اطبع هذه الصفحة


أَطِبَّاءُ المحْرُوسَةِ .. فِي الطِّينِ رُؤُوسُهُمْ مَغْرُوسَةٌ !

بِقَلَمِ/ عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْنِ
adrrem@yahoo.com

 
لا شكَّ أنَّ لكل مهنة آدابًا وأخلاقًا، وكلَّمَا عظمت المهنة وتبوأت مُهمَّة جسيمة في المجتمع عَظُمَ شأن أخلاقها وآدابها، وعندما ترتكس هذه الأخلاق إلى القاع والحضيض فهذا مُؤْذِنٌ بالانهيار والخراب والفوضى.
 
وإنه من دواعي الأسى والحسرة أن نرى الأخلاق تغرب شمسها عن أناس كنا نظن أنهم من أهلها، فلم تعد الممارسات الخاطئة شواذًا، ولم تعد الممارسات السلبية معدودة، بل أصبحت هي القاعدة وهي الأصل مما تطلب معه ليس التنبيه فحسب بل والزجر، وقد يصل الحال إلى التوبيخ.
 
أقول هذا لإخواني أطباء المحروسة وقد رأيت بعينى وسمعت بأذني ما يندى له الجبين من الممارسات الخاطئة لطائفة ليست بالقليلة منهم، جراء نزولهم أرض التنافس المادي وجمع المال على حساب الفقراء والمساكين وعلى حساب أخلاقيَّات المهنة، الأمر الذي أدى إلى مفاسد عظيمة عَيَّلَ صبرنا عليها، والآن وقد برح الخفاء فهذا وقت المفاصلة:
 
من هؤلاء من قام بإجراء بعض العمليات وهو لا يعرف عنها شيئًا وليست من تخصصه من أجل المال، ومنهم من قام بإجراء عملية جراحيَّة وهميَّة خادعًا المريض بأنه قد أجرى له العملية ولم يفعل بل فتح الجسد وخاطه فقط من أجل المال! ومنهم من يصل إلى الدرك الأسفل من سوء الأخلاق وانعدام الرحمة عندما يقوم بإجراء جراحة لمريض ويقوم بسرقة عضو من أعضائه ويبيعها لمن يُزَايدُ عليها!.
 
ومنهم من تعاقد مع الصيدليَّات لدفع مرضاه إلى شراء الدواء منها على أن تكون له نسبة في المبيعات، ومنهم من تعاقد مع المعامل؛ لتكون له -أيضًا- نسبة من الأرباح، ومنهم من يرسل المرضى إلى زميل له لينفعه ماديًّا والمريض لا يحتاج إلى ذلك؛ لأن زميله هو الآخر يرسل له المرضى، ويقوم بعضهم بوصف دواء بعينه للمريض، وقد يكون لهذا الدواء بديلاً بنفس المادة الفعالة أو أحسن منها ولكنه يأبى ذلك؛ لأن الشركة المنتجة للدواء الموصوف قد أوثقته بأغلالها بإعطائه المقابل المادي أو المعنوي، فأيُّ غِشٍّ للأُمَّة بعد ذلك وقد قال S: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»([1])، وأيُّ خيانة للأُمَّة بعد هذا، وقد كان S يستعيذ -دائمًا- منها قائلاً: «.... وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ؛ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ»([2])
 
وهكذا أصبحت العمليَّة الطبيَّة العلاجيَّة في مصر ما هي إلا مشروع تجاريٌّ استثماريٌّ من الدرجة الأولى، وهذا ما ينذر بتَدَنِّي أخلاقيَّات المهنة وضياعها!.
 
ناهيك عن بعض الممارسات التي تقدح في عقيدة (هذا البعض الذي نتحدث عنه) بل يعملون على نشرها بين الناس، فمن ذلك أن الواحد منهم إذا دخل عيادته الخاصة ولم يجد فيها من المرضى ما يملأ عينه -وعينه لا يَمْلَؤُهَا إلا الترابُ- فإنه ينزعج ويغضب ويُحس أنّ الدنيا قد أظلمت عليه، وهذا الإحساس وهذا الفهم قادح في عقيدته فبدلاً من أن يفرح بشفاء المسلمين ومعافاتهم من الأمراض يريد أن يمرضهم؛ ليأتوا إليه وإلى عيادته؛ ليجمع المال فوق المال! فانظروا إلى أي حد وصلت إليه عقيدة أطباء الأمة!.
 
أمر آخر يقدح في عقيدتهم وخاصة أطباء التوليد منهم، فإنه عندما تأتي إليهم المرأة ويقومون بفحصها ومعرفة ما في بطنها من نوع الجنين فإنهم يقولون على الفور: (مُبَارَك.. هَذَا وَلَدٌ) وقد رأوا علامات الأنوثة على الجنين، ولكنهم يعرفون أن جهلاء الأمة لا تُحِبُّ الإناث، وبدلاً من أن يكونوا صادقين في كلامهم ومعاملاتهم، وبدلاً من أن ينشروا العقيدة الصحيحة في قلوب الناس فيرشدوا الضال، ويردوا الغاوي ويصلحوا الفاسد ويقيموا الأود، ويرأبوا الصدع، ويعلموهم أنَّ المعطي هو الله ولا رادَّ لقضائه، ويذكرون للأب والأم قول الله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى50]، وحديث رسول الله S: «مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ»([3]).
 
بدلاً من هذا يكذبون ويدعمون العقائد الفاسدة في قلوب الناس، ويسيرون على الأهواء، ويركبون العمياء، ويخبطون خبط عشواء، ولا يخضعون لسلطان، ولا يقرون بنظام ولا ينخرطون في سلك.
وعند الولادة يدعمون هذا الاتجاه الخاطئ عمليًّا فيأخذون ثمنًا بخسًا دراهمَ معدودة عند ولادة الذَّكَرِ أضعافًا مضاعفة من ثمن ولادة الأنثى؛ ليكون هذا الاتجاه الجاهلي من العقيدة في قلوب الناس هو السائد، وأنَّ الذَّكَرَ أحسن وأفضل من الأنثى بدليل الأجر المأخوذ عليه جراء العمليَّة المشئومة التي أجراها (للفريسة).
 
وأصبح المكر والخداع صفة ملازمة لتلك الفئة كملازمة الغريم لغريمه، فهناك جُمَلٌ بعينها محفوظة لا تسمعها إلا على ألسنتهم، ولا تخرج إلا من أفواههم، فعندما يذهب المريض إلى أحد هؤلاء وتستدعي حالاته أو لا تستدعي عمل جراحة للزائدة الدودية -مثلاً- فإنه يقول له على الفور: الحمد لله لو تأخرتْ ساعة واحدة لانفجرت ولكن الله نَجَّاكَ! خداع ما بعده خداع، ومكر كمكر الثعالب بل هو أشد! قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق18] وروي في الحديث: «مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا أَوْ مَكَرَ بِهِ»([4])  
 
جملة أخرى نسمعها على ألسنة تلك الفئة وهي أنك إذا ذهبت إلى أحدهم وتحمل في يدك أسماءً لأدوية قد استعملتها من قِبل طبيب آخر ولم يكتبِ اللهُ الشفاء بها، نظر فيها وقرأها على عُجالة وقال: (مَنِ الحِمَارُ الذي وصف لك هذا الدواء؟!) وهكذا (يُحَمِّرُ) بعضهم بعضًا! والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ}[الحجرات11] ولا ننسى الابتسامة الرائقة التي تظهر على وجوههم في العيادات الخاصة والكلام الهادئ الناعم، والذي لا نجد له أثرًا في المستشفيات العامة؛ حيث التجهم والعبوس في وجوه الناس، والصوت العالي المنكر الذي وصفه -تبارك وتعالى- بقوله: {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان19]
 
وأخيرًا نلحظ بعضًا من الصفات التي يتحلى بها هؤلاء والمتمثلة في الكبر والعنجهية التي تصاحبهم في كلامهم وصمتهم وفي حركاتهم وسكناتهم واستهزائهم بكل من يخالفهم، بل يرون أنفسهم أعلى بكثير من المجتمع الذي يعيشون فيه، وقد قال تعالى في مثل هؤلاء: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء37] وقوله  S: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الْخُيَلاءِ خُسِفَ بِهِ؛ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».([5])
 
ولا بأس بعد هذا كله من تحسين السيرة الذاتية بشيء من الصلاة في الجماعة وشيء من الحج أو العمرة كل عام أو بناء المساجد، ألا فليعلموا أن خدمة المجتمع خيرٌ من هذا كله.
 
إخواني -أطباء المحروسة- لم نَسْمَعْ في يوم من الأيام عن دولة من دول العالم المتقدم أنها تهتم بالطبِّ في المقام الأول، إنما جُل اهتمام هذه الدول منْصَبٌّ بصفة أساسيَّة على علم الهندسة والكيمياء والفيزياء؛ لأن هذه العلوم خادمة والطب مخدوم.
 
وهذا ليس عيبًا في الطب بل هو من ضروريات الحياة؛ ولكن السباق الحضاري -اليوم- يحتِّمُ علينا أن يكون لنا عباقرة في الكيمياء والهندسة والصناعة، وهذا ما نُطالب به أبناء المحروسة فبدلاً من اهتمامهم الزائد وغير المعقول بتربية أبنائهم على الحب المفرط لمهنة الطب، نُريد منهم أن يربوا أبناءهم على خدمة الإسلام والمسلمين، فقد قال S: «أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينًا أو تطرد عنه جُوعًا ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في المسجد شهرًا» ([6]) فبهذا النفع للمجتمع تكون التربية، ولا نرى نفعًا نحن أشد احتياجًا إليه هذه الأيام من النفع التقني والصناعي والتكنولوجي الذي يرفع من شأن البلاد والذي لا يتحقق إلا بوجود المهندسين والكيميائيين واهتمام الدولة بهم والرفع من شأنهم كما هو الحال -الآن- مع الأطباء، بل من الأفضل أن نؤخر الأطباء قليلاً؛ لنلحق بركب الحضارة.
 
هذا وَلْتَكُفّ المحروسة عن النعرات التي توسع هوَّة الشِّقاق بين أبناء الأمة من تصنيفهم الكليات إلى كليات القمة وكليات القاع! وليعلموا أن البلاد المتقدمة التي ينتشون بذكرها -ليل نهار- ليس فيها هذا النمط من النعرات بل العبرة عندهم بمن يخدم بلده ومن يقدم لها الخير بفكره وعلمه وعمله.
 
ولا بد أن تكف المحروسة عن التفرقة العنصرية بين أصحاب المهن؛ فإنها تحارب الدروس الخصوصية، ولا تحارب العيادات الخاصة وهذه من تلك، كلاهما يسعى لتحصيل المال! فما دام أنَّ المدرس يستطيع أن يؤديَ رسالته عبر المدرسة، كذا يستطيع الطبيب أن يخدم مجتمعه من خلال المستشفى، فلو أنَّ هؤلاء الأطباء الذين أخذوا إجازة بدون راتب؛ ليتفرغوا للسلخ والجلد وتعذيب الخلق قعدوا في المستشفيات لكان خيرًا للمجتمع، وخير مثال لنا في هذا المقام الطبيب العالمى محمد غنيم الذي أخلص في عمله في مستشفى الكلى بمدينة المنصورة واستغنى براتبه عن (التجارة الناعمة) وجعل من هذه المستشفي مركزًا عالميًّا وصرحًا طبيًّا؛ فكان مضرب المثل للعالمين، فجزاه الله عن المسلمين خير الجزاء.
 
وقد يظن البعض أنَّني أدعو إلى النظام الاشتراكي؛ فلا والله لا اشتراكية أدعو ولا رأسمالية ولا عولمة ولكن أدعو إلى مجتمع الإسلام وروح الإسلام، وفهم الإسلام؛ فالإسلام لا يمنع الملكية الخاصة ولكن يمنع الممارسات السيئة من الأفراد والجماعات، ويمنع الظلم ويرد العدوان سواء من الفرد على الجماعة أو من الجماعة على الفرد، وهذا عين ما حدث من جماعة الأطباء على الفرد المسلم، وعين ما حدث من الطبيب على المجتمع الإسلامي!.
وقد يظن البعض أنني أتحامل وأتجنَّى على الأطباء؛ ولا والله فما قلت إلا ما رأيت، وما شهدت إلا بما علمت، ويراه كثير من الناس ويعلمونه علم اليقين، وما أفشيت سرًّا؛ بل الجميع يعلم هذه السلبيات وهذه الممارسات الخاطئة ولكننا في (المخروسة نغلي ولا نفور) وما زال في جعبَتِي أشياء تخص القضاء والمحامين وأساتذة الجامعات والمشايخ وغيرهم بحسب قوة تأثيرهم في المجتمع، لا نتحرك لإصلاحها أو التحذير منها إلا إذا طفح الكيل وجرف السيل كما في حالتنا تلك.
 
أيها الإخوةُ هذه بعض معالم فئة من الأطباء؛ فَقَدَتْ آداب المهنة، واستهانت بالمجتمع المدني فكانت وبالاً على طائفتها كلها أردت التحذير منها ووصف العلاج في ثناياها، وليسخطْ عليَّ من يسخط ولْيَرْضَ عنِّي من يرضى؛ فهذا آخر ما أفكر فيه، وجُلُّ همي المجتمع الإسلامي، والفقير المسلم، والمعدم المسكين.
 
فأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يحفظ علينا ديننا، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل؛ إنه نعم المولى ونعم النصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

---------------------------------------
([1]) (صحيح): رواه مسلم 102، الترمذي 1315، ابن ماجة 2224.
([2]) (صحيح): رواه أبو داود 1547، النسائي 5467، ابن ماجة 3354.
([3]) (صحيح): رواه البخاري 1418، مسلم 2629، الترمذي 1915.
([4]) (ضعيف): ضعيف الجامع 5275.
([5]) (صحيح): رواه البخاري 3485، الترمذي 2491، النسائي 5326.
([6]) (صحيح): الصحيحة 427.

 

الطبيب الداعية

  • مكتبة الطبيب
  • أفكار دعوية
  • الطبيب الداعية
  • الطبيبة الداعية
  • بين الواقع والمأمول
  • استفتاءات طبية
  • الطب الإسلامي
  • الفقه الطبي
  • مقالات منوعة
  • خواطر طبيب
  • صوتيات ومواقع
  • دليلك للأفكار الدعوية
  • الصفحة الرئيسية