اطبع هذه الصفحة


الهَمَلَّع النَّغِل

عبدالعزيز سالم شامان الرويلي


بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعدُ:
فإنَّ من الصِّفاتِ القبيحة التي يتَّصف بها بعضُ الأصدقاء صفةَ "الحقد"؛ ولذلك جاء هذا المقال السابع من سلسلة: [الصديق القبيح وقبيح الصداقة].

فحديثي عن (الهَمَلَّع النَّغِل)، وهو: الصديق الحقود الذي تمتلئ نفسُه من ذلك المرض العُضال، ألا وهو: الحقد.

▪ (الهَمَلَّع): هو اسم من أسماء الجمل، وكما هو متقرَّر أن الجمل من صفاته أنه حقود، وهذه الكلمة تُقال لكل من لا وفاء له، وخدَّاع، وسريع في بغضه وحقده.
▪ (النَّغِل): هو الحقود؛ ففي اللغة يُقال للرجل الحقود: نَغِل.

أما معنى الحقد اصطلاحًا:
فهو إضمار الشر للجاني إذا لم يتمكَّن من الانتقام منه، فيُخفي ذلك الاعتقاد إلى وقت إمكان الفرصة[1].
وقال الجرجاني: "الحقد هو: سوء الظَّنِّ في القلب على الخلائق لأجل العداوة"[2].

وكما هو معلوم أن الشارع قد حذَّر من هذه الصفة، وذمَّ أصحابها، ومدح من لا يحملون في صدورهم حقدًا ولا غلًّا على مسلم؛ ولذلك قال عز وجل: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾ [الحجر: 47، 48].

قال الطبري: "وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وصَف صفتَهم، وأخبر أنهم أصحاب الجنة - ما فيها من حقد وغِمْرٍ وعداوة كان من بعضهم في الدنيا على بعض، فجعلهم في الجنة إذا أدخلهموها على سُرُرٍ متقابلين، لا يحسُد بعضهم بعضًا على شيء خصَّ الله به بعضهم وفضَّله من كرامته عليه، تجري من تحتهم أنهار الجنة"[3].

وقال القرطبي: "ذكرَ اللهُ عز وجل فيما يُنعِمُ به على أهل الجنة نزعَ الغلِّ من صدورهم، والنزع: الاستخراج، والغل: الحقد الكامن في الصدر، والجمع: غِلال"[4].

وقال السعدي: "وهذا من كرمه وإحسانه على أهل الجنة؛ أن الغل الذي كان موجودًا في قلوبهم، والتنافس الذي بينهم؛ أن الله يقلعه ويُزيله حتى يكونوا إخوانًا متحابِّين، وأخلَّاء متصافين ...، ويخلق الله لهم من الكرامة ما به يحصُل لكل واحد منهم الغِبطةُ والسرور، ويرى أنه لا فوق ما هو فيه من النعيم نعيم، فبهذا يأمنون من التحاسد والتباغض؛ لأنه قد فُقدت أسبابُه"[5].

عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: ((كلُّ مَخْموم القلب صدوق اللسان))، قيل: صدوقُ اللسان نعرفُه، فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التَّقيُّ النَّقيُّ، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غلَّ ولا حسد))[6].
إن قلب الحاقد كسواد الليل مملوءٌ بالكره والبغض والغل، يكره الناس ولا يحبهم، وهدفُه زرعُ الكره ونشره بينهم، ومُنْيتُه أن يكون سببًا في نفور الناس بعضهم عن بعضٍ.
ولذلك فالحاقد يُخفي كل شيء في نفسه إلَّا الحقدَ؛ لأنه لا يستطيع إخفاءه عن الناس، فيظهر حقدُه من كلماته، ونبرات صوته، وتقاسيم وجهه.

لأن الحقد حِملٌ ثقيل يُتعِب حاملَه؛ يحمله الجاهل في صدره فيُشقي به نفسَه، ويُفسد به فكره، ويشغَل به باله، ويقضُّ به مضجعه، ويُكثر به همَّه وغمَّه، إنه كحملٍ من أحمال الشَّوك الملتهب الحارِّ المحشوِّ بصخور ثقيلة مُحْماة تنفُث السموم التي تلتهب منها الصدور، ويظلُّ الجاهل الأحمق يحمل هذا الحمل الخبيث مهما حلَّ أو ارتحل، حتى يُشفي حقده بالانتقام ممَّن يحقد عليه[7].

والإسلام يحارب الأحقاد، ويقتل جرثومتها في المهد، ويرتقي بالمجتمع المؤمن إلى مستوى رفيع من الصَّداقات المتبادَلة، أو المعاملات العادِلة، وقد اعتبر الإسلام من دلائل الصغار وخِسَّة الطبيعة أن يرسُب الغل في أعماق النفس فلا يخرج منها؛ بل يظلُّ يموج في جوانبها كما يموج البركان المكتوم، وكثيرٌ من أولئك الذين يحتبِس الغل في أفئدتهم، يتلمَّسون متنفَّسًا له في وجوه من يقع معهم، فلا يستريحون إلَّا إذا أَرْغوا وأَزْبدوا، وآذوا وأفسدوا[8].
الحقد داءٌ دفينٌ ليس يحملُه 
إلا جَهولٌ مليءُ النفس بالعِللِ 
ما لي وللحقدِ يُشقيني وأحملُه 
إني إذًا لغبيٌّ فاقدُ الحِيَلِ 
سلامةُ الصدر أهنا لي وأرحبُ لي 
ومَرْكَبُ المجد أحلى لي من الزَّللِ 

آثار الحقد على النفس:

1- الحقد يثمِر الحسد، وهو أن يحملَك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عن من تحقد عليه فتغتمُّ بنعمة إن أصابها، وتُسرُّ بمصيبة إن نزلت به.
2- الشماتة بما أصابه من البلاء.
3- الهجران والمقاطعة.
4- الإعراض عنه استصغارًا له.
5- التكلُّم فيه بما لا يَحلُّ؛ من كذب، وغِيبة، وإفشاء سرٍّ، وهتك ستر، وغيره.
6- محاكاته استهزاء به وسخرية منه.
7- إيذاؤه بالضرب وما يؤلم بدنه.
8- منعه من حقه من قضاء دَيْن، أو صلة رحم، أو ردِّ مظلمة.
9- الحقد من مظاهر دنوِّ الهمَّة؛ فهو لا يصدر من النبلاء، ولا يليق بالعقلاء.
10- الحقد ينبت سوء الظَّنِّ، وتتبُّع العورات، والهَمْزَ واللَّمز، والغيبة والنميمة.
11- ومن مضار الحقد - أيضًا - أنه يقتضي التَّشفِّي والانتقام.
12- جَحْدُ الحق وعدم اتباعه.

وأخيرًا:

"أخي، لا تحقدْ على أحد؛ فالحقد ينال منك أكثرَ مما ينالُ من خصومك، ويُبعد عنك أصدقاءك، كما يُؤَلِّبُ عليك أعداءك، ويكشف من مَسَاويكَ ما كان مستورًا، وينقُلك من زُمرة العُقلاء إلى حُثَالةِ السُّفهاء، ويجعلك تعيش بقلب أسودَ، ووجه أصفر، وكَبدٍ حَرَّى، ولنتذكرْ دائمًا" هذه الآية ونتدبرها، ونجعلها نُصْبَ أعيننا، ونستشعر هذا الأجر العظيم الذي ينفعك يوم القيامة بسبب سلامة قلبك؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾[الشعراء: 87 - 89].

------------------------------
[1] تهذيب الأخلاق؛ للجاحظ (ص 33).
[2] التعريفات؛ للجرجاني (ص 91).
[3] جامع البيان؛ للطبري (12/ 438).
[4] الجامع لأحكام القرآن؛ للقرطبي (7/ 208).
[5] تيسير الكريم الرحمن؛ للسعدي (ص 289).
[6] رواه ابن ماجه (4216)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (59/ 451)، وصحح إسناده المنذري في "الترغيب والترهيب" (4386)، والألباني في "السلسلة الصحيحة" (948).
[7] الأخلاق الإسلامية؛ لعبدالرحمن الميداني (1/ 723).
[8] خلق المسلم؛ لمحمد الغزالي (ص 74 - 77) بتصرف يسير.


 

رسائل دعوية

  • رسائل دعوية
  • معا على طريق الجنة
  • الصفحة الرئيسية