اطبع هذه الصفحة


صلة الأرحام... بركة للأنفس وللأسر هناء

د. عبدالله بن معيوف الجعيد
ammg96@gmail.com


بسم الله الرحمن الرحيم
 


إن العديد من الأسر والعائلات لا تعد سوى مجرد هياكل أسرية من السهل هدمها، نظراًللفرقة التي تسود أفرداها، وهناك عائلات أخرى تحرص على توطيد معاني الاجتماعالأسري بينهم وهو ما يجعل أفرادها أكثر تماسكاً، ويمنح كافة أعضائها فرص تبادلالخبرات والتجارب الحياتية والاجتماعية، ويشعرهم بالانتماء، ويرسخ فيهم معانياللحمة والاعتصام والإخاء التي تعد من أبرز المعاني المثمرة من اجتماع الإخوة وصلةالرحم والأقرباء.

إن صلة الأرحام تعد من أجل العبادات والقربات إلى الله عز وجل وأتقاها، ومن أعلىالطاعات منزلة، وأعظمها أجراً وبركةً، وأعملها نفعاً في الدنيا والآخرة، فأي صلة رحم ماهي إلا حاجة فطرية وضرورة اجتماعية وحياتية تستوجبها الطفرة السليمة، وتميلنحوها الخصال القويمة، بها تنتشر المحبة ويسود الأنس والمودة، وهي دليل الكرموعلامة المروءة، تكسب الأخوة والأفراد والأسر منعةً وعزةً وهيبة، لذا يتنافس فيها الكرامأولوا الأرحام، فيصلون إخوانهم وأخواتهم ومن قاطعهم ويقدمون لمن منعهم، ويتجاوزونعمن فيه جهلٍ، وهل للمروءة أن تتجلى إلا من خلال رحم موصولة وطاعات معمولةوحسناتٍ مبذولة وهفوات محتملة وأعذار مقبولة؟

إن صلة الأرحام عامة والأهل والأخوة خاصة واجتماعهم فيه تقوية للمودة وزيادةللمحبة، وشدٌ لعرى القربى، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالإحسان للرحم ووصلهم، ووعدالممتثلين لأمره جل وعلى بالثواب الكبير والنعيم الوفير فقد قال: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَاللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [سورة الرعد: آية 21]. وقالأيضاً {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى} [سورة النساء:آية 36]؛ فالإسلام حريص على بناء مجتمع تملؤه الأسر المتراحمة والمتعاطفة والمتلاحمةالتي تخييم عليها أسمى معاني الوحدة والمحبة، والعطاء والإخاء، والفلاح والصلاح،والسناء والبهاء. ومن إجلال الله لشأن صلة الرحم أنها قد أٌقرنت مع إفراد الله بالعبادةوالصلاة والزكاة، فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُبِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ) [متفق عليه].

كما قد أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مستهل قدومه إلى المدينة فعَنْ عَبْدِ اللَّهِبْنِ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، وَقِيلَ: قَدْ قَدِمَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، ثَلَاثًا، فَجِئْتُ فِيالنَّاسِ لِأَنْظُرَ فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُتَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوابِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ) [رواه الترمذي].

وفي المقابل فقد حذر الله تعالى شديد التحذير وتوعد بالعقاب لقاطعي الرحم فقال تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُفَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [سورة محمد: آية 22-23]. وبدوره فقد حذر رسول الله صلىالله عليه وسلم أيضاً من جزاء قاطع الرحم ومصيره فعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّىاللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ رَحِمْ) [متفق عليه].

ولا يقف أجر تقارب الأخوة واجتماعهم وصلة الرحم بينهم وبين والديهم على الأجروالثواب في الحياة الآخرة، وإنما هي أيضاً سببٌ في تيسير الأمور في الحياة الدنيا،كما أنها تزيد من بركة الرزق وبركة العمر، وتعد سبباً فاعلاً في نشر الألفة والسعادةوالتآخي بين الناس، فهي ترسي دعائم الحب في القلوب وتزيد من تواصل الناس فيمابينهم، فتغدو العلاقات أكثر ألفة ومودة، وتعزز من أصول الترابط العائلي والأسري،وبعكس ما هو متعارفٌ عليه عند الناس، فإن صلة الرحم ليست على الرجل وحدة، بل هيواجبة على المرأة أيضاً، ويجب أن تكون هذه الصلة متبادلة وأن يبادر كل شخصٍ بزيارةالآخر والاطمئنان عليه، خصوصاً زيارة الأصول من الأرحام كالأخوة والأخوات والأعماموالعمات والأخوال والخالات، علماً أن أقرب الأرحام هما الأم والأب، الذين لهم حق الصلةالأكبر والأعظم أجراً.

وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْوَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ) [رواه مسلم]؛ فالقطيعة للأرحام سببٌ للقطيعةمع الله تعالى لذا فإن لصلة الرحم شأنٌ كبيرٌ جداً، وإلا الله تعالى لما كان قد أمر بها فيأكثر من آية، كما أن الله صوّر تقطيع الأرحام بأنه إفسادٌ في الأرض، لأن فيه كسرٌ للخواطروالقلوب، بعكس صلة الرحم التي تُدخل الفرح والسرو وتُعطي الشعور بالأمانوالاطمئنان، ولهذا فإن الإيمان لا يكتمل إلّا بصلة الرحم، ولا يكون المؤمن مؤدياً لواجباتهالدينية بشكل كامل إلا إذا كان واصلاً لرحمه، فالصلة ليست خياراً بل هي واجبٌ دينيواجتماعي وأخلاقي، ومن يبادر بها أولاً فله الأجر والثواب العظيم.

وصِلة الرحم لا تكون بتبادل الزيارات وطرق أبواب البيوت فحسب، بل تكون باستضافةالوالدين والأخوة والأقرباء في البيت أحسن استضافة وأمثل استقبال، وبتفقّد أحوالهم،وبمهاتفتهم، وبالسؤال عن أخبارهم، وبمنحهم من أموال الصدقات الزكاة، ومن خلالتمييزهم عن الآخرين من الناس وإعلاء شأنهم قدرهم بينهم؛ لأنّ القريب أحق وأولىبالصدقة والإحسان من الغريب، وكذلك من الواجب احترام وتقدير كبير العائلة والأقارب،والعطف على صغيرها، ومعاملتهم بالإحسان والمعروف، ومشاركتهم الأتراح والأفراح،وعيادة مرضاهم، والسير في جنازة متوفاهم، وتلبية دعواتهم في الفرح وما سواه،وإصلاح ذات بينهم، وعدم الحقد عليهم، والدعاء لهم بالخير والفلاح، ودعوتهم إلى دروبالإيمان والصلاح، وأمرهم بالمعروف ودرأهم عن المنكر.

وما أحوج الأخوة في أيامنا هذه التي بات فيها كلٌ ابن آدم فيها لاهثاً خلف متاع دنياهوسعادته، دون موازنتها بالإعداد لمقره الأخير وآخرته، في زمن بات كلٌ منهم راكضاً خلفأرزاقه ومقصراً في وصل رحمه وأقربائه، أن يعمدوا على الاجتماع بينهم سواء في كنفوالديهم وتحت جناحهم، أي في حياتهم، وحتى بعد مماتهم، لتغدو بذلك جمعتهم لحمةواحدة عتية البنيان، راسخة الأركان، تجسد أنموذجاً في التعاضد والتراحم تطرب بسيرتهالأعين والآذان؛ ففي تقارب الأخوة وتراحمهم وتجاوزهم عن مشكلاتهم الكثير من الفضلوالصلاح في الدنيا والآخرة، وهي لهم سببٌ في التقدم والنجاح، والسعادة والفلاح. كماأن لهذا التقارب والاجتماعي الأسري والعائلي الشأن الكبير في تحقيق الصلة والبروتسهيل سبلها من التقارب والتعارف، التعريف بالأسرة وبتاريخها ورصد وحفظ وثائقهذا التاريخ لتحديد معالم الأسوة والقدوة للأسرة، وتحقيق التعاون والتكافل علىمصاعب الحياة وحل معيقاتها ومشكلاتها، وجمع الكلمة وتوحيد الرؤية بالسناء والإخاءوالتسامح والإصلاح، وتوفير السبل والوسائل للتوعية وللتربية عبر البرامج المختلفة،والإفادة من تجارب كبار السن وأهل الخبرة وتخصصاتهم المتنوعة، واكتشاف طاقاتومواهب شباب وشابات الأسرة وقدراتهم وإبرازها واستثمارها بما يخدم الأسرةوالمجتمع، وتكريم المتميزين من الأسرة في شتى المجالات، ودراسة المشكلات الفرديةوالاجتماعية التي تواجه بعض أفراد الأسرة وتعيق توافقهم والاجتماع على معالجتها،وبناء الكيانات المادية والروابط البشرية التي تعمل على تحقيق الاستمرارية والإرثوالمكانة والسبق للأسرة في العلم والدعوة وتعزيز الصلة والبر بالرحم والقربى، وليكونوابذلك قدوة لأجيالهم القادمة.


 

رسائل دعوية

  • رسائل دعوية
  • معا على طريق الجنة
  • الصفحة الرئيسية