اطبع هذه الصفحة


(الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي، يوجه من استفتى عالمَـين، ولم يدرِ بأي القولين يأخذ..)


بسم الله الرحمن الرحيم
 

(الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي، يوجه من استفتى عالمَـين، ولم يدرِ بأي القولين يأخذ..)

الجواب للشيخ محمد المختار الشنقيطي - الفقيه المدني المعروف- المدرس بالحرم النبوي -

إذا سأل طالب علم أحد العلماء وأفتاه ثم سمع من عالم آخر فتوى تختلف عن فتوى العالم الأول وطالب العلم يثق في علم العالمين فماذا يصنع وبأي فتوى يأخذ ؟

الجواب :
بسم الله ، الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أمابعد :
فقد اختلف العلماء-رحمهم الله- في هذه المسألة إذا اختلف العالمان :

إما أن يكون الذي سمع القولين من العالمين يمكنه أن يميز بين العالمين في الفتوى بأن يتتبع الأدلة وينقل إلى هذا أدلة هذا دون أن يقول : فلان يفتي بغير قولك ؛ لكن يقول : يا شيخ ما هو الجواب عن حديث كذا أو عن آية كذا أو عن دليل كذا ؟ والشيخ يجيبه ، ثم ينقل جواب هذا حتى يستطيع أن يصل إلى القول الراجح أو يتبين له القوة والحجة في أحد القولين فحينئذٍ إذا كان طالب علم يمكنه التمييز لا إشكال أنه يميز ويسأل هذا العالم عن دليله ويسأل العالم الثاني عن دليله دون أن يحدث فتنة .

وبالمناسبة :

اسوأ ما يكون من آفات العلم النميمة بين أهل العلم ، وويل ثم ويل لمن نَمَّ بين العلماء ، الذي يأتي إلى عالم ويأخذ فتوى ، وأحذر أحذر كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر من عذاب في القبر للنمامين وأعظم النمامين من نّمَّ بين العلماء وأفسد ما بينهم ، فتجده يحضر لدرس شيخ أو يحضر مجلس شيخ أو يزوره في المناسبات ، ويطعم من طعامه ويتحرم بشرابه ، ولربما يكون منتفعاً به ، أو يلبس عليه ويخدعه ويجلس في مجلسه والله يعلم أنه يسمع الآيات والأحاديث ، ثم يقوم-والعياذ بالله- مطموس البصيرة سقيم القلب-والعياذ بالله- لكي ينقل ما يعارض به غيره من العلماء فيأتي إلى شيخ ويقول له : فلان يقول بغير قولك ، وهكذا يتنقل من شيخ إلى آخر ، ويظن المسكين أن الأمر سدى ، وأن الكون عبث ، وأنه ليس هناك رب يؤاخذه في دينه ودنياه وآخرته ، كم من أمثال هؤلاء رأيناهم حينما كان مشايخنا وعلماؤنا يقطعون أواصر الحب فقطع الله أواصرهم في العلم ، فو الله ثم والله لقد رأينا من سوء العاقبة لهم في علمهم وتعليمهم ما هو أعظم زاجر لكل من يخاف الله -عز وجل والدار الآخرة ، فعلى المسلم أن يخاف من الدار الآخرة حينما يحاسبه الله عز وجل عن هذه الفتن والمحن التي توغر الصدور ، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من عذاب القبرين قال : (( أما هذا فقد كان يمشي بالنميمة )) وبعضهم يجلس في مجالس الدعاة والهداة إلى الله في محاضراتهم وينقل كذلك أقوالهم لدعاة آخرين في المحاضرة فيقول : هو يقصد من كلامه كذا ، فلينتظر هؤلاء لينتظر عقوبة الله العاجلة والآجلة إن لم يتأدبوا ويلتزموا بالشرع ، وهذا لا يظن البعض أقسم بالله العظيم ما قصدت به أن أحداً ينقل حديثي ، فوالله لا أبالي بأحدٍ أقبل فضلاً عمن أدبر ، لكني أقول هذا ؛ لأنه يشتكي منه كثير من الدعاة والأخيار والصالحين ، وكنا نعاني ويعاني منه علماء أفاضل في أزمنة ماضية ، وعلى هذا نحذر .

ينحدر من هذا الأمر العظيم أنه إذا اختلف عالمان في مسألة ، كان أحد العلماء من أفاضل العلماء وله مكانة ومنـزلة ، وكان بعض العلماء ينشؤن في زمانه لهم مكانة ومنـزله ، فكان بعض الحساد يأتون إلى هذا العالم الجليل ويقولون له : فلان يفتي في المسألة الفلانية بكذا ، والعالم يرجح خلافه ، ثم يرسلون له رجلاً ثانياً ثم ثالثاً ثم رابعاً حتى يحسوه أنه كالعدو له ، وهذا لا شك أنه يجب على العلماء ويجب على المدرسين والمعلمين أن لا يقع هذا فقط بين العلماء بين المعلمين بين المدرسين حتى في التحفيظ يأتي شاب ويرى معلماً ومدرساً على طريقة يختلف مع آخر فينقل له أنه على خلاف طريقته وأن فلاناً أفضل منك ؛ لأنه يذهب بطلابه إلى كذا ، كل هذا من النميمة ، كل هذا مما يفسد الصدور ويوغرها على بعضها ويوجب الشحناء والبغضاء والذي يريد أن يتقحم نار الله على بصيرة وعذاب الله على بصيرة فليفسد ما بين المسلمين من الود والحب فنحذر أمثال هؤلاء من عقوبة الله العاجلة والآجلة ، فإذا رأيت خلافاً بين عالمين فلا تدخل بينهما فإن من دخل بينهما بالإفساد قطع الله دابره وقصم الله ظهره وشتت أمره ، ولذلك لا يفلح هؤلاء ولا يوفقون ولا يسددون وقد يستدرجهم الله عز وجل فيكون لهم مثل يبتلوا بما ابتلى به غيرهم من الدعوة والتدريس والتحفيظ ، فيسلط الله عليهم طلابهم مثل ما تسلطوا على غيرهم جزاءً وفاقاً ، فنحذر من هذه الآفات ، فإذا نقل قول العالم المخالف إلى غيره ينقله بطريقة لا تفسد القلوب يقول له : يا شيخ العلماء اختلفوا في مسألة كذا وكذا ، وهناك حديث بكذا ، هناك آيه يستدل به البعض ما هو الجواب ؟ فيجيب هذا بالنسبة لمسألة إذا أمكن طالب العلم أن يصل إلى القول الراجح .

لكني ينبغي أن ننبه على مسألة وهي أن طالب العلم ينبغي عليه أن ينحصر في شيخ يثق بدينه وأمانته حتى يتم الفقه وحتى يتم علم الحديث في الأحكام ؛ لأنه لو بدأ بهذه الطريقة سيضيع عليه وقته ؛ لأنه سيدخل في مناقشات وردود وأخذ وعطاء ، وكم من أدلة هي صحيحة وقوية لكن لم يحسن العالم تصويرها ، ومن هنا كان التابعون يجلسون مع الصحابي حتى يتقنون ما عنده ، ثم ينتقلون إلى غيره ، فأوصى طلبة العلم ألا يدخلوا في هذه الخلافات حتى ولو خالف الغير فأنا أتبع شيخي حتى أضبط وأستطيع أميز ، نعم إذا ميزت لزمتك الحجة أما قبل التمييز الآن فتضبط تضبط المسائل ولا تلتفت إلى الخلاف ؛ لأن الخلاف لا ينتهي ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرفوا في الأمصار ، فإذا ضبطت الفقه كاملاً وانتقلت إلى مرتبة النظر في الأدلة ، ضبط الفقه كاملاً العلم بالأحكام ، بعد ما تضبط هذا تنتقل بعد ذلك إلى أدلة الأحكام وضبط الدلالات قوة وضعفاً ، ومن هنا قد تجد هذه الدلالة ضعيفة في موضع ، قوية في موضع آخر ، وأنك إذا أخذت بها في هذا الموضع عزيمة واجب عليك أن تأخذ بها ، رخصة في موضع آخر ، هذا أمر لا يستطيع الإنسان أن يدركه ، كم كنا مع مشايخنا نسمع من أقوال تخالف ثم لما توسعنا في الأدلة كنا نعجب من مخالفة مشائخنا للأقوال هذا فلما تبين لنا الحق وجدنا أن مشائخنا على الصواب في كثير من المسائل ، وليس هذا تزكية لهم ، بل هذه هي الحقيقة والحمد لله وجدنا أنهم قالوا قولهم بأدلة كنا لم نستوعبها أثناء الطلب ، فلما توسعت المدارك عذرناهم ، وأيضاً كانوا يردون لنا بعض المناقشات وكانت عقولنا لا تستوعب ذلك من الأدلة العقلية الدقيقة المبنية على الشرع فكنا نقول : هذه دلالة عقلية ، يعني ما نظن أنها تقوى على النص ، فلما درسنا النصوص ودلالالتها ومراتب الدلالة ودرسنا الأدلة العقلية المستنبطة من الشرع إذا تعارضت مع مفاهيم مستنبطة من الأدلة ؛ لأنه قد يأتيك مثلاً ويستدل بدليل من باب المفهوم لا من باب المنطوق ، والمفهوم هو اجتهاد من الفاهم وتكون الدلالة العقلية قياس على أصل ، وحينئذٍ عند من يقوم بتقديم القياس على المفهوم يكون قياسه في بعض الأحيان أقوى ، إذاً إذا حصل الخلاف وأمكن طالب العلم أن يميز ميز ، وأما إذا لم يمكنه التمييز وجد مثل العامي وجد عالماً يفتي وعالماً يفتي فإما أن يكون العامي يستطيع أن يرجح بصلاح الرجل وتقواه وشهادة الناس له بالخبرة ، فوجد أن هذا العالم أشهر وأنه ابتلي بهذا العلم أكثر ونفعه أكثر فيثق فيه أكثر ؛ لأن هذه كلها مرجحات ؛ لأن إقبال الناس على العلم أكثر من الغير هذا قبول من الله ، والمراد بإقبال أهل الشأن وليس إقبال العوام ؛ لأن المتساهلين في الشرع يكون إقبال الناس عليهم أكثر ، ومن هنا قد يكون الذي يفتي يتساهل في أمور الشرع ، ما شاء الله مثل ما قالوا : سوقه ماشي ، هذا هو العالم عند العوام ؛ لأن العوام لا يريدون حرامًا ، شيء فيه حرام ما يقتربون منه ، فتجدهم ينفرون من العالم الذي يأخذهم بالشرع ولا يتساهل في دينه ، فإذا وجد من يعني ليس من أهل العلم ولكن ممن يتسمى بالعلم ويأخذ بالفتوى ويشتهر قد يكون قليل العلم قليل البضاعة ، فمثل هذا لا يرجح بينه وبينهم ، وهذا ليس من الترجيح ، إنما الذي ذكره العلماء في الأصول في الترجيح بين القولين المتعارضين عند استواء الأدلة قالوا : إنه يرجع إلى صلاح العالم واستقامته وشهادة الناس له ، أما الصلاح والاستقامة ؛ فلأن الفقه هو الفهم عن الله ورسوله ، وإذا كان الشخص أكثر خوفاً وورعاً كان أكثر بصيرة وفرقاناً من الله عز وجل { إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً } فهو أقرب إلى الحق ، وهذا نص عليه الأئمة أن الذي يخاف الله ويتقيه ويرجوه أكثر في حفظ الأمة والنصح لها والبعد عنها عن التساهل والتلاعب في أمور الدين ، شريطة أن لا يصل إلى حد الغلو والتضييق .

كذلك - أيضاً - مما يرجح به شهادة الناس أن شهدوا لفلان بأنه مبرز في الفقه أو شهد له العلماء المختصون بالفقه أنه أكثر ضبطاً ، كما كنا أيام الطلب كنا نسأل بعض مشايخنا فيقولون : فلان أكثر فقهاً وإنه لأفقه من فلان ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( أنتم شهداء الله في الأرض )) إذا شهد العلماء أو درس الاثنان أو الثلاثة على عالم وشهد أن فلاناً أفقه من فلان ، فهو أعلم بطلابه وأكثر معرفة بهم ، فهذه من المرجحات أن يوجد ما يوجب الترجيح ، إذا لم يوجد ما يوجب الترجيح واستوت الكفة من جميع الوجوه ، فاختلف العلماء-رحمهم الله- على ثلاثة أقوال :

1- القول الأول أنه يقدم العزيمة ، فإذا تعارض عنده حلال وحرام يقدم الحرام ؛ لأنه صيانة للدين وحياطة للدين ومن هنا يكون الأمر مشبتهًا ، فيتورع ، يمتنع كما أن المشتبهات ؛ لأنه أشبه بعضها بعضاً فإنه ألزمنا الشرع بالرجوع إلى الورع والكف عن الشيء (( إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات )) فهنا لا تبين أنه حلال ولم يتبين أنه حرام فيرجع إلى العزيمة ويحتاط .

2- ومنهم من قال : يأخذ بأخف القولين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ؛ ولأن الشريعة شريعة رحمة وتيسير وقال صلى الله عليه وسلم : (( إنما بعثتم ميسيرين ، ولم تبعثوا معسرين )) وقال : (( أن خير دين الله أيسره )) فقالوا : يأخذ بالأخف من القولين ؛ ولأن اليقين أنه غير مكلف وبراءة ذمته حتى يكلف فرجحوا جانب اليسر .

3- ومنهم من قال : يخير بين الأمرين على السواء ، إن شاء أخذ بهذا القول ، وإن شاء أخذ بهذا القول وأخرج النصوص وجعلها في موضعها ولم يقحمها على هذا الموضع ، ولا شك إن أخذ بالاحتياط فهو أسلم لدينه وأورع فيأخذ بأحوط القولين ، وأن أخذ بالتساهل فله وجه من الدليل ، ولا بأس عليه ولا حرج ، والله- تعالى - أعلم .


 

رسائل دعوية

  • رسائل دعوية
  • معا على طريق الجنة
  • الصفحة الرئيسية