيح لمقابلة العزيز الحميد - جل وعلا - وهذا
هو أنعم النعيم والزيادة وقرة عيون المؤمنين , قال تعالى: ((وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)).
وفي المقابل حذَّر – سبحانه – الناس وخص أهل الإيمان بالتحذير من دار
الجحيم بقوله : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا
مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)).
النار دار رؤوس الكفر والنفاق , دار فرعون وهامان وقارون وأبي جهل وأُبي بن
خلف وغيرهم من الطغاة والفجَّار ؛ مكانها بعيدٌ في أسفل السافلين , لها
دركات أسفلها دار المنافقين , أشجارها كأنها رؤوس الشياطين , طعامها الزقوم
, قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ((اتقوا الله حق تقاته فلو أن
قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم)) ,
وطعامهم لايسمن ولايُغني من جوع , وإذا أكلوا ازدادوا عطشاً وبحثوا عن
الماء : ((وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالمُهْلِ يَشْوِي
الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)) , وإذا أراد أحدهم أن
يشرب من الماء سقطت فروة شعر رأسه ولحمة وجهه وتقطعت أمعاؤه وتمزق جلده
وانسلَ ما في بطنه وخرج من دبره وهو مضطرٌ على فعل ذلك : ((يَتَجَرَّعُهُ
وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا
هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ)) , وأما لباس أهل النار
فيتعذبون به وتشتد عليهم الحرارة والعذاب : ((سَرَابِيلُهُمْ مِنْ
قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ)).
النار حرها شديد , وقعرها بعيد , نارها تفوق نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً
, لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى , سوداء مظلمة , عذابها شديد ,
يتمنى أهلها الخلاص والراحة من العذاب ولو لحظة فينادون خزنة جهنم :
((ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ العَذَابِ)) , فترد
عليهم الملائكة : ((أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالبَيِّنَاتِ
قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إِلَّا فِي
ضَلَالٍ)) , فلا يستجاب لهم لأنهم لم يستجيبوا للرسل حينما دعوهم إلى الله
– تعالى - فكان الجزاء من جنس العمل فيقول أهل النار لله - عز وجل - :
((قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا
ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا
ظَالِمُونَ)) , فيقول الله - جل وعلا - لهم : ((اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا
تُكَلِّمُونِ)) , وعلى هذا يزدادون بؤساً وحسرةً وندامة : ((وَقَالَ
الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ
كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ
حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)) , وتعرف
النار أهلها من مكان بعيد : ((إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ
سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا)) , فتتقطع قلوب أهل النار وهم
يصطرخون فيها ويسألون وهم يعذبون : ((إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا
شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا
أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ
* قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ
اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ)) , وأشد
العذاب لأهل النار بأنهم لا يرون الله - جل وعلا -: ((كَلَّا إِنَّهُمْ
عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا
الجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ).
نسأل الله العلي القدير أن يأمِّنا يوم الفزع الأكبر ويجعلنا من الآمنين ,
ويظلنا بظله يوم لا ظل إلا ظله , وأن يرزقنا الجنة وما قرب إليها من قول
وعمل , ويجنبنا النار وما قرب إليها من قول وعمل , وصلى الله وسلم وبارك
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبوخلاد ناصر بن سعيد السيف
6 ذو الحجة 1434 هـ
https://twitter.com/Nabukhallad
|