اطبع هذه الصفحة


الإسلاميون والشرط الديمقراطي

عبد الوهاب آل غظيف


في الأزمنة المتأخرة عانت الأمة كثيراً من الاستبداد العلماني الجائر ، الذي أقصى الشريعة الإسلامية في بلاد المسلمين ، وحكم بالظلم والطاغوت ، بل وطارد المنكرين عليه الداعين إلى عودة الإسلام وتتبعهم بالقتل والسجن والإبعاد ، حتى كرّس انحرافاً عظيماً عن الإسلام في المجال السياسي في بلاد المسلمين .
وهذا الاعتداء مواجهته من أعظم الواجبات ، وجهاده بمختلف أنواع الجهاد من أنبل المهمات ، ومن هنا كان منطلق النشاط السياسي الإسلامي ، إما بالتأصيل النظري ، أو بالعمل الحركي ، غير أنَّ تخلف القدرة والاستطاعة عند الإسلاميين فرض عليهم الحديث عن السبيل السلمي في إعادة حكم الإسلام ، ممثلاً بالمشاركة في العملية الديمقراطية التي ظهرت بوادرها و لم تقم بشكل جدي في عموم العالم الإسلامي .
وقد اختلف الإسلاميون في المشاركة في هذه العملية ومدى نفعها ، إلا أن هذا الاختلاف من الأمور الاجتهادية التي لا تمس أصل وجوب تحكيم الإسلام المتفق عليه بينهم ، وإنما هي اختلافات حول الطريق الموصلة إلى هذا الأصل .

أشهر العلمانيون تشغيباً شهيراً على مشاركة الإسلاميين في العملية الديمقراطية ، وحاصله :

( أن هؤلاء الإسلاميين يخفون ما لا يظهرون ، وأنهم يزعمون المشاركة في العملية الديمقراطية في حين أنهم لو فازوا لحكموا بالإسلام وانقلبوا على الديمقراطية )
ومبناه من إدراكهم لطبيعة الحكم الإسلامي وما فيه من مهمات تتعلق بحماية الشريعة وعقوبات على الخارجين عنها من الحدود والتعزيرات .
وتبعاً لهذا الإدراك اختلفت مواقف العلمانيين في تقبل مشاركة الإسلاميين في هذه العملية، فمنهم من رفضها كلية وأقصى الإسلاميين من المشاركة ، ومنهم من قبل مشاركة الإسلاميين بشرط علو العلمانية على مشاريعهم الإسلامية ، بحيث تظل المرجعية العلمانية للنظام الديمقراطي حاكمة على المشروع الإسلامي المشارك ، وما في هذا المشروع مما يخالف العلمانية فيجب التنازل عنه .
هذا التشغيب إلى هذا الحد طبيعي الصدور من أعداء الإسلام والمسلمين ، ولكن الغريب في المسألة أن يتلقفه بعض من يرفع الشعار الإسلامي ، من أصحاب التراجعات ، وتحديداً : (التنويريون الإسلاميون) الذين صار بعضهم مؤخراً يشهر ذات الاعتراض!

مع أن هذا الاعتراض بين أقواس تنضح بالعداء للحكم الإسلامي ، وسياقها الذي تمر من خلاله سياق لاديني ، لأمور :

أولها : أنها تقفز على المعيار الشرعي في تقييم التصرف الإسلامي ، ولا تلتفت إلى المطلوب الشرعي في الصورة التي تقيّمها (مشاركة الإسلاميين في الديمقراطية)
ثانيها : أنها تقفز على كون الحكم بغير الإسلام في مجتمعات المسلمين إنما هو حالة حرب واعتداء وانتهاك لسيادة الإسلام، وليست حالة مقبولة في أي تصور إسلامي ،
ثالثها : أنها تقفز على كون الشرع والحكم بالإسلام هو الحق وهو العدل وهو الرحمة، وإلا فكيف يشغب على هذه المقاصد الجليلة العظمى التي هي الهدف من السياسة أصلاً بتشغيب بارد مثل هذا ؟
فواضح - مما سبق - أن هذه العبارة اسنفجة كانت منقوعة في مستنقع علماني لا ينطلق من تعظيم حكم الإسلام ولا احترامه .

وهذا يمهد للجواب على هذه الشبهة البالية التي يلوكها بعض المقلدين دون وعي ، وفي الجواب عليها نستعرض الوجوه التالية :


أولاً :
أن في هذه العبارة اختزالاً لمراحل العمل الإسلامي ، فإن المشروع الإسلامي حينما يدخل في السياسة وفق شرط الديمقراطية العلمانية لن يكون بإمكانه إلغاؤها في مراحله الأولى ، وإنما يتحصل له ذلك بعد مراحل من التمكن والعطاء السياسي يصحبها إقناع للمجتمع بحكم الشريعة ، وفي المرحلة الثانية لا يصير للنظام الديمقراطي بصفته العلمانية أي مشروعية يتعلق بها، بما في ذلك المشروعية العلمانية التي تستمد من الشعب أولاً وأخيراً ، فيصير النظام الإسلامي - عوضاً عن كونه المشروع الوحيد في بلاد المسلمين بمقتضى دينهم - مشروعاً وحيداً بمقتضى الفهم الديمقراطي أيضاً . فالأمر - من حيث الإمكان الواقعي - ليس كما تزيفه هذه العبارة المختزلة .

ثانياً :
أن صورة (تنحية الحكم الإسلامي بالقوة ثم قيام العملية الديمقراطية العلمانية) صورة ناتجة عقب اعتداء صارخ وحرب عسكرية دموية على العالم الإسلامي واستعمار وتحكم طاغوتي في سياساته من أعدائه ، فلا يصح أن تجعل هذه الصورة معياراً تحاكم الدعوة الإسلامية إليه ، أو أن تخضع إلى ثمراته وشرائطه ، كما أنه لا يصح عند مسلم يفقه أن الحكم بغير الإسلام اعتداء على المجتمعات الإسلامية أن يفرض شروط هذا الاعتداء على من يريد إزالته ، فهذه الشروط متصورة الصدور من قبل المعتدي لكنها لا تتصور من قبل من يزعم أنه إسلامي !
وحال المشروع الإسلامي مع هذه الشروط كحال صاحب المنزل حينما يتفاوض مع من غصبه منه على بعض غرفه الداخلية لتؤيه ، فإذا ما تمكن استعاد حقه ولا يقال إنه نكث التزاماً عليه تجاه الغاصب .

ثالثاً :
إشهار هذه الشبهة ليس منهجية صحيحة ، بل الصحيح الذي يتوجب على المسلم سلوكه أن يفتش الأدلة الشرعية ويتوصل بطريق علمي إلى المطلوب شرعاً ، وحينما يؤصل الإسلاميون للفارق بين مرحلة تخلف القدرة ومرحلة تحصلها بالدليل من الكتاب والسنة فإن معارضتهم بهذه السفسطة من الإعراض عن الدليل الذي لا يليق بمسلم منقاد .
وهذا الفرق بين المرحلتين قد يكون نظيره في باب الجهاد : طلب المسلمين الهدنة من الكفار حال الضعف ، ثم إعلانهم وإعلامهم بانتهائها حال القوة ، وكما أن الله تعالى قد جعل من مهمات الدولة الإسلامية قتال المشركين : [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ] {الأنفال:39} فإنه بطريق الأولى والأحرى أن تكون مهماتها حماية دين الله في المجتمع الإسلامي ، ليس ثمة ما ينافسه أو يحاول زعزعته .

رابعاً :
أن من أوقن في قرارة نفسه بكون الشريعة الإسلامية غاية العدل والحق والرحمة والنور ، ولم يعتقد بوجود شيئاً يتفوق عليها في صلاحيته للحكم في بلاد المسلمين فلن يصدر منه هذا الاعتراض ، لأننا لو سلمنا أن صورة (المشاركة الإسلامية في العملية الديمقراطية ومن ثم تحكيم الإسلام) هي حكم للشعب بما لم يوعد به ، فإنه لن يتم تناول هذا على إنه إخلاف للوعد ، بل على أنه زيادة فيه ، فمن يعدك مثلاً أن يعطيك (خمسمئة) فإنه ليس نكثاً ولا إساءة حينما يعطيك (ألفاً) بل ذلك زيادة إحسان وزيادة خير وعطاء.

وبعد استعراض هذه الوجوه الأربعة في تفنيد هذه السفسطة العلمانية التي تلقفها بعض إسلاميّ التنوير، فإنه من المناسب أن نشير إلى إخلالها بما يزعمه هؤلاء التنويريون من كون الديمقراطية عندهم ذات مرجعية إسلامية ، فإنهم لو أفلحوا في التخلص من مرجعيتها العلمانية وحاكموها إلى الإسلام حقاً فلن يصدر منهم مثل هذا الاعتراض أبداً ، بل سيكونون في موقع المجيب عليه .
ثم إنها تشير إلى تهافت زعمهم الذي يبررون به دائماً موقفهم المتقبل لعرض الشريعة في صناديق الاقتراع مع غيرها ، وهو قولهم : ( إن الشعوب الإسلامية لن تختار غير الإسلام) فواضح أنهم صاروا إلى تشرب مرجعية مستعلية على خيار الشعوب الذي زعموه بألسنتهم ، وهي مرجعية علمانية النظام الديمقراطي .
وأخيراً فإن حالة التلقف التنويري لهذه الشبهة تعطي دليلاً جديداً من ضمن الدلائل التي تؤكد خضوعهم بالمشروع الإسلامي - وفق تصورهم - لشروط العلمانية ، ومن ثم رفضهم لأحكامه وتصوراته التي يخالونها تمرداً على هذا الشرط .
 

 

 سيادة الشريعة

  • المقـالات
  • الصفحة الرئيسية