اطبع هذه الصفحة


كم تعملت كثيراً من ذاك الطالب السابح عكس التيار !!

الدكتـور هشـام خوجلي


بسم الله الرحمن الرحيم


زارني على غير سابق موعد . ابتدرني بالسلام وقد علا محياه الابتسام . التمسني العذر على مجيئه بغير ما ترتيب مسبق . تبسّمت إليه بعد أن رددت عليه السلام قائلاً له بأن خدمات التوجيه والإرشاد التي تقدمها عمادة شؤون الطلاب ليست بحاجة لترتيب المواعيد في معظم الأحيان . نحن هنا من أجل الاستماع للطلاب ومن أجل السعي لخدمتهم. وبمجرد أن بدأ معي الحديث , علمت بأن الذي أمامي هو طالبٌ متميز بكل ما تعنيه الكلمة من معنى .

لم يخبرني بأن معدله الدراسي مرتفع جداً بل قالها بمنتهى البساطة والإيجاز والوضوح " لقد أحببت أن أستمع لاستشارتك في مدى سلامة ما أنوي القيام به قبل انقضاء فترة حذف مقرر أو أكثر عن طريق الإنترنت وقد درجت على أن أسجل 18 ساعة دراسية عند بدء كل فصل دراسي ثم أنظر للحلقة الأضعف لأقوم بتخفيض ساعاتي إلى 15 أو 14 ساعة بشرط أن يكون ذلك التخفيض ضرورياً بالفعل ... عندها زاد يقيني بأنني أمام طالب استثنائي .. بدأت بسؤاله عن تخصصه , وعن عدد الساعات التي درسها , وعن معدله التراكمي ... لم تُدهشني إجابته كثيرًا .. فهو ليس ببعيد عن التخرج وبمعدل مريح داخل مرتبة الشرف الأولى بعد أن تخصص في أحد المجالات الهندسية .. تناقشت معه في شأن المقرر الذي يريد حذفه وأسباب الحذف والقرار السليم الذي ينبغي اتخاذه , وصلت معه إلى تأكيد نفس ماكان يزمع فعله .. وماندم من استشار كانت بداية القصة لا أكثر .

لمّا أراد الانصراف بادرته بالسؤال عن موعد محاضرته القادمة وعن مدى استعداده للسماح لي بأخذ القليل من وقته ... أجابني بابتسامته التي تكاد لا تغيب بأن وقته يسمح ... وأن من دواعي سروره أن يمنحني من وقته القليل مؤكدًا بأنه حتمًا سيكون هو المستفيد بمنتهى البساطة قمت بالتماسه بأن يعطيني نموذجًا بسيطاً وهيكلاً عاماً لأحداث يومه الطبيعي العادي . حمل له سؤالي بعض المفاجأة لكنه استدرك قائلاً : وهل يستفيد القائمون بأمر التوجيه والإرشاد الطلابي من يوم عادي في حياة طالب جامعي ؟ أجبته : بأن التجربة قد علمتنا بأن الفائدة تكان تكون مضمونة في كلا الاحتمالين : فهو إن كان طالبًا مثالياً ومنظماً سنكون قد أخذنا شيئًا من خبرته الإيجابية لزملائه الآخرين ... أما إن كان يعاني من مشكلات العادات الدراسية الخاطئة فتجربته حتمًا مفيدة لنا إذ هي قد تنبئ بما قد يقع فيه غيره من مشكلات دراسية لا أدري كيف لي أن أسوق الكلمات والمعاني التي تضمنتها إجابته ... لكم تمنيت لو أنني قمت بتسجيل ما قال بنفس الحروف التي اختارها عسى أن يسمعها غيره من زملائه الطلاب لا لشيئ إلا لأنها قد تكون كلمات ملهمة للكثيرين منهم . ومالي من سبيل سوى الاجتهاد في تذكر بعض المعاني التي ساقها .. قال محدثي الذي أدهشني كثيرًا حينما ( وصف حياته بالحياة الطبيعية ) وشوّقني لمعرفة بعض تفاصيلها ...

قال ولاتزال البسمة تعلو محياه وقد يكون مادري بأنه قد علمني الكثير والكثير :
( بطبعي لا أحب التكلف ..ويقول زملائي عني بأني كائنٌ نهاري برغم أن حياتي تبدو لي طبيعية للغاية .. وأرى بأنها لم تتغير كثيرًا عما كانت تسير عليه وأنا في المرحلة الثانوية ... فمعظم عاداتي هي عاداتي ذاتها , ولا أرى تغيير العادات الإيجابية يجلب لصاحبه سوى التعب والعنت .. البرنامج الثابت أسهل إذا ماتم التغلب على مشكلة رتابة الروتين .. يسير يومي وفقاً لمبدأ السهل الممتنع .. أنام في وقت ثابت في المساء بشرط أن يكون عدد الساعات التي أنامها قبل أن يحين الفجر سبع ساعات متصلة ... نعم ساعات نومي في الغالب هي متصلة وفي ذلك إحساس بالراحة الجسمية والنفسية ... استيقظ في ذات المواعيد .. لا أحتاج لمنبه .. بعد صلاة الفجر تعوّدت أن آخذ 15 دقيقة لنفسي لأسعى لتمتين صلتي بخالقي .. ومن ثمّ أرتب سريري وأضع بعض اللمسات التنظيمية من حولي .. لأطالع بعدها بريدي الإلكتروني وأتصفح بعض المواقع التي تعرّفني على أهم الأخبار وأبرز الأحداث العلمية .. وأبادر بعدها لتذكير نفسي بأهم ماهو مطلوب مني خلال يومي ... متى تحين محاضراتي ؟ ماذا سأفعل في الفواصل التي بينها ؟ متى سأعود لغرفتي ؟ وغيرها من الأسئلة التي تحدد مسار اليوم الدراسي إجاباتها الدقيقة . وما إن تشرق الشمس إلا وأبادر بالاتصال الهاتفي بوالدتي .. لقد تعودت أن أتصل بها في كل صباح وقد لا يطيب لي يومي بغير سماعها وسؤالها الدعاء لي تعوّدت أن أسعى لكي أصل مكان محاضرتي قبل غيري وقد لا يطيب لي الجلوس في غير الصفوف الأمامية . عوّدت نفسي على عادة أرى بأنها وفرت لي الكثير من الوقت الذي أحتاجه للمذاكرة وهي أن أقوم بحل الواجبات المطلوبة مني في الفواصل التي بين المحاضرات . ما أن أعود لغرفتي إلا وأبادر بعد أن أتناول وجبتي الرئيسية لأخذ قسطاً من الراحة .. قد لا أنام حقيقة ولكنني أسترخي ولو لنصف ساعة .. تلك قد غدت إحدى عاداتي التي يتفق معي فيها زميل غرفتي الذي رافقني منذ دخولي الجامعة .. الانسجام والاحترام بيننا كبير فنحن من نفس المنطقة وإن لم تكن بيننا صلة رحم .
أخالك قد تراني في ضوء ما قلت لك تصفني بأنني شخصٌ منظم غير أنه جاد جدا .. كلا ليس الأمر كذلك ... يبدأ برنامج المساء عندي بشيء من دخول الإنترنت وأحياناً بعض الرياضة .. لقد تعوّدت أن آخذ فترة العصر كفترة حرة لا أذاكر فيها !! مذاكرتي اليومية على نحو ساعتين فقط في الفترة المسائية !!! )

عندها عقدت الدهشة لساني .. فبادرت بسؤاله بشيئ من الحماس : ( وكيف لك أن تكون طالباً في مرتبة الشرف وساعات مذاكرتك قي تكون في حدود 14 ساعة فقط في الأسبوع الواحد ؟؟ ) رد قائلاً : ( ومن قال لك بأنني أذاكر يوم الأربعاء .. بحسابك هذا هي 12 ساعة فقط !!! ) عندها بلغت دهشتي مبلغًا بعيدًا لا أكاد أصفه .. ولكن لوهلة واحدة لا أكثر .. إذ أدركت عندها أن سر الطالب الذي أمامي يكمن في يومي الخميس والجمعة! جاء رده ليؤكد ما ذهبت إليه ولكن ليس ببساطة المعسكر المقفول التي أقمته في صورتي الذهنية وحسبت أنه يقيمه عند كل نهاية أسبوع . مضى يحدثني الاستثنائي قائلاً :
( نظرتي للخميس والجمعة تقوم على حقيقة واحدة وافتراض واحد : الحقيقة هي أنني أعتبرهما خلال النهار وكأنهما يومين دراسيين عاديين .. بلى فقد تعودت أن أذاكر فيهما بمسؤولية أكبر .. ولم أن تصدق أن الفترة من الفجر إلى الظهر قد تمتد إلى سبع ساعات .. ذلك هو وقتي المفضل للمذاكرة الجادة وأرى أن تلك الساعات التي أذاكر فيها وغيري نائم هي التي تأتيني بالفرق الذي قد تراه بيني وبينهم من حيث المعدل الدراسي !! لقد تعلمت أن النجاح يعني أن تضحي ببعض القليل الذي تحب .. ولو بأن تسبح عكس التيار !! أما الافتراض فيقوم على تقدير الوضع بحسب معطياته الحقيقية في الفترة المسائية .. ففي غير أيام الاختبارات تبدو الأمسيات في هذين اليومين وكأنها فترة للراحة وبعض الترفيه .. أما في أيام الاختبارات فتتحول إلى مزيج من الترفيه البسيط والحياة الجادة!!)
عندها أدركت لماذا وصف محدثي حياته الدراسية بالحياة البسيطة القائمة على مبدأ السهل الممتنع !! وعندها لم أجد بداً من أسميه ( الطالب السابح عكس التيار ) ولاسيما في ما يتعلق بتعوده على الاستمتاع بالمذاكرة حينما يكون غيره من الطلاب نائمين !! وقد خرج مني ذلك الطالب الرائع وقد علمني درساً أحتاج لنقله لغيره من الطلاب .. تعلمت بعدها أن أبدأ كل طالب قد يعاني في مجال العادات الدراسية بسؤاله عن : متى تنام ؟ متى تصحو ؟ متى تذاكر ؟ فهي أسئلة بسيطة كاشفة عن نوع وحجم المشكلة .. وتعلمت كذلك أن تكون كائناً طبيعياً توازن بين أعمالك المطلوبة وحاجاتك التي تنتظر .. من قال أنّ الروتين شيئ ممل للطالب الجامعي ؟ ومن قال إنه سيحرمه حتماً من إراحة نفسه ساعة بعد ساعة ؟ ومن قال إن البرنامج المنظم الثابت لا يصنع الفرق ؟ ألا بارك الله في ذلك السابح عكس التيار فقد تعلمت منه الكثير!!
 

الدكتــــور هشـام خوجلي
قســــم الدراســات العامة
الاستشاري النفسي بمركز التوجيه والإرشاد



• هذه المقالة من محتويات مجلة جامعة الملك فهد للبترول والمعادن ( العدد السنوي 1434 هـ - 2013م )


 

رسائل دعوية

  • رسائل دعوية
  • معا على طريق الجنة
  • الصفحة الرئيسية