اطبع هذه الصفحة


مع " لامية العجم " للطغرائي رحمه الله تعالى

د: عثمان قدري مكانسي


قال صاحبي : لعلك قرأت لا مية الطغرائي .
قلت : وأنا معجب بها ، ففيها حِكم وعظات ، وخبرة واعية في الحياة لخصها صاحبها رحمه الله خفيفة على البحر الوافر ذي النغمة الموسيقية مقام " البيات " ، وما أقرؤها إلا هكذا- منغمة- أوقاتَ فراغي أو بين معارفي .
قال : أوَما وجدت فيها بعض الأفكار غير الناضجة ؟
قلت : ألا تذكر قول ابن برد :
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ؟ كفى المرءَ نبلاً أن تُعَدّ معايبُه
قال : ولكنها أخطاء شاعر كبير !..
قلت : تذكر قول الإمام مالك رضي الله عنه وهو في مسجد المصطفى عليه الصلاة والسلام يقول منبهاً إلى الطبيعة البشرية الناقصة : " ما من رجل إلا أخذ منه ورُدّ عليه إلا صاحب هذا القبر " وأشار إلى حيث يثوي الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام ,...
وأردفت متسائلاً : ثم قل لي يا صاحِ : أهي أخطاء فادحة ؟ إني لا أرى ما تقوله ، فهلا أفصحت فما كان يخطر ببالي ما تظنه؟ .
قال : ليست أخطاء بل مآخذ قد أكون المخطئ فيما فهمت ، إنما هي أفكار أود طرحها في لقائنا فأردت استثارتك ، وهذا أسلوب لقدح العقول وشحذ القرائح .
قلت : لا حاجة إذاً للخوض فيما نتفق ، فهات ما تظنه نقصاً أو أفكاراً غير ناضجة كما ذكرتَ، علني أوافقك عليه أو أناقشك في ما لم يرق لك .
قال فلنبدأ بالمقدمة :

اعتزل ذكر الأغاني والغزل *** وقل الفصل وجانب من هزلْ
ودع الـذكـر لـأيـام الـصـبــا *** فـلأيــام الصـبـــا نجــم أفــَـلْ
إن أهـنــا عـيشـة قـضـّيتـُهـا *** فـنيـت لـذّاتهـا ، والإثـمُ حــلْ
واترك الغادة ، لا تحفل بهـا *** تُمسِ في عـزّ رفـيع ، وتُجَـلْ

فالطغرائي يدخل علينا بالأمر : اعتزل ودع واترك ولاتحفل .. والأمر الكثير منفـّر، لا أرتاح له . ويطلب إلينا أن نعتزل النغم والشدو ، وهو سجية من سجايا الإنسان التي جبل عليها ،، وربما أراد التخفيف منها لا تركها بالكليّة ، إلا أنه – برأيي لم يوفق في ذلك .. كما أنه يأمر بنسيان الماضي – أيام الصبا والجمال – ومن منا يرضى أن ينسى أحلى أيام حياته – الشباب - ؟ وعلام ينساه ، والشباب جنة الحياة ونسغها النضير المتفجر بالحيوية والقوة ؟! وهل الحياة إلا ذكرى وحاضر ومستقبل ؟ ولا يقوم الأخيران إلا على الماضي .. ولئن أفل الماضي إنه ليعيش فينا ، ونتنسمه مسكاً وريحانا .
ومن قال إن الإثم ملازم أحلى أيام قضيناها ؟! وهل بالضرورة أن يكون السعد بما يغضب الله تعالى ؟! إنها لأفكار شيطانية لا يقول بها إلا من انغمس شبابـَه بالأخطاء ، فلما كبر وعقل ذهبت النشوة وجاءت الحسرة ، وقد كان حياتنا في صبانا طيبة النشر عبقة الرائحة ، ولم يكن فيها إثم بفضل الله ورعايته ، إنما كانت في مرضاة الله وطاعته ، ولئن ذهبت لذات الشباب إن للكهولة والشيخوخة وكل مراحل الحياة لذاتٍ خاصة بها ، تناسبها ويسعد الإنسان بها . ولو ذهبت اللذات كما يدّعي الطغرائي لانقلبت حياة الناس جحيماً . ولطلبوا الموت
وعلى هذا تراه يطلب التحول عن الغادة وعدم الاهتمام بها ، وكأن اللذات عنده مادية فقط ! ولمَ لا تكون الزوجة – مثلاً – غادة الرجل ؟ ولماذا ينصرف الرجل عن المرأة الصغيرة أو الكبيرة مادام يرى في نفسه الرجولة ؟ أليس في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم منارات وقدوة في كل مناحي الحياة ؟! .
وتعال معي إلى أبياته التالية تخجل من التصوير الذي رسمه للغلام الأمرد في غير موضعه ، وسمّه إن شئت تكلفاً ولزوماً من الشاعر لا يلزم :

والـْـهُ عـن آلـة لـهــو أطـربـتْ *** وعن الأمـرد مـرتجّ الكفـلْ
إن تبَدّى تنكسف شمسُ الضحى *** وإذا ما ماس يُزري بالأسلْ
زاد إن قـسـنــاه بالـبـدر ســنــا *** أو عدلنـاه بغصن فـاعتـدل

فهو يسمح لنفسه أن ينظر إلى ارتجاج كفل الفتى فيصوره ، وإلى صباحة وجهه الأمرد ، وجعل جماله يفوق الضوء الشمس ، وميلانه في مشيته ممشوقاً يزري بليونة الرماح النضرة ، وهو أجمل من القمر.. و .. صور مبتذلة تثير التقزز ، وتقدح بالمعنى الذي يتلوه مباشرة :
وافتكـر في منتهى حسـن الذي أنت تهـواه تجد أمراً جـلـلْ
قد انتقل من الأسود إلى الأبيض مباشرة ، فأحرق الصورة الثانية بما أثار من شهوات في الصورة الأولى .
لم أكن أخالف صاحبي كثيراً فيما قاله ، فنحن من مدرسة نقدية واحدة ، وكثيراً ما سمع مني وسمعت منه ، فكنا متقاربين في النظرات ، نتغاضى عن ثانويات ما نختلف فيه .
قلت هات ، فأنا مصغ إليك .
قال : ويقول الطغرائي في الدنيا :

اطـرح الـدنـيـا فمن عـاداتهـا *** تخفض العالي وتعطي من سفلْ
كم جهـول بات فـيهـا مكـثـراً *** وعــليـم بـات مـنهــا فـي عـلـلْ
فـاتـرك الحيـلـة فيهــا واتـئـد *** إنمـا الحـيـلـة في تـرك الحـيــلْ

فالشاعر الطغرائي يرى الدنيا على حقيقتها ، ويعلم أن الرزق مقسوم ، وليس للذكاء و" الفهلوية " دور في الحصول على الرزق ، والله تعالى يقول " وفي السماء رزقكم ، وما توعدون " ويؤمن بقوله تعالى " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " فيطلب الشاعر أن ندع الاهتمام بتحصيل المال ونبتعد عن التحايل له .
قلت : ثم ماذا؟
قال : يقول الشاعر بعدها :

اكتـم الأمريـن فـقـراً وغنى *** واكسب الفلس وحاسب من بطلْ

فنصح بالعمل والبحث عن المال !
قلت لم يتعدّ أن فعل ما أمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم .
قال كيف ؟
قلت : ألم يأمر الشاب الذي طلب مساعدة - ورآه جلداً- أن يحتطب ، وقال صلى الله عليه وسلم " لأَن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل ، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره ، فيبيعها ، فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطَوه أو منعوه "
ثم اقرأ ما قاله متألماً من عصره ومن أيامنا هذه - لو كان حياً – إذ رأى الناس يعظمون صاحب المال ويقدمونه على الفقير :

غيـر أني في زمان من يكن *** فيـه ذا مـال هـو المولى الأجـلّ
واجب عنـد الـورى إكرامُـه *** وقـلـيــل المـال فـيهـم يُســتـقــَلّ

ثم يعلن ما ينبغي أن يكون بحق : أن صاحب الفضل لا يعيبه قلة المال أبداً :

لا يضر الفضـلَ إقلال كمـا *** لا يضر الشمس إطبـاق الطفـلْ

قال صاحبي : لم أكن أقصد التعالم أو النيل من الشاعر رحمه الله ، فحسبه كرامة أن أجرى الله تعالى قصيدته هذه بين الناس ، فعرفها القاصي والداني على مر القرون ، وأفادوا منها ، إلا أنني أتساءل ليس غير وأريد الوصول إلى الحق .
قلت هات غيرها يا صاح ،
فقال : ينهى الشاعر الناس أن يفخروا بجدودهم وأصولهم ، ويحضهم على الاعتماد على أنفسهم كي لا يكونوا خاملين فيقول :

لا تقل : أصلي وفصلي أبداً *** إنما أصل الفتى ما قد حصل
قد يسود المرء من غير أب *** وبحسن السبك قد ينفى الدغل
قـيـمـة الإنـسـان ما يحـسنـه *** أكثـرَ الإنـسانُ مـنـه أو أقــَلّ

ثم تراه بعد ذلك يفخر أنه من نسل الصديق رضي الله عنه فيقول :

غـيـر أني أحمد الـلـه عـلى *** نسـبي ، إذ بأبي بكـر اتصلْ

قلت لا ضير أن يعتمد الرجل على نفسه ، ثم يحمد الله تعالى أنه ينتسب إلى رجل عظيم كالصديق رضي الله عنه ، فيكون قد جمع بين الحسنيين ، العمل الصالح والنسب الأصيل .
ثم رأيت صاحبي ينظر إليّ بعين العتب ، فقلت : مالك ؟
قال : شكوتُ من بعض الأفكار ابتداء وظننت ُ أنها غير ناضجة ليس إلا .
قلت : أبقي شيء ؟
قال : نعم ، واحدة .. ترى الشاعر ينصح ، ونصائحه رائعة ، إلا أنه يفخر بنفسه ويعتد بها مع تحد واضح ، وهذا من الناصح المعلم ممجوج ، كقوله :

أنـا مثـل المـاء سـهـل سـائغ *** ومتـى أســخـَنَ آذى وقـتــلْ
أنا كالخيـزور صعب كسـرُه *** وهْـو لـَدنٌ كيفما شئت انفتل

قلت : لا تنس يا صاح أن من نصائحه التي أعجبتنا أن يحني الإنسان رأسه للإعصار القوي المدمر ليسلم منه ، ينحني لا عن ذل وضعف إنما عن حكمة وتبصر حين قال :

جانب السلطان واحذر بطشه *** لا تعـانـد مَن إذا قـال فعـلْ

ومن ذلك مداراة السفيه وعدم مصادمته والصبر عليه ، أو الانتقال عنه دون مشاكل :

دار جار السوء بالصبر وإن *** لم تجد صبراً فما أحلى النقلْ

فلربما ظن قارئ القصيدة ومن سمعها ضعف الشاعر وخوره ، فهو ينفي عنه ذلك ، ويؤكده قولُ المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه " ليس الشديد بالصّرَعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب . " ألم يصبر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بطل الأبطال على أذيَة قومه ، وإساءاتهم ؟ فلا بد من الصبر على الحياة والناس بقوة وحكمة وشجاعة ...

 

أدبـيـات
  • هذه أمتي
  • قصائد وعظية
  • منوعـات
  • أدبيات
  • قصائد نسائية
  • مسرى النبي
  • حسين العفنان
  • عبدالرحمن الأهدل
  • صالح العمري
  • عبدالرحمن العشماوي
  • عبدالناصر رسلان
  • عبدالمعطي الدالاتي
  • موسى الزهراني
  • د.عبدالله الأهدل
  • د.أسامة الأحمد
  • الصفحة الرئيسية