اطبع هذه الصفحة


قبس من نور النبوة

المؤمـن والفاجـر

الدكتور. عبد الرحمن إبراهيم فودة
أستاذ الأدب المقارن بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة

 
بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد أهلاً بكم إخوتى الكرام فى حلقة جديدة من برنامج "قبس من نور النبوة".
 
خرّج البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"مَثل المؤمن كمثل خامة الزرع، من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت كفأتها بالبلاء، والفاجر كالأَرَزة، صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء".
 
فى هذا الحديث ضرب النبى صلى الله عليه وسلم مثلَ المؤمن فى إصابة البلاء جسدَه بخامة الزرع التى تقلبها الرياح يَمْنَةً ويَسْرَةً، والخامة هى الرَّطْبة من النبات ومثَل المنافق والفاجر بالأَرَزة، وهى الشجرة العظيمة التى لا تحركها ولا تزعزعها الرياح حتى يرسل الله عليها ريحاً عاصفاً قاصفاً فتقلعها من الأرض دفعة واحدة.
 
إنها فضيلة عظمى للمؤمن بابتلائه فى الدنيا فى جسده بأنواع البلاء، وتمييزٌ له عن المنافق والفاجر بأنه لا يصيبه البلاءُ حتى يموت بحاله، فيلقى الله بذنوبه كلِها، فيستحقَ العقوبة عليها.
 
ولقد تضافرت نصوص كثيرة فى تكفير ذنوب المؤمن بالبلاء والمصائب، منها ما رواه الشيخانِ من حديث عائشة رضى الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : "ما من مصيبة تصيب المسلمَ إلا كفّر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها".
وقولُه صلى  الله عليه وسلم فى الصحيحين أيضًا "ما يصيب المؤمنَ بلاءٌ ولا نصبٌ ولا وَصبٌ ولا هَمّ ولا حَزَن ولا أذىً ولا غمٌّ حتى الشوكةُ يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه".
فالأسقام والبلايا كلها كفارات للذنوب الماضية، ومواعظ للمؤمنين حتى يتعظوا بها ويرجعوا فى مستقبلهم عن  شر ما كانوا عليه.
ولقد قال الفضيل: إنما جُعلت العلل ليؤدَّبَ بها العباد، ليس كُلُّ مَنْ مَرِضَ مات.
 
أيها المستمع الكريم ... اعلم أن تمثيل المؤمن بالزرع، وتمثيل الفاجر والمنافق بالشجر العظام يشتمل على فوائد، منها أن الزرع ضعيف مستضعف، والشجرَ قوىٌّ مستكْبِر متعاظِم، فالشجر لا يتأثر من حرٍ ولا برد، والزرع بخلاف ذلك. وهذا هو الفرق بين المؤمنين والكافرين، وبين أهل الجنة وأهل النار.
ورد فى الصحيحين من حديث حارثة بن وهب عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أخبركم بأهل الجنة وأهل النار ؟ أهل الجنة كل ضعيف متضعـف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عتُلٍ جوّاظ مستكبر، والجوّاظ هو الجموع المنوع المُختال فى مشيته.
وقد ورد فى القرآن تشبيهُ المنافقين بالخُشُب المسندة قال تعالى:
"وإذا رأيتهم تعجبُك أجسامُهم وإن يقولوا تَسمعْ لقولهم كأنهم خُشُبٌ مسنَّدة" [المنافقون 4] فوصفهم بحُسن الأجسام وتمامها، وحسن المقام والفصاحة حتى يُعجِبَ منظرُهم مَنْ يراهم، ويُسمَعُ قولُهم لمن سمعه سماعَ إصغاء وإعجاب به، ومع هذا فبواطنهم خرابٌ، ومعائنهم فارغة، فلهذا مثّلهم بالخشب المسندة التى لا روح لها ولا إحساس، وقلوبهم مع هذا ضعيفة فى غاية الضعف (يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم)[المنافقون 4].
 
أخى المستمع .. إن قوة قلب المؤمن فى ثباته علىالإيمان، فالإيمان الذى فى قلبه مثلُه كمثل شجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها فى السماء، فيعيش على الإيمان ويموت ويبعث عليه. وإنما الرياح ـ وهى بلايا الدنيا ـ تقلِّب جسمَه يمنة ويسرة، وأما قلبُه فلا تصل إليه الرياح لأنه محروسٌ بقوة الإيمان، فالتمثيل بالزرع لجسده لتوالى البلاء عليه، والتمثيل بالنخلة لإيمانه وعمله وقوله.
= لكن المنافق والفاجر والكافر بعكس ذلك: جسمه قوى لا تقلبه الرياح، وأما قلبه فإنه ضعيف تتلاعب به الأهواء المضلة، فتقلبُه يمنة ويسرة فلذلك كان مَثَلُ قلبه كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
 (إن الرياحَ إذا عَصَفْنَ فإنما  ***  تُولِى الأذيّةَ شامخَ الأغصان)
 
أخى الكريم .. من فوائد تمثيل المؤمن بالزرع أيضاً أنه يمشى مع البلاء كيفما مشى به فيلين له فيقلبه البلاءُ يمنة ويسرة، فكلما أداره استدار معه فتكون عاقبتُه العافيةَ من البلاء وحسنَ الخاتمة، ويُوقى ميتةَ السوء ولقد أحسن القائل:
مَنْ أخملَ النفسَ أحياها وروّحَها  ***  ولم يَبِتْ طاوياً منها علـى ضَجـَرِ
إن الرياحَ إذا اشتدتْ عواصفُها ***    فليس تَرْمِى سوى العالى من الشجر
 
ومن فوائد تمثيل المؤمن بالزرع أن الزرع وإن كان له طاقةٌ ضعيفةٌ ضئيلةٌ فهو يتقوّى بما يخرج معه وحولَه ويَعتضد به، بخلاف الشجر العظام فإن بعضها لا يشد بعضا، وقد ضرب الله تعالى مثل نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابِه بالزرع لهذا المعنى فقال تعالى: (ومثلُهم فى الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه) [الفتح 29] وقد قال عز وجل "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض" [التوبة 71] وقال " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض" [التوبة 67] فالمؤمنون بينهم ولاية وهى مودة ومحبة باطنة، قال تعالى: "إنما المؤمنون إخوة" [الحجرات 10] لأن المؤمنين قلوبهم على قلب رجل واحد فيما يعتقدونه من الإيمان. أما المنافقون فقلوبهم مختلفة "تحسبهم جميعا وقلوبهم شَتَّى" وذلك لأن أهواءهم مختلفة، ولا ولاية بينهم فى الباطن، وإنما بعضهم من جنس بعض فى الكفر والنفاق.
 
ومن الفوائد أيضاً أخى المستمع ـ أن الزرع ينتفع به بعد حَصَادِه، فإن أصحابه يحصدونه ثم يبقى منه ما يلتقطه المساكين، وترعاه البهائم، وربما أخرج بعضه نباتا مرة أخرى، وهكذا المؤمن يموت ويُخلِّف ما يُنتفع به من علم نافع أو صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له.
 
أما الفاجر فإذا اقْتُلِعَ من الأرض لم يبق فيه نفع، بل ربما كان أكثَر ضرراً، فهو كالشجرة المنجعفة لا تصلح إلا لوقيد النار.
 
ومن الفوائد أن الحَبَّ الذى ينبت من الزرع هو مؤنة الآدميين، وغذاء أبدانهم، وسبب حياة أجسادهم، فكذلك الإيمان هو قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وسبب حياتها، ومتى فقدته القلوب ماتت، وموت القلوب لا يُرجى معه حياة أبداً، بل هو هلاك الدنيا والآخرة.
ليس من مات فاستراح بميْتٍ      ***      إنما الميْتُ ميِّتُ الأحياء
فلذلك شبه المؤمن بالزرع حيث كان الزرع حياة الأجساد، والإيمان حياة الأرواح، ومن الأشجار ما لا يتضرر بفقده، فلذلك مُثِّل الفاجر والمنافق به لقلة نفع ثمره.
 
والله أعلم ومنه الهداية والتوفيق
وإلى اللقاء
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
 

 عبد الرحمن  فودة
  • قبس من نور النبوة
  • الصفحة الرئيسية