اطبع هذه الصفحة


فَيرُوس كُورونَا .. الدروس و العبر

بقلم سعادة الأستاذ :
أحمد حامد الجبراوي ( المحامي )
الخرطوم : رجب ١٤٤١ هـ الموافق مارس ٢٠٢٠ م


بسم الله الرحمن الرحيم
 


فى أيام معدودة احتبست انفاس العالم مع الإستشراء السريع لـ ( فيروس كورونا ) المستجد “ كوفيد - 19 ” ، و اتسعت دائرة المواجهة الدولية و الوطنية للحد من خطورته و الحيلولة دون الإصابة به .

و هذه وقفات متأملةلهذه " الجائحة " بحسب التصنيف الصحب الدولي نقرأها كالتالي :

١ - عظمة و قهر الربوبية :

إن من أعظم الدروس المستفادة أن العباد محفوظون بكلأ الله و رعايته و مقهورون بعزة الله الرب تعالى و قهره و أنهم لا يسوون شيئاً أمام ملكوت الله فى هذا الكون العظيم ، فما أحقر الإنسان و ما أكفره ، فإذا لم تكن له حيلة أمام هذا الفيروس المتناهي فى الصغر فكيف يقابل الله بالكفر و العناد و التكذيب ! : ( قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) عبس : ١٧ .

فمن تأمل هذا الدرس قرّت عينه بربه و انشرح فؤاده لإرادة مولاه فغيره إنما يذعن لتلك الإرادة قهراً و كرهاً إذ لامهرب من الله إلا إليه و الله المستعان .

٢ - مشهد البلاء و العقوبة :

و ينبغي أن يُعلم أن انتشار الأوبئة و منها وباء كورونا ما هو إلا ابتلاءٌ و عقوبةٌ من رب العالمين ، و أن من سنن الله تعالى أن البلاء إذا نزل قد يعمُّ غير الظلمة قال تعالى :
( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ) الأنفال : ٢٥ .

كما أن من سُنن الله تعالى أن الأوبئة إذا انتشرت لا تُفرق بين ظالمٍ و كافرٍ و مؤمنٍ ، و هذه الأوبئة قد تكون رجزاً من السماء ، حيث تكرر في القرآن الكريم لفظ الرجز عشر مرات ، منها قوله تعالى :
( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ) سبأ : ٥ ،
أي : أن هؤلاء الظلمة المعاندين يسعون بكل جهودهم لإبطال آيات الله تعالى ، و يزعمون أنّهم قادرون على أن يعجزوها ، و تكون لهم الغلبةُ عليها .

و هذا الدرس يُذَكِّر بأهمية التوبة و الإنابة و الرجوع إلى الله و يعزز من أهمية الدعوة للإسلام و قيمه في المجتمعات الإنسانية ؛ إذ باتساع دائرة الهداية تضمحل المصائب و تزول الإبتلاءات .

٣ - تجديد قيم الإيمان :

فإن النوازل إنما تستدعي ما عند المسلم من حسن الظّنّ و دوام الثّقة في مولاه و حسن التّوكل على الله و استدفاعه بالدّعاء و حسن اللجأ إليه ، قال تعالى :
( قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) التوبة : ٥١ .

و إن المسلم لا يعلم ما قدَّره اللهُ عزَّ و جلَّ إلا بعد وقوعه ، و متى ما وقع قوبل بتلك القيم من صبر و توكل و ثقة و دعاء و افتقار فتتجدد المنحة مع المحنة ، و النعمة مع القمة ؛ فما من مصيبة إلا و أشرق معها معاني الإيمان .

٤ - الأخذ بالأسباب :

و إن من تمام تلك القيم في مواجهة “ فيروس كورونا ” الأخذ بأسباب الوقاية ، و لو قدَّر الله عزَّ و جلَّ على أحد الموت “ بفيروس كورونا ” بعد أخذه بالأسباب ، فأجرهُ عظيمٌ عند الله عز و جل ،
فعن عائشة - رضي الله عنها - أنَّهَا سَأَلَتْ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه و سلَّمَ عَنِ الطَّاعُونِ ، فأخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه و سلَّم :
( أنَّه كانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ علَى مَن يَشَاءُ ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، فليسَ مِن عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ في بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أنَّه لَنْ يُصِيبَهُ إلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ له ، إلَّا كانَ له مِثْلُ أجْرِ الشَّهِيدِ ) رواه البخاري .

و معنى قوله صلَّى اللهُ عليه و سلَّم : ( يعلَمُ أنَّه لا يُصيبُه إلَّا ما كتَب اللهُ له ) ، أي : يظَلُّ داخِلَ البلدِ الَّذي وقَع فيه الطَّاعونُ ، ولا يخرُجُ منه ؛ ظنًّا منه أنَّ خروجَه يُنجيه مِن قَدَرِ اللهِ المكتوبِ عليه إلَّا كان له مِثلُ أجرِ شهيدٍ .

٥ - و لِجهات الإختصاص دور و تقدير :

إن من الأخذ بالأسباب تقدير و إحترام الجهات الطبية المختصة و التي ينبغى أن تسلك سبيل المهنية الطبية و العلمية المختصة بعيداً عن المبالغة و التهوين ، و من الأخذ بأسباب الوقاية من هذا الفيروس :
فعلى المستوى الشخصي النظافة بشكلٍ عامٍ كغسل اليدين و الأنف بانتظام ، و غسل جميع البدن ، و نظافة البيت و الأفنية و غير ذلك .

فقد حثنا الدينُ على النظافة كما قال تعالى : ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) سورة المدثر ،
ترك المصافحة و التقبيل و الإكتفاء بالتحية من بُعْدٍ ، و تجنب التجمعات في الأماكن العامة من الأسواق و القاعات و غيرها ،
الحجر الصحي بعزل المريض عن بقية الأصحاء طيلة فترة حضانة المرض ، و وضعه تحت الرقابة الطبية الدقيقة .

و الإسلام - بحمدالله - سبق العالم كله بتقرير هذا المبدأ الذي لم يعرفه العالم إلا في بداية القرن العشرين و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم :
( لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ ) البخاري ،
و قال : ( لا تُديمُوا النظرَ إلى للمجذومين ) رواه ابن ماجه ،
و روى مسلم في صحيحه عن الشَّرِيد بن سُوَيْدٍ الثَّقَفِيُّ أنَّه :
( كانَ في وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ ، فأرْسَلَ إلَيْهِ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَ سَلَّمَ إنَّا قدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ ) ،
« ورَجُلٌ مَجذُوم » أي : مُصابٌ بِمَرَضِ الجُذَامِ ، و هو مَرَضٌ مُعْدٍ ، و أراد هذا المجذومُ أن يأتِيَ النبيَّ صلَّى الله عليه و سلَّم لِيُبايِعَه على الإسلام و الجِهاد فأرسَلَ إليه النبيُّ صلَّى الله عليه و سلَّم ( إنَّا قد بَايَعْناك ) أي : بالقولِ من غيرِ أخْذِ اليَدِ في العَهْدِ ، و فيه دلالة على ترك المصافحة في هذه الحالة .

و يندرج تحت القاعدة الفقهية : ( لا ضرر ولا ضرار ) ، فيُمنع شرعاً مخالطةُ المريض مرضاً معدياً للأصحاء ، لدفع ضرر الأمراض المعدية عموماً .

و مثل قاعدة : ( الضرر يُدْفَعُ بقدْر الإمكان ) ، فهذه القاعدة تفيد وجوب دفع الضرر قبل وقوعه بكل الوسائل و الإمكانيات المتاحة ، وفقاً لقاعدة المصالح المرسلة و السياسة الشرعية ، فهي من باب الوقاية خيرٌ من العلاج ،
و يكون ذلك بتعميم الإجراءات الوقائية لدفع الإصابة بالأمراض المعدية ،
و منع السفر و ترك الإجتماعات ، و هكذا فقد اتسعت الشريعة لهذا و لغيره من التدابير رفعاً للحرج و تيسيراً للأمة .

٦ - بث الأمل و الحذر من الشائعات :

عندما يدلهم الخطب و تزداد المصائب ينبغي أن نفتح نوافذ الأمل فيما عند الله ، فقد سبق من الله أنه لا يغلب عسر يسرين ، و لذلك كان الرسول صلى الله عليه و سلم يرى بارقة الأمل عند اشتداد المحنة : ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) ( لا تحزن ان الله معنا ) ، فبشروا ولا تنفروا استعينوا بالله و عظموا الثقة فيه و زينوا نفوسكم بالفأل الحسن .

فليحذر الإنسان عند فشو الابتلاءات من نشر الشائعات و الكذب فإن ذلك يزيد السوء سوءاً و يفتّ فى عضد الناس بالبعد عن الإرجاف معتز للأمن و الأمل .

٧ - صَنائعُ المَعروف و بذلُ الإحْسانِ :

و هو من آكد الطاعات عند نزول البلاء ، فعَنْ أَنسِ - رضي الله عنه - قال :
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم :
( صنائعُ المعرُوفِ تقي مَصارِعَ السُّوءِ ، و الآفات ، و الهَلَكَاتِ ، و أَهْلُ المعرُوفِ في الدُّنيا هُمْ أَهلُ المعرُوفِ في الآخِرَةِ ) الحاكم .

قال ابنُ القَـيِّم - رحمه الله :
( و مِنْ أَعْظَمِ عِلاجات المرض : فِعْلُ الخيرِ و الإحسان ، و الذِّكْـرُ ، و الدُّعاءُ ، و التَّـضَرُّعُ ، و الابتهالُ إلى الله ، و التَّوبةُ ، و لهذه الأمور تأثيرٌ في دَفْعِ العِلَل و حُصُولِ الشِّفاءِ ؛ أعظمُ مِنَ الأدوية الطَّبِيعِيَّـةِ ، و لكن بحَسَبِ استعدادِ النَّـفْس و قَـبُولِها و عَقِيدتها في ذلك و نفعِه ) زاد المعاد .

٨ - الإيواء إلى ركن شديد :

إن الإيواء إلى الله بالتضرع و الدعاء و الإنخلاع من الذنوب و المعاصي و رد المظالم و دوام الذكر لهو من أهم الأسلحة للمواجهة و المدافعة لمثل هذه الإبتلاءات ،
فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قَالَ :
( لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم يَدَع هؤلاء الكلمات إذا أصبح وَ إذا أَمْسَى :
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَ الْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَ دُنْيَايَ وَ أَهْلِي وَ مَالِي ، اللَّهُمَّ استُرْ عَوْرَاتي و آمِنْ رَوْعَاتي ، اللَّهمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَينِ يَدَيَّ ، ومِنْ خَلْفي ، وَ عن يميني ، و عن شِمالي و مِن فَوْقِي ، و أعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحتي ) أبو داود و الترمذي .

و كقوله : ( مَنْ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُصْبِحَ ، وَ مَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ ) رواه أبو داود و الترمذي .


و ختاماً نسأل الله سبحانه و تعالى أن يعافينا و يعفو عنا و يجنبنا هذا المرض .. و الله الهادي إلى سواء السبيل .

 

رسائل دعوية

  • رسائل دعوية
  • معا على طريق الجنة
  • الصفحة الرئيسية