بسم الله الرحمن الرحيم
فى أيام معدودة احتبست انفاس العالم مع الإستشراء السريع لـ ( فيروس كورونا
) المستجد “ كوفيد - 19 ” ، و اتسعت دائرة المواجهة الدولية و الوطنية للحد
من خطورته و الحيلولة دون الإصابة به .
و هذه وقفات متأملةلهذه " الجائحة " بحسب التصنيف الصحب الدولي نقرأها
كالتالي :
١ - عظمة و قهر الربوبية :
إن من أعظم الدروس المستفادة أن العباد محفوظون بكلأ الله و رعايته و
مقهورون بعزة الله الرب تعالى و قهره و أنهم لا يسوون شيئاً أمام ملكوت
الله فى هذا الكون العظيم ، فما أحقر الإنسان و ما أكفره ، فإذا لم تكن له
حيلة أمام هذا الفيروس المتناهي فى الصغر فكيف يقابل الله بالكفر و العناد
و التكذيب ! : ( قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) عبس : ١٧ .
فمن تأمل هذا الدرس قرّت عينه بربه و انشرح فؤاده لإرادة مولاه فغيره إنما
يذعن لتلك الإرادة قهراً و كرهاً إذ لامهرب من الله إلا إليه و الله
المستعان .
٢ - مشهد البلاء و العقوبة :
و ينبغي أن يُعلم أن انتشار الأوبئة و منها وباء كورونا ما هو إلا ابتلاءٌ
و عقوبةٌ من رب العالمين ، و أن من سنن الله تعالى أن البلاء إذا نزل قد
يعمُّ غير الظلمة قال تعالى :
( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ
خَاصَّةً ) الأنفال : ٢٥ .
كما أن من سُنن الله تعالى أن الأوبئة إذا انتشرت لا تُفرق بين ظالمٍ و
كافرٍ و مؤمنٍ ، و هذه الأوبئة قد تكون رجزاً من السماء ، حيث تكرر في
القرآن الكريم لفظ الرجز عشر مرات ، منها قوله تعالى :
( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ) سبأ : ٥ ،
أي : أن هؤلاء الظلمة المعاندين يسعون بكل جهودهم لإبطال آيات الله تعالى ،
و يزعمون أنّهم قادرون على أن يعجزوها ، و تكون لهم الغلبةُ عليها .
و هذا الدرس يُذَكِّر بأهمية التوبة و الإنابة و الرجوع إلى الله و يعزز من
أهمية الدعوة للإسلام و قيمه في المجتمعات الإنسانية ؛ إذ باتساع دائرة
الهداية تضمحل المصائب و تزول الإبتلاءات .
٣ - تجديد قيم الإيمان :
فإن النوازل إنما تستدعي ما عند المسلم من حسن الظّنّ و دوام الثّقة في
مولاه و حسن التّوكل على الله و استدفاعه بالدّعاء و حسن اللجأ إليه ، قال
تعالى :
( قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) التوبة : ٥١ .
و إن المسلم لا يعلم ما قدَّره اللهُ عزَّ و جلَّ إلا بعد وقوعه ، و متى ما
وقع قوبل بتلك القيم من صبر و توكل و ثقة و دعاء و افتقار فتتجدد المنحة مع
المحنة ، و النعمة مع القمة ؛ فما من مصيبة إلا و أشرق معها معاني الإيمان
.
٤ - الأخذ بالأسباب :
و إن من تمام تلك القيم في مواجهة “ فيروس كورونا ” الأخذ بأسباب الوقاية ،
و لو قدَّر الله عزَّ و جلَّ على أحد الموت “ بفيروس كورونا ” بعد أخذه
بالأسباب ، فأجرهُ عظيمٌ عند الله عز و جل ،
فعن عائشة - رضي الله عنها - أنَّهَا سَأَلَتْ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عليه و سلَّمَ عَنِ الطَّاعُونِ ، فأخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عليه و سلَّم :
( أنَّه كانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ علَى مَن يَشَاءُ ، فَجَعَلَهُ
اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، فليسَ مِن عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ
فَيَمْكُثُ في بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أنَّه لَنْ يُصِيبَهُ إلَّا ما
كَتَبَ اللَّهُ له ، إلَّا كانَ له مِثْلُ أجْرِ الشَّهِيدِ ) رواه البخاري
.
و معنى قوله صلَّى اللهُ عليه و سلَّم : ( يعلَمُ أنَّه لا يُصيبُه إلَّا
ما كتَب اللهُ له ) ، أي : يظَلُّ داخِلَ البلدِ الَّذي وقَع فيه
الطَّاعونُ ، ولا يخرُجُ منه ؛ ظنًّا منه أنَّ خروجَه يُنجيه مِن قَدَرِ
اللهِ المكتوبِ عليه إلَّا كان له مِثلُ أجرِ شهيدٍ .
٥ - و لِجهات الإختصاص دور و تقدير :
إن من الأخذ بالأسباب تقدير و إحترام الجهات الطبية المختصة و التي ينبغى
أن تسلك سبيل المهنية الطبية و العلمية المختصة بعيداً عن المبالغة و
التهوين ، و من الأخذ بأسباب الوقاية من هذا الفيروس :
فعلى المستوى الشخصي النظافة بشكلٍ عامٍ كغسل اليدين و الأنف بانتظام ، و
غسل جميع البدن ، و نظافة البيت و الأفنية و غير ذلك .
فقد حثنا الدينُ على النظافة كما قال تعالى : ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ )
سورة المدثر ،
ترك المصافحة و التقبيل و الإكتفاء بالتحية من بُعْدٍ ، و تجنب التجمعات في
الأماكن العامة من الأسواق و القاعات و غيرها ،
الحجر الصحي بعزل المريض عن بقية الأصحاء طيلة فترة حضانة المرض ، و وضعه
تحت الرقابة الطبية الدقيقة .
و الإسلام - بحمدالله - سبق العالم كله بتقرير هذا المبدأ الذي لم يعرفه
العالم إلا في بداية القرن العشرين و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم :
( لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ ) البخاري ،
و قال : ( لا تُديمُوا النظرَ إلى للمجذومين ) رواه ابن ماجه ،
و روى مسلم في صحيحه عن الشَّرِيد بن سُوَيْدٍ الثَّقَفِيُّ أنَّه :
( كانَ في وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ ، فأرْسَلَ إلَيْهِ النبيُّ
صَلَّى اللَّهُ عليه وَ سَلَّمَ إنَّا قدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ ) ،
« ورَجُلٌ مَجذُوم » أي : مُصابٌ بِمَرَضِ الجُذَامِ ، و هو مَرَضٌ مُعْدٍ
، و أراد هذا المجذومُ أن يأتِيَ النبيَّ صلَّى الله عليه و سلَّم
لِيُبايِعَه على الإسلام و الجِهاد فأرسَلَ إليه النبيُّ صلَّى الله عليه و
سلَّم ( إنَّا قد بَايَعْناك ) أي : بالقولِ من غيرِ أخْذِ اليَدِ في
العَهْدِ ، و فيه دلالة على ترك المصافحة في هذه الحالة .
و يندرج تحت القاعدة الفقهية : ( لا ضرر ولا ضرار ) ، فيُمنع شرعاً مخالطةُ
المريض مرضاً معدياً للأصحاء ، لدفع ضرر الأمراض المعدية عموماً .
و مثل قاعدة : ( الضرر يُدْفَعُ بقدْر الإمكان ) ، فهذه القاعدة تفيد وجوب
دفع الضرر قبل وقوعه بكل الوسائل و الإمكانيات المتاحة ، وفقاً لقاعدة
المصالح المرسلة و السياسة الشرعية ، فهي من باب الوقاية خيرٌ من العلاج ،
و يكون ذلك بتعميم الإجراءات الوقائية لدفع الإصابة بالأمراض المعدية ،
و منع السفر و ترك الإجتماعات ، و هكذا فقد اتسعت الشريعة لهذا و لغيره من
التدابير رفعاً للحرج و تيسيراً للأمة .
٦ - بث الأمل و الحذر من الشائعات :
عندما يدلهم الخطب و تزداد المصائب ينبغي أن نفتح نوافذ الأمل فيما عند
الله ، فقد سبق من الله أنه لا يغلب عسر يسرين ، و لذلك كان الرسول صلى
الله عليه و سلم يرى بارقة الأمل عند اشتداد المحنة : ( ما ظنك باثنين الله
ثالثهما ) ( لا تحزن ان الله معنا ) ، فبشروا ولا تنفروا استعينوا بالله و
عظموا الثقة فيه و زينوا نفوسكم بالفأل الحسن .
فليحذر الإنسان عند فشو الابتلاءات من نشر الشائعات و الكذب فإن ذلك يزيد
السوء سوءاً و يفتّ فى عضد الناس بالبعد عن الإرجاف معتز للأمن و الأمل .
٧ - صَنائعُ المَعروف و بذلُ الإحْسانِ :
و هو من آكد الطاعات عند نزول البلاء ، فعَنْ أَنسِ - رضي الله عنه - قال :
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم :
( صنائعُ المعرُوفِ تقي مَصارِعَ السُّوءِ ، و الآفات ، و الهَلَكَاتِ ، و
أَهْلُ المعرُوفِ في الدُّنيا هُمْ أَهلُ المعرُوفِ في الآخِرَةِ ) الحاكم
.
قال ابنُ القَـيِّم - رحمه الله :
( و مِنْ أَعْظَمِ عِلاجات المرض : فِعْلُ الخيرِ و الإحسان ، و الذِّكْـرُ
، و الدُّعاءُ ، و التَّـضَرُّعُ ، و الابتهالُ إلى الله ، و التَّوبةُ ، و
لهذه الأمور تأثيرٌ في دَفْعِ العِلَل و حُصُولِ الشِّفاءِ ؛ أعظمُ مِنَ
الأدوية الطَّبِيعِيَّـةِ ، و لكن بحَسَبِ استعدادِ النَّـفْس و قَـبُولِها
و عَقِيدتها في ذلك و نفعِه ) زاد المعاد .
٨ - الإيواء إلى ركن شديد :
إن الإيواء إلى الله بالتضرع و الدعاء و الإنخلاع من الذنوب و المعاصي و رد
المظالم و دوام الذكر لهو من أهم الأسلحة للمواجهة و المدافعة لمثل هذه
الإبتلاءات ،
فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قَالَ :
( لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم يَدَع هؤلاء الكلمات
إذا أصبح وَ إذا أَمْسَى :
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ ،
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَ الْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَ
دُنْيَايَ وَ أَهْلِي وَ مَالِي ، اللَّهُمَّ استُرْ عَوْرَاتي و آمِنْ
رَوْعَاتي ، اللَّهمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَينِ يَدَيَّ ، ومِنْ خَلْفي ، وَ
عن يميني ، و عن شِمالي و مِن فَوْقِي ، و أعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أنْ
أُغْتَالَ مِنْ تَحتي ) أبو داود و الترمذي .
و كقوله : ( مَنْ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ
شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُصْبِحَ ، وَ
مَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ
بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ ) رواه أبو داود و الترمذي .
و ختاماً نسأل الله سبحانه و تعالى أن يعافينا و يعفو عنا و يجنبنا هذا
المرض .. و الله الهادي إلى سواء السبيل .
|